منذ أن كنت طفلا وانا معجب بالآلات الموسيقية الوترية .. لا أدري حقيقة هذا الإعجاب المبكر ولا أسبابه ، إنما لما اصبحت قادرا على التمييز بين الآلات الموسيقية ، ونحن نستمع إلى الأغاني في مذياع الأسرة الكبير القار ، أخذت هذه الآلات مكانة اكبر في نفسيتي ووجداني .. وأصبحت اميل أكثر إلى سماع الالحان التي يمكن التمييز فيها بين هذه الآلات بسهولة .. وخاصة انغام العود .. ولعل اغاني فناني العرب الكبار ، محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ورياض السنباطي .. الذين كانوا يؤدون اغانيهم مرفقة بالعزف على آلة العود فقط .. زادت من تعلقي به وبحب الاستماع إليه أكثر من غيره من الآلات الموسيقية الأخرى . لقد كانت الكمان والكمنجة والألطو .. آلات وترية لها اصوات جميلة ومتميزة ، لكنها لم تكن في مرتبة العود بالنسبة لي .. كنت معجب بأغاني فناننا حميد الزاهر كذلك ، لإعتماده على العود بشكل أساسي والعزف عليه طيلة مدة الأغنية .. فكانت الأنغام التي تصدر عنه والالحان التي كان يوضبها هذا الفنان الموهوب ، تجعل من العود الآلة الأكثر شهرة وامتاعا . حينما كنت أسمع انغام العود ، كنت اطرب لها واسرح بخيالي في عالمها ، وتسبح روحي مع هذه النغمات الساحرة ، بالرغم من انني لم أكن أفهم مغزاها .. إنما كانت تعجبني وتطربني .. زاد تعلقي بآلة العود حينما كان يجلبها زملاءنا التلاميذ الميسورين ، إبان الأنشطة المدرسية والاستعدادات لإحياء إحتفالات ذكرى عيد العرش ، أو الإحتفال بأبي المئة ، حينما يقترب موعد إمتحان الباكالوريا … كنت أشاهد رفاقي وهم يعزفون أو يقلدون مطربين مشهورين وقتها .. فكنت أقترب أكثر من هذه الآلات والمسها أحيانا وألاحظها عن قرب .. فعلمت منهم أن الأمر يستدعي سلك مسار طويل لأصبح عازفا . يبتديء بالإلتحاق بالمعهد الموسيقي وحضور حصص التكوين الموسيقي ، واختيار الآلة وشرائها للتدرب على العزف عليها .. فتأكدت من أن حلمي تبخر وأنه اصطدم بصخرة الإمكانيات المادية والثقافية .. فلم تكن أسرتي تتوفر على أي منهما .. لجأت إلى صناعة آلة وترية بدائية من ما توفر لدي من أدوات ، وصرت أدندن بها وأعزف على أوتارها وأتخيل نفسي أنني أعزف فعلا . عادة ما كان حلمي ينتهي بمباغثة والدي لي ، فيحطم آلتي لأنني أزعجته أثناء قيلولته ، ثم يرميني بأشلائها وأنا أركد هربا من قبضته وهو يتوعدني بأشد العقاب .. وقتها تأكدت من أنني أحلم فعلا وأتوهم .. وأنني كمن يتبع السراب . لما بلغ إبني من العمر ست سنوات ، ألحقته ، كباقي الآطفال ، بنادي لرياضة فنون الحرب .. فكنا نحن الآباء ، نعجب بأبنائنا وهم يؤدون تلك الحركات الجماعية بلباسهم الموحد الخاص مزينين بأحزمة ملونة .. لكن إبني ضجر من هذه الهواية ، مشتكيا من ضيق القاعة التي يتمرنون فيها ، ومن غلظة وتعسف المدرب عليهم إبان تنفيد الحركات .. فاقترحت عليه بديلا كان قد حدثني عنه زميلي ، وأخبرني بأنه سجل أبناءه الثلاثة في المعهد الموسيقي وأنهم مرتاحون فيه إلى أبعد حد .. فاستجاب إبني لإقتراحي وأخرجت حلمي من مخبئة المظلم ليرى النور هذه المرة حقيقة .. توسطت لنا في عملية التسجيل جارتنا الخدومة ، وهي موظفة في وزارة الثقافة ، لأنه بدون وساطة يتعذر الولوج إلى المعهد الموسيقي .. ! قضى إبني سنتين في الطابق تحت أرضي في تعلم مباديء التكوين الموسيقي ، السولفيج ، في قاعة كانت مخصصة في الأصل لركن السيارات ، لكن القيمين على المعهد أعادوا هيكلتها ، كما أعادوا هيكلة كل طوابق العمارة الأربع للمعهد ، التي كانت منذورة للسكن .. فأصبحت تشبه قاعة الدرس ، وخصصت للأطفال دون سن الثامنة من عمرهم .. بعد نجاحه وانتقاله إلى السنة الثالثة ، السنة التي يصبح للطالب الحق في اختيار آلة موسيقية وإضافة حصص التدرب عليها ضمن برنامج تكوينه الموسيقي .. وقع إختياره ومنذ البداية على آلة الكلارينيت ، وربما كان هذا حلمه هو الآخر ومنذ مدة .. وقد تمسك باختياره وبضرورة اقتناء هذه الآلة .. ولن يتراجع عنها قيد انملة .. ونحن في المعهد أشار إلي الموظف المكلف بتسجيل الطلاب ، بالإتصال بالأستاذة المتخصصة في الكلارينيت .. طلبت منها تعريف إبني بهذه الآلة وإيجابياتها
انظر يا إبني .. مخاطبة ولدي .. هذه الآلة التي اخترت جميلة وأصواتها رقيقة وعذبة ، إنما أنصحك بأن تغيرها بآلة وترية ، حتى إذا بلغت السادسة عشرة من عمرك ، آنذاك ضفها إلى آلتك الوترية ، فتكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد ، لأنها قد تؤثر على حبالك الصوتية وعلى حلقك بالنظر إلى سنك الآن .. شكرتها على نصيحتها وتوجيهها .. واقترحت عليه مرة أخرى آلة العود فقبل .. فأعجبت بقبوله وسعدت به ، وأصبحت أحلم من جديد بقرب تحقيق حلمنا … قضى إبني سنته الأولى في العزف على العود مع معلمة لم تكن تعطي قيمة تذكر لتكوين الناشئة الموسيقية ، بل كانت تتهاون وتتغيب باستمرار .. ورغم نجاحه إلى السنة الموالية ، إلا أنه لم يستوعب كثيرا مباديء العزف الأولية .. تغيرت الأوضاع منذ هذه السنة حينما ، التحق بمجموعة أستاذ كفء ، بل هو من كبار الملحنين في البلد وأحد الوجوه الإعلامية ، وتنال عادة الأغاني التي يلحنها شهرة محلية مهمة .. تنفسنا الصعداء وأصبحنا نقترب من تحقيق الحلم .. حلمنا .. لقد كان أستاذا ملتزما ومربيا ممتازا واستطاع أن يرفع من قدرات ومهارات إبني في العزف على آلة العود إلى مستويات متميزة .. طيلة أربع سنوات .. ربطنا الإتصال به خلالها ، وكنا نتواصل معه باحترام وتقدير في كثير من المناسبات ، وكان مثالا للتواصل .. ونعم الأستاذ .. حقق إبننا نجاحا مبهرا بمعيته خلال أربع سنوات ، وأصبح يعزف مقطوعاته المقررة بجودة رفيعة ، وكان الأستاذ يثني على مسار تعلم إبني وجديته وأخلاقه .. مما أثلج صدري وأسعدني .. حتى أنني سجلت إحدى معزوفاته كرنة لهاتفي لأسمعها كلما ناداني شخص ما ، وأنا افشي سر الرنة لمن يكون معي من أصدقائي ، بأن ابني من يعزفها ..! بعد انتصاف السنة الخامسة ، غير الأستاذ الملحن من تعامله مع إبني .. وفي إحدى حصص التدرب على معزوفة معينة ، عاتب إبني عدة مرات على عدم تمكنه من ضبط نقط المعزوفة وحروفها .. ليس هكذا نعزف النقطة الفلانية .. والحرف الفلاني ؟ نعم أستاذي أعرف إنما هذه المقطوعة صعبة شيئا ما ، وأنا أحاول أن أموضع أصابع يدي في المواقع المناسبة على مقبض العود لأتمكن من العزف .. يستمرا في العزف ، ثم فجأة يتوقف الأستاذ .. يضع عوده على ركبتيه ، يستند على الجهة المحدبة منه ، ثم يسأل إبني : هل تحب آلة أخرى إلى جانب العود ؟ فما كان من إبني إلا أن أجابه بكل براءة ودون خلفية .. نعم أستاذي أحب آلة القيثارة .. رد عليه الأستاذ الملحن .. بقلق واضح : اذن عليك بالتوقف من حصصك هذه ، والتسجيل في حصص القيثارة .. لا ياأستاذ أنا أحب العزف على العود .. إنما أجبتك عن سؤالك فقط .. لا أحب أن أضيع وقتي مع طالب لا يحب العود .. إنتهى الحوار بينهما بإستدعائي .. كنت أنتظر إبني كما عادتى أمام مدخل المعهد .. صعدت إلى قاعة الأستاذ .. رحب بي وأجلسني على كرسي مهتريء .. قاعة ضيقة لا تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص . ربما كانت حماما في الأصل ، وبعد الهيكلة التي لحقت العمارة ، أقتلعت تجهيزاتها لتوفير قاعات للدرس ، تلبية للإقبال المتزايد على المعهد .. سلمت على الأستاذ وشكرته ثم قلت : خير إن شاء الله .. خير إن شاء الله ..ثم طلب من إبني أن يعيد ما قال عن القيثارة .. بدأ إبني يتلعثم وهو يتحدث ، فعلمت أن أمرا ما حدث .. ثم طلبت من الأستاذ أن يوضح لي الأمر .. إبنك ياسيدي لا يحب العود بل القيثارة ، لهذا نصحته بأن يغير الآلة ويلتحق بحصص القيثارة .. أنت قلت هذا لأستاذك ؟ كيف تجرؤ ..؟ لا يا أبي أنا أجبته عن سؤاله فقط .. طلبت منه أن يقدم إعتذاره لأستاذه .. وأكدت له أنه يحب العود ، وأنك مثله الأعلى وقدوته وأنه منبهر بعزفك وألحانك ، ويتابع حواراتك وبرامجك التلفزية ، وأنه ينادي علينا لنشاهدك جميعا .. تبسم الأستاذ الملحن وهمهم بكلمة العفو مرات ..ثم طمأننا بأن المسألة طويت .. نزلت وأنا أحس بفرائسي ترتعد من هول الصدمة ومن أثر وقع هذا الحادث على نفسيتي ، أنا الذي كنت أحلم بالعزف على آلة العود وقرب تحقيقه . في طريقنا إلى المنزل لم أحدثه حتى مرت بضع دقائق ، فأطلعني على تفاصيل الحوار الذي دار بينهما .. لا بأس إنس الأمر ، وواضب على تعلم العزف وافهم جيدا المعزوفات المقررة . خلال إجتيازه لإمتحان نهاية السنة .. وهو واثق من كفاءته ومهاراته في العزف وقدرته على النجاح كما السنوات السابقة .. إلا أنه إصطدم بسلوك اللجنة المختلف عن المعهود .. أعد عزف المقطوعة من البداية .. يأمر عضو من اللجنة . بعد ذلك يوقف عضو ثاني إبني عن العزف ، ويطلب منه إعادة العزف من وسط المقطوعة .. فعل وبكل نجاح … تغافلت اللجنة ومعهم طبعا الأستاذ الملحن ، عن عزفه وأهملت تتبعه .. وبدأ أعضاؤها يتحدثون فيما بينهم ليشير عليه أستاذه بالتوقف .. ثم دون أحدهم في ورقة أمامه ملاحظات ، ويخبره بانتهاء الإمتحان .. بل أن أحد الأعضاء ، نبهه بأنه لا يحسن إمساك العود ولا يجسد العزف بإخلاص ..! لم أخبره عن كيفية اجتيازه للإمتحان .. ونحن في طريقنا .. فقد قرأت كل شيء على محياه .. صوته مختنق عيناه غاصتان بالدموع ، بل بدأت تسيل دون أن يشهر بكاءه ، وأحسست ان دواخله تحترق .. فحاولت تهدئته ، وذكرته بأنه عازف ممتاز وأن هذا الإمتحان ليس نهاية العالم … إنما كنت أعاني أكثر منه ، وكنت أحس بغضب شديد وبقدرتي على الثورة ، ومواجهة الأستاذ الملحن وأعضاء اللجنة والمعهد ، بكل ما أعرف عن إبني واجتهاده ، وحرصه على التعلم .. وحبه لآلة العود .. لكن .. بعد عشرة أيام وجدث ظرفا في صندوق الرسائل ، مختوما بطابع المعهد فعلمت أنها ورقة نتيجة الإمتحان .. نقلت له الظرف . أخذه نظر إليه تأكد من مصدره ، فاتسعت عيناه وبدأت ألاحظ حركة إهتزاز صدره تزيد بتزايد إضطراب تنفسه ، وأصابعه ترتعش وهو يمزق أطراف الظرف .. قرأ الورقة ورماها أرضا .. ماذا بك يا إبني ..؟ كنت أعلم النتيجة مسبقا .. يجيبني .. أقرت اللجنة بأن أغير الآلة ..! إعتراني شعور قوي بالإحباط والقلق والتوتر .. وتوقفت عن الكلام .. وتأكدت بشكل قطعي أن حلمنا في العزف على آلة العود قد توقف ،
وإلى الأبد ….