جيوفاني فيرجا
ترجمة د.شيرين النوساني
أثناءَ سيرِه بمحاذاةِ بحيرةِ بيفييري لينتيني، الممتدَّةِ هناك كقطعةٍ من بحرٍ ساكنٍ، وبجوارِ الأراضي القاحلةِ في سهلِ كاتانيا،
وأشجارِ البرتقالِ الدائمةِ الخُضرةِ في فرانكوفونتي، وأشجارِ البَلّوطِ الرماديةِ في تِلالِ ريسكوني، ومراعِي باسانيتو وباسانيتيلو المُجدبةِ،
تساءلَ الرَّجلُ، ليَقتلَ رتابةَ الطريقِ التُّرابيِّ الطويلِ، تحتَ قيظِ السماءِ المُلبَّدةِ بالغيومِ، في الوقتِ الذي كانت تدقُّ فيه أجراسُ نَقالاتِ الموتى الكئيبةِ عبرَ الحقولِ الشاسعةِ، وتُدْلِي البِغالُ رؤوسَها وأذيالَها، ويُنشِدُ الحَمَّالون أنشودتَهم الحزينةَ لِئلّا يَغلبَهم نُعاسُ الملاريا:
– لِمَن كلُّ هذا؟
فأجابوه: – هذه أملاكُ ماتسارو.
وأثناءَ مرورِه بالقربِ من مزرعةٍ متراميةِ الأطرافِ بحجمِ مدينةٍ، تبدو المخازنُ فيها وكأنّها كنائسُ، وتسيرُ الدجاجاتُ في جماعاتٍ تتفيَّأُ ظلَّ البئرِ، وتُظلِّلُ النساءُ أعيُنَهُنَّ بأيديهنَّ ليتبيَّنَّ مَن المارُّ، كان يتساءل:
– وهذه، مِلكُ مَن؟
– هذه أملاكُ ماتسارو.
ويمضي في طريقِه ويستكمِلُ السَّيرَ، بينما تُثقِلُ الملاريا عينيه، ويرتعدُ على أثرِ نباحِ كلبٍ مُباغِت،
في أثناءِ مرورِه على مقربةٍ من حقلِ كُرومٍ غيرِ محدودِ الأرجاءِ، تمتدُّ مساحتُه عبرَ التَّلِّ وعبرَ السَّهلِ،
رابضًا في ثباتٍ، كأنّما قد أثقلَهُ الغبارُ، وحيثُ يستلقي الرَّاعي على بطنِه بجانبِ النهرِ، قربَ الوادي، يرفعُ رأسَه بنُعاسٍ، وقد فتحَ عينًا واحدةً ليتفقَّدَ القادمَ نحوه:
– هذه أملاكُ ماتسارو.
ثم يُواصِلُ السَّيرَ حتَّى يصلَ إلى بُستانِ زيتونٍ كثيفِ الأشجارِ، كأنَّه غابةٌ، لا ينبتُ فيها العُشبُ قطُّ، بينما يستمرُّ فيه الحصادُ حتَّى آذار. إنَّه بُستانُ زيتونِ ماتسارو.
وعندَ قُربِ المساءِ، حينما تغربُ الشمسُ فتَصيرَ حمراءَ بلونِ جَمرِ النَّارِ، وتَغشى الكآبةُ الأرضَ،
تَلتقي صفوفُ آلاتِ الحَرْثِ الطويلةِ، التي يمتلكُها ماتسارو، على طريقِ عودتِها البطيئةِ من الأراضي البُور، والثيرانُ التي تَعبُرُ المجرى المائيَّ ببطءٍ، وقد وضعت خُطومَها في الماءِ العَكِر؛
وفي مراعِي كانزيريا البعيدةِ، على المُنحدراتِ القاحلةِ، تظهرُ من مسافةٍ بعيدةٍ في صورةِ بُقَعٍ بيضاءَ كبيرةٍ، قُطعانُ الماشيةِ التي يمتلكُها ماتسارو؛ وفي الوِدْيانِ يتردَّدُ صدى صوتِ صفيرِ الراعي، وتُسمَعُ دقّاتُ أجراسِ الماعزِ بين الحينِ والآخر، وصوتُ غناءٍ مُنفردٍ ضائعٍ يتردَّدُ في الوادي.
– كلُّها أملاكُ ماتسارو.
بدا وكأنَّ الشمسَ التي تغربُ، وحشراتِ السِّيكَاد التي تَطَنطِنُ، والطُّيورَ التي تَختبئُ في الأرضِ بعدَ تحليقٍ قصيرٍ، وصفيرَ البومَةِ في الغاباتِ، هي أيضًا أملاكُ ماتسارو. بدا وكأنَّ ماتسارو قد تمدَّدَ بجسمِه الضخمِ في كلِّ مكانٍ فوقَ هذه الأرضِ الشاسعةِ، وكأنَّ الناسَ يسيرونَ على بطنِه.
غيرَ أنَّ ماتسارو كان مجردَ رجلٍ مُثيرٍ للشفقةِ؛ لو رأيتَ هيئتَه، كما يقولُ الحَمّالُ،
لم تكُنْ لتعطيه حتَّى “قرشًا” واحدًا. كان الشيءَ الوحيدَ الضخمَ لديه هو “كَرْشُه”، وليس ثمَّةَ مَن يعرفُ كيفَ كانَ يملؤه؛ فهو يَقتاتُ فقط على كِسرةِ خبزٍ صغيرةٍ. ورغمَ أنَّه فاحشُ الثراءِ كخِنزيرٍ مُسمَّنٍ، كان ذلك الرَّجلُ يتمتَّعُ بعقلٍ كقطعةٍ من الماس، واستطاعَ، بفضلِ هذا العقلِ الراجحِ، الذي يَزِنُ بميزانِ الذهب، أن يجمَعَ كلَّ هذه الأملاكِ، التي كان يأتي إليها، في السَّابق، فيَشقُّ الأرضَ، ويُشَذِّبُ الأشجارَ، ويَجني المحصولَ،
منذ طُلوعِ الصبحِ وحتى حلولِ المساءِ، ويَعملُ تحتَ لهيبِ الشمسِ وسقوطِ المطرِ وهبوبِ الرياحِ، حافيَ القدمينِ، دونَ غطاءٍ يحميه، أو حتى مِعطفٍ بالٍ يَقيه.
أمَّا الآن، فجميعُ مَن كانوا يُوجِّهونَ له الرَّكلاتِ في مُؤخِّرتِه،
صاروا، هم أنفسُهم، يُنادونه بلقبِ “عالي المقام”، ويُحدِّثونه وهم يرفعونَ لهُ القُبَّعات.
لكن، مع كلِّ هذا، لم يأخذْه الزَّهْوُ، رغم أنَّ كلَّ “أصحابِ المقاماتِ الرفيعةِ” في المدينةِ قد استدانوا منه. وكان يُردِّد دائمًا أنَّ لقبَ “عالي المقام” يرتبطُ بـ”الشخصِ الفقيرِ” و”الشخصِ المُتعثِّرِ في سدادِ الديون”، أمَّا هو، فقد استمرَّ في وَضعِ طاقيةِ رأسِه،
التي صارت فقط طاقيةً من الحريرِ الأسودِ، فكانت الشاهدَ الوحيدَ على عُلُوِّ شأنِه، وإنْ بلغَ به الحالُ، في نهايةِ المطافِ،
أن يرتديَ طاقيةً من اللِّبَاد، لأنَّها أقلُّ ثمنًا من قبعةِ الحرير.
حَظِيَ ماتسارو من الأملاكِ بما تعجزُ العينُ عن بُلُوغِ رؤيته؛ فأملاكُه في كلِّ مكانٍ: إلى اليمينِ،
وإلى اليسارِ، في الأمامِ، وفي الخلفِ، وفوقَ الجبالِ، وأعلى السهولِ.
وما يربُو على خمسةِ آلافٍ من الأفواهِ، دونَ احتسابِ الطُّيورِ التي تَطيرُ في السماءِ، والحيواناتِ التي تَرعَى في الأرضِ، جميعُهم يأكلونَ من ثمارِ أراضيه، دونَ احتسابِ فَمِه هو، الذي يَكتفي بأقلِّ القليلِ، ويقنَعُ بكِسرةِ خبزٍ وقطعةِ جبنٍ، يتناولُها على عَجلٍ،
وهو واقفٌ على قدمَيهِ في إحدى زوايا المخزنِ المُترامِي الأطرافِ كالكَنيسةِ، وسطَ غُبارِ الحُبوبِ الذي يَحجبُ الرُّؤيةَ، بينما يقومُ الفلّاحونَ بإفراغِ جوالاتِ القمحِ، أو بالقربِ من حَظيرةِ القَشِّ، بينما تَجرفُ الرِّيَاحُ الأرضَ المُتجمِّدةَ في وقتِ وضعِ البذورِ، أو بينما يَضعُ رأسَه بداخلِ إحدى السِّلالِ، في أيّامِ الحصادِ شديدةِ القيظِ.
لم يكنْ ماتسارو ممَّن يحتسونَ النبيذَ، أو يُدخِّنونَ السجائرَ، أو ممَّن يستخدمونَ التبغَ،
رغمَ أنَّ حقولَه المُطِلَّةَ على ضفافِ النهرِ تُنتِجُ التبغَ بأوراقِه الواسعةِ، التي يَبلُغُ ارتفاعُها طولَ صبيٍّ يافعٍ، وتُباعُ بثلاثٍ وتسعينَ “جنيهًا”.
لم يكنْ أسيرًا للعبِ الورقِ، ولا حتى شغوفًا بالنساءِ، بل إنَّه لم يَحمِلْ على عاتقِه عبءَ أيِّ امرأةٍ قطُّ، سوى أُمِّه، التي كلَّفَتْه اثني عشرَ ريالًا حينَ اضطُرَّ لحَملِها إلى حيثُ مثواها الأخير.
فَكَّرَ مَاتْسَارُو… فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ، فَكَّرَ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ “الْأَمْلَاكِ” عِندَمَا كَانَ يَذْهَبُ لِلْعَمَلِ، حَافِيَ الْقَدَمَيْنِ، فِي الْأَرْضِ
الَّتِي صَارَتْ فِيمَا بَعْدُ مِلْكًا لَهُ، وَبَعْدَ أَنْ ذَاقَ الْمَرَارَةَ الَّتِي يَتَكَبَّدُهَا فِي سَبِيلِ كَسْبِ ثَلاثَةِ رِيَالاتٍ فِي الْيَوْمِ، تَحْتَ لَهِيبِ تَمُوزَ، حِينَ يُخَفِّضُ ظَهْرَهُ طِوَالَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَاعَةً كَامِلَةً، وَلَوْ حَاوَلَ أَنْ يَعْتَدِلَ لِلَّحْظَةِ وَاحِدَةٍ، يَضْرِبُهُ مُلَاحِظُ الْأَنْفَارِ بِالْعَصَا مِنْ فَوْقِ الْجَوَادِ الَّذِي يَعْتَلِيهِ.
وَلِأَجْلِ كُلِّ هَذِهِ الْمُعَانَاةِ، لَمْ يَدَعْ لَحْظَةً وَاحِدَةً مِنْ حَيَاتِهِ تَمُرُّ إِلَّا وَاسْتَخْدَمَهَا فِي جَمْعِ الْمَالِ؛
حَتَّى صَارَتْ آلَاتُ الْحَرْثِ الَّتِي يَمْتَلِكُهَا كَثِيرَةَ الْعَدَدِ، مِثْلَ أَسْرَابِ الْغُرْبَانِ الَّتِي تَصِلُ فِي تِشْرِينِ الْأَوَّلِ، وَصُفُوفٍ أُخْرَى غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ مِنَ الْبِغَالِ الَّتِي تَحْمِلُ بُذُورَهُ، وَالنِّسَاءِ الّلَاتِي كُنَّ يَجْثِمْنَ فِي الْوَحْلِ، مِنْ تِشْرِينِ الْأوَّلِ حَتَّى آذارِ، لِقَطْفِ حَبَّاتِ زَيْتُونِهِ، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُ أَعْدَادِهِنَّ،
كَمَا يَتَعَذَّرُ حَصْرُ أَعْدَادِ الْغُرْبَانِ الَّتِي تَأْتِي لِسَرِقَةِ حَبَّاتِ الزَّيْتُونِ؛ وَفِي وَقْتِ جَمْعِ الْعِنَبِ، كَانَ الْقُرويون يَهْرَعُونَ مِنْ كُلِّ الْقُرَى إِلَى مَزَارِعِهِ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ تُسْمَعُ أَصْوَاتُ الْغِنَاءِ فِي الْحُقُولِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ حَصَادِ الْعِنَبِ فِي مَزَارِعِ مَاتْسَارُو.
وعندَ وقتِ الحصادِ، كانَ مشهدُ العاملينَ في أراضيهِ أشبهَ بجيشٍ جرارٍ من الجنودِ، وحريٌّ بهِ أن يتولى أمرَ هؤلاءِ جميعًا بتوفيرِ المخبوزاتِ في الصباحِ، والخبزِ والبرتقالِ المرِّ على الفطورِ، ثمَّ وجبةٍ خفيفةٍ، وبعدَ ذلكَ المعكرونةِ على العشاءِ، الأمرُ الذي يكلفهُ أكوامًا من النقودِ.
وكانَ يتمُّ تقديمُ المعكرونةِ على طاولاتٍ كبيرةٍ كأحواضِ مياهِ الريِّ.
ولهذا السببِ، فهو الآنَ، حينَ يعتلي ظهرَ فرسِه خلفَ صفوفِ الحاصدينَ، ممسكًا بعصاهُ في يدهِ، لا تغفلُ عيناهُ عن أيِّ شخصٍ فيهم ويحرصُ أن يرددَ على مسامعهم في صوتٍ خفيضٍ: “اخفضوا ظهوركم، يا أولادَ!” فهو يضعُ يديه طوالَ العامِ في جيبِ سترتهِ ينفقُ أموالًا دونَ توقفٍ، والملكُ يتقاضى مقابلَ العزبةِ الوحيدةِ التي لا تزالُ في حوزتهِ الكثيرَ من الأموالِ، فيقعدُ ماتسارو في كلِّ مرةٍ مريضًا محمومًا.
لكنَّ في كلِّ عامٍ، كانت تلكَ المخازنُ واسعةَ الأرجاءِ كالكنائسِ تمتلئُ عن آخرِها بالقمحِ إلى الحدِّ الذي يتطلبُ أن يُفتحَ السقفُ لكي يتسعَ لها؛ وفي كلِّ مرةٍ يبيعُ فيها ماتسارو النبيذَ، كان يستغرقُ أكثرَ من يومٍ لعدِّ العملاتِ النقديةِ، التي تتكونُ جميعها من فئةِ اثني عشرَ ريالًا من الفضةِ،
فهو يرفضُ أن يتقاضى أوراقًا ماليةً باليةً ضمنَ ثرواتهِ، وكان يذهبُ لشراءِ العملاتِ الباليةِ فقط حينَ يضطرُّ لدفعِ الأموالِ للملكِ أو لآخرينَ؛ وفي الأسواقِ، كانت قطعانُ مواشيِ ماتسارو تغطي كافةَ الأرجاءِ، وتسدُّ الطرقاتِ، ويستغرقُ مرورها نحوَ نصفِ يومٍ، حتى أنَّ القديسَ وجماعتهُ كانوا يضطرونَ في بعضِ الأحيانِ لتبديلِ الطريقِ الذي اعتادوا المرورَ بهِ ليفسحوا لها المجالَ.
كلُّ هذهِ الممتلكاتِ جمعها ماتسارو بعرقِ جبينهِ وعملِ يديهِ، وبرجاحةِ عقلهِ، بسهرِ الليالي والأوقاتِ التي قضاها محمومًا حينما كان قلبهُ يرتجفُ خوفًا أو تثقلهُ حمى الملاريا، وهو يكدُّ ويتعبُ من الصباحِ حتى المساءِ، ويجولُ في كلِّ الأنحاءِ تحتَ وطأةِ الشمسِ
وفي ظلِّ المطرِ، يبلى حذاؤهُ وتصابُ بغالهُ بالإنهاكِ — بينما كان هو الوحيدَ الذي لا يبلى، لأنه كان يفكرُ في أملاكهِ، التي كانت هي كلُّ شيءٍ في حياتهِ؛ فهو بدونَ أبناءٍ، ولا أحفادٍ، ولا أقاربٍ؛ لم يكن لديه شيءٌ سوى أملاكهِ. وعندما يكونُ الإنسانُ على هذه الشاكلةِ،
فهذا يعني أنه خُلقَ من أجلِ الأملاكِ. كما يعني أنَّ الأملاكَ خُلِقَتْ من أجلِه، وكأنَّ ثمةَ مغناطيسًا يجذبُ كلَّ منهما للآخرِ، فالأملاكُ تحبُّ أن تكونَ مع من يعرفُ كيف يحتفظُ بها، ليس مع من يهدرها من أمثالِ ذلكَ البارونِ الذي كان في السابقِ وليَّ أمرِ ماتسارو، حين احتضنهُ،
بكلِّ صدقٍ وأمانةٍ، في داخلِ أراضيه، فقد كان حينذاك هو مالكَ كلِّ تلكَ المراعي، وكلِّ الغاباتِ، وكلِّ مزارعِ الكرومِ، وكلِّ تلكَ المواشيِ، وعندما كان يأتي ليتفقدَ أراضيه على ظهرِ حصانهِ مصحوبًا برجالِ الحراسةِ يسيرون خلفهُ، كان يبدو للعيانِ وكأنه ملكٌ متوجٌ،
وكأنَّ الجميعَ يُعدُّون مكانًا لإقامةِ وطعامِ هذا الساذجِ، ذاك الذي يعرفُ الجميعُ موعدَ حضورهِ بالدقيقةِ والساعةِ، فيستحيلُ له أن يباغتَ أحدهم بالجرمِ المشهودِ.
“مثلُ هذا الساذجِ يستحقُّ أن يسرقهُ الآخرون!” كان ماتسارو يرددُ هذه الكلماتِ
وهو يضحكُ بملءِ شدقيه، عندما كان البارونُ يركلهُ في مؤخرتهِ، وهو يتحسسُ ظهرهُ براحةِ يديهِ، ويتمتمُ: “على كلِّ أحمقٍ أن يبقى في بيتهِ!”، “فالأملاكُ لم تُخلقْ لمن يملكها، بل لمن يعرفُ كيف يصنعُها من العدمِ.”
أما هو، فبعد أن جمعَ أملاكهِ، لم يكن بطبيعةِ الحالِ يرسلُ إشعارًا لأحدٍ لينذرهم بموعدِ أو بطريقةِ قدومهِ لمراقبةِ عمليةِ الحصادِ أو جني العنبِ؛ بل كان يباغتهم بالحضورِ، سيرا على الأقدامِ أو على ظهرِ البعيرِ، من دونِ حراسٍ، وهو يحملُ في جيبِ سترتهِ كسرةَ خبزٍ؛
وكان يرقدُ بجوارِ أكوامِ القمحِ، وعينيه مشرعتينِ، يضعُ سلاحهُ بين ساقيهِ.
وهكذا صارَ ماتسارو تدريجيًا مالكًا لكلِّ أراضي البارونِ؛ حيث خسرَ الرجلُ في بادئِ الأمرِ بستانَ الزيتونِ، ثمَّ حقلَ الكرومِ، ثمَّ المراعي، وبعدها المزارعِ، وأخيرًا خرجَ حتى من قصرهِ، فلم يكن يمرُّ عليه يومٌ واحدٌ دونَ أن يوقعَ على أوراقٍ موثقةٍ، ويضعُ ماتسارو عليها ختمهُ بطرفِ إصبعهِ.
ولم يتبقَّ للبارونِ سوى الدرعِ الحجريِّ الذي كان يعلقهُ على بابِ القصرِ، وهو الشيءُ الوحيدُ الذي رفضَ بقوةٍ بيعهُ، وقالَ لماتسارو: “هذا الدرعُ هو الشيءُ الوحيدُ، من بينَ كلِّ أملاكي، الذي لا يناسبك”.
كان البارونُ محقًا في ذلك؛ لأنَّ ماتسارو لم يكن يعرفُ فيما يفيدُ هذا الدرعَ، ولم يكن ليدفعَ فيه ثمنا زهيدًا.
في ذلك الحينِ، كان البارونُ لا يزالُ يخاطبُهُ باسمهِ، لكنه لم يعدْ يركلهُ حينذاك في مؤخرتهِ كما كان الحالُ في السابقِ.
كان الناسُ يقولونَ: “يا له من أمرٍ رائعٍ أن يحظى المرءُ بأملاكٍ كتلكَ التي يمتلكها ماتسارو” وهم لا يعرفونَ ما الذي تكبدهُ من عناءٍ حتى ينعمَ بها: كم من الأفكارِ، كم من المتاعبِ، كم من الأكاذيبِ، كم عددَ مراتِ المخاطرةِ بدخولِ السجنِ،
وكيفَ أعملَ عقلهُ الذي يشبهُ حبةَ ياقوتٍ فريدةٍ طوالَ الليلِ والنهارِ، بصورةٍ أفضلَ من رحى الطاحونةِ، لكي يجمعَ كلَّ تلكَ الأملاكِ؛ وفي حالِ أصرَّ أحدُ ملاكِ الأراضي المجاورةِ على رفضِه بيعَ أرضهِ لهُ وفرضِ شروطٍ مجحفةٍ عليهِ، كان ماتسارو يبتكرُ حيلةً ليجبرهُ على البيعِ،
حتى يقعَ فريسةً لحيلتهِ، على الرغمِ من شكوكِ الفلاحينِ.
فعلى سبيلِ المثالِ، كان يذهبُ إليه مزهوًا بخصوبةِ قطعةِ أرضٍ لا تنتجُ حتى الفولِ، وينجحُ في إقناعهِ بأنها أرضٌ واعدةٌ، لدرجةٍ تدفعُ الفلاحَ المسكينَ إلى استئجارِ قطعةِ الأرضِ رغبةً منهُ في المتاجرةِ بها، فيخسرُ الإيجارَ والبيتَ والأرضَ، ويقتنصها ماتسارو لنفسهِ مقابلَ ثمنٍ بخسٍ.
وكم من المتاعبِ كانت تقعُ على كاهلِ ماتسارو، فما بين مستأجرينَ يتذمرونَ من انخفاضِ إنتاجيةِ المحصولِ، ودائنينَ يرسلونَ نساءهم تشدُّ الشعورَ وتضربُ الصدورَ وتتوسلنَ إليهِ كي لا يلقي بهم في عرضِ الطريقِ، أو يأخذُ منهم بغلهم أو بعيرهم الذي لا يملكونَ
حتى ثمنَ إطعامه. كان يردُّ قائلاً: “انظروا إلي؟ لا آكلُ سوى الخبزِ والبصلِ! رغمَ أنني أمتلكُ كلَّ هذهِ المخازنِ الممتلئةِ، وامتلكُ كلَّ هذهِ الأملاكِ”.
كان، إذا طلبوا منه حفنةً من الفولِ، أو أقلَّ القليلِ مما يملكُ،
يقولُ: “ماذا تظنُّونَ، أنني سرقتهُ؟ ألا تعرفونَ كم كلفتني زراعةَ هذه الأرضِ وحفرها وجمعَ محاصيلها؟” وكان، إذا طلبوا منه نقودًا، يقولُ: “ليس معي نقودٌ.”
حقًّا لم تكن بحوزتهِ أيةُ نقودٍ على الإطلاقِ، إذ لم يكن يحملُ أبدًا في جيبِ سترتهِ عملةً من فئةِ الاثني عشرِ ريالًا، فقد كانت زراعةَ كلِّ هذه الأراضي تتطلبُ الكثيرَ والكثيرَ من تلك العملاتِ، والأموالُ تدخلُ وتخرجُ من بيتهِ كالأنهارِ.
وفضلاً عن هذا، لم يكن المالُ يعني له شيئًا؛ كان يقولُ إنه ليس أملاكًا، وما إن يجمعَ مبلغًا من المالِ حتى يشتري قطعةَ أرضٍ جديدةٍ، كان يريدُ أن يمتلكَ من الأرضِ ما يعادلُ ما يمتلكه الملكُ، وأن يصبحَ أفضلَ منه، فالملكُ ليس بوسعهِ بيعَها، ولا حتى الادعاءَ بملكيتهِ لها.
ثمة شيءٌ واحدٌ فقط يؤلمه، وهو أن العمرَ كان يتقدمُ به،
والأرضُ كانت ستظلُّ في مكانها، رغْمًا عنه. كان يقولُ: “هذا ظلمٌ من اللهِ، فبعدَ أن تفني عمركَ في جمعِ الأملاكِ وما أن تنجحَ في اقتنائها، وترغبُ في جمعِ المزيدِ والمزيدِ، تجدُ نفسك مضطرًّا لتركها!”
كان يقضي ساعاتٍ جالسًا على إحدى السلالِ، يضعُ ذقنه بين راحتيه، يمعنُ النظرَ في كرومهِ التي كانت تثمرُ وتزهرُ أمامَ عينيه، وحقولهِ التي تتماوجُ سنابلها كأمواجِ البحرِ، وبساتينِ زيتونهِ التي تكسو الجبلَ كالضبابِ،
وكلما مرَّ من أمامه صبيٌ صغيرٌ نصفُ عارٍ، قد خفضَ ظهره تحتَ ثقلِ الحملِ الذي يحملهُ، وكأنه حمارٌ متعبٌ، كان يرمقُ عصاهُ بين ساقيه، بدافعٍ من حسدٍ، ويهمسُ: “انظروا إلى من لا يزال أمامه أيامٌ طويلةٌ في الحياةِ! إنه هذا الذي لا يملكُ شيئًا!”
وفي اليومِ المشهودِ، حينما قيل له إنه سوف يتركُ أملاكهِ ويسلمُ روحهُ، خرجَ ماتسارو إلى فناءِ دارهِ كالمجنونِ، يتعثرُ في خطواته، ويضربُ بعصاهِ دجاجاتهِ ودواجنهِ، ويصرخُ بأعلى صوتهِ: – يا أملاكي، تعالي معي!