أرخبيل الفزع (34)

■قاطع التنفس و دراماتولوجيا الرحيل ♢
( إلى الطيب العلمي العدلوني ، مربي نحل الصداقة الصافية )
دعوني أقدم لكم نفسي . إسمي الكامل عبد الخالق الرحماني .
أبلغ من العمر خمسا وعشرين سنة . عازب . أعيش بمعية والدي في منزل العائلة.
حاصل على الإجازة في الأدب الفرنسي بميزة مستحسن ،
و معطل منذ عامين تقريبا. قرأت مؤخرا على شبكة الأنترنيت، إعلانا مختصرا ل ” شركة كورونا لتشغيل الكفاءات “،
يطلب عاملين في المجال الطبي من دون كفاءة أو خبرة سابقتين . ولأنهم يعرضون راتبا لابأس به ،
كما أن المجال المقترح كثيرا ما استهواني منذ مراهقتي، تحمست من فوري للأمر ،
ثم تقدمت في اليوم الموالي لإجراء مقابلة التوظيف مصحوبا بسيرتي الشخصية شبه الخالية من أية أهلية أو جدارة .
و رغم إضطرابي، مر كل شيء على أحسن وجه ، إلى درجة أن اللجنة إلتمسوا مني توقيع العقد الرسمي مباشرة
عند نهاية المقابلة . وفعلا كان الأمر كذلك ، غير أني لما رجعت إلى البيت و أنا أعيد قراءة بنود العقد المفصلة في عشر صفحات بالتمام والكمال ، وقعت عيناي على هذه الجملة الغامضة ، التي لم أنتبه لها في حينها :
” إن المستخدم الجديد ملزم بشكل إجباري غير قابل للمراجعة على تولي مهنة :
( قاطع تنفس).وفي حالة الامتناع ، تقع عليه العقوبات الجزرية التي تنظمها مدونة القانون الجنائي ” .
بالطبع ، لم أدرك المعنى المقصود من كافة هذا الإبهام المتوعد ، بيد أني لما استهللت مهمتي في اليوم اللاحق ، أفهمني أحد المؤطرين أن إختصاصي له ارتباط وثيق بقسم العناية المركزة ، و يتمثل في مساعدة مرضى الحالة الإنباتية المستدامة . ولما طلبت توضيحات أكثر ، أردف المؤطر وهو يرسم ابتسامة غامضة على محياه ، بأن حرفتي هي وقف كل من الدورة الدموية والتنفس للحالات الميؤوس منها بين صغوف المصابين ب ” كوفيد -19″.
بقيت حائراً مثل برغي ضائع من ترس آلة جبارة ، وقبل أن أستوعب جيدا ما سمعت ، إنتصبت قبالتي ممرضة جميلة شقراء ، ثم أخذت تشرح لي لائكة المستكة الرجراجة بين أسنانها الناصعة الملطخة بأحمر الشفاه ، بالتفصيل المسهب القوانين الناظمة والإجراءات التقنية لعملية اجتثات الهواء الإصطناعي، بعد التلف التام لأعصاب و عضلات الجهاز التنفسي. كما أعلمتني بأنه من مسؤولياتي الأساسية هو الإخراج النهائي اللائق للحظة انفصال روح العليل المفورس عن جسده . وذلك بإسبال الستائر السوداء. بإخماد رنين جهاز الإنذار الزعاق .بوضع مزهرية زهور ” أبواق الملائكة ” الأرجوانية على ” الكومودينو ” الجانبي للسرير . ببث الموسيقى الصامتة المحببة لوشيك الرحيل داخل حجرة الموت . بحمل الهاتف الجوال إلى آذان المرضى كي تصلهم الكلمات الأخيرة لأهلهم و أحبتهم. ثم أخيرا الإمساك بأياديهم الباردة حتى يتسرب آخر نبض من أبدانهم و إسدال أعينهم الضارعة الإسدالة الختامية . بما يعني “دراماتولوجيا ” كاملة لطقوس الحتف و ” سينوغرافيا ” منظمة لشعائر النحب. سلمتني الممرضة إضبارة البرنامج اليومي ، متفضلة بمنحي قطعة بائتة من علكة ” كلوريتس” ، ثم تمنت لي حظا طيبا. ألقيت على الإضبارة نظرة خاطفة ، فتبين لي بأنه يتوجب علي أن أقطع التنفس خلال هذا اليوم على حوالي ثلاثين مرشحا للهجرة نحو ضفاف العالم الآخر. رحماك يارب العباد ، أكل هذا الكدح في تدبير سوء الخواتم و تجميل قبح المنايا من أجل ثلاثة آلاف درهم، مجردة من التأمين و الضمان الإجتماعي و التعويضات الأسرية ؟ قلت بيني وبين نفسي وأنا أمسك بجماع رأسي فوق مقاعد الإنتظار في رواق المستشفى . قد أكون قاطع الماء والكهرباء في الوكالة المستقلة للتوزيع دون أن أحس بذرة ذنب أو بحسرة المستهلكين . قد أكون قاطع أرحام فأقبل اللعنة و الصمم و عماء البصيرة. قد أكون قاطع زجاج فأتحمل جرح المادة الشفافة . قد أكون قاطع أرزاق فأطيق أن تخجل نفسي مني خجلا شديدا يصل إلى حد مقاطعة كلامي .قد أكون قاطع بطاطا في محل ” بوكاديوس” ولا أهتم بتاتا بإنتهاء صلاحية زيت القلي غامق اللون .قد أكون قاطع إرسال مباراة حاسمة لفريق ريال مدريد فأتجلد على شتائم الأنصار المتقدين شغفا . قد أكون قاطع الخيزران في لفيفة حكائية يابانية قديمة و أتغاضى عن دموع الرضيعة ” كاغوياهيم ” وسط تجويف الشجرة المظلم . قد أكون قاطع صلاة.قاطع طريق. قاطع سياج.قاطع ” وردة ميلتون ” من حديقة ” بورخيس” الشعرية . قاطع حبل الغسيل أو الوريد أو المشيمة .
قاطع أياد أو رؤوس أو أظفار طويلة متسخة. قاطع تذاكر في السوق السوداء. قاطع نزيف العدو أو حس قط الجيران ،
لكني لن أكون البتة قاتلا بريئا أو غير مذنب مثل زهور ” أبواق الملائكة ” الخلابة السامة .
لن أكون على الإطلاق قاطع تنفس ،
لأنها ببساطة أحقر مهنة في التاريخ الحديث للإنسانية!

04/05/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top