(1)
القراءة الدلائلية لعنوان المسرد القصصي : “سيرك الحيوانات المتوهمة” (1) لأنيس الرافعي تفضي بالقارئ إلى ثلاثة حقول سيميائية :
السيرك : الذي هو محفل إبداعي لتجلي فنون واستطيقا الفرجة الاستعراضية , والذي ذاكرته الفرجوية لها سجل زاخم يمتد من عهد الملاعب الرومانية إلى (سيرك عمار) الذي جاب ربوع العالم من أفريقيا إلى أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية , هذا الأخير الذي خلده الأديب سعيد علوش في روايته الشهيرة بالعنوان ذاته (سيرك عمار) . (2)
الحيوان : والإحالة هنا , بالتحديد , إلى النص الكوني ل : “مسرد الحيوانات” في الإرث الإنساني من أساطير النشأة والتكوين إلى الملاحم المؤسسة (جلجامش , الإلياذة , الأوديسية) وسرود الحيوان في الكتب المقدسة ومتون الشعر والنثر العربي من “كتاب الحيوان” للجاحظ و”كليلة ودمنة” لابن المقفع و “ومنطق الطير” لفريد الدين العاطر إلى أشعار أحمد شوقي التي عارض فيها منظومة “الخرافة الأمثولة” للفونتين . (3)
التوهم : وهو حقل سيميائي معرفي وفلسفي وأدبي لاستيطان مجمل الكتابات والسرود التخييلية والقصصية التي تمحورت حول مفهوم [التمثل] منذ نصوص البلاغة الأولى التي اهتمت بتشكل الاستعارة ومفهوم “التمثيل” عند الجرجاني إلى كتاب “التوهم” للمحاسبي “ورسالة مالا يعول عليه” لابن عربي الحاتمي ونصوص المناقب والكرامات في السرود الصوفية المهتمة بالمعرفة الكشفية والعرفانية التي يتمفصل فيها مبدأ الكشف عن (الحقيقة) من خلال التباسات الظاهر والباطن . (4)
العلاقة بين عنوان هذا (العمل القصصي) و اضمامات متنه المسرود من النص الموازي الذي يحمل عنوان [تذاكر مجانية للدخول إلى السيرك] إلى أجزائه القصصية المتضمنة ل : [ثلاثين منولوجا] كل مونولوج يخص نوعا حيوانيا مغايرا عن الآخر , هي علاقة تطابقية .
2))
ومن جراء هذه العلاقة التطابقية نكون إزاء عمل قصصي سردي خرائطي التكوين , بمعمار تخييلي متعدد التركيب , تتناسج عبره تشكلات الطبقات الرمزية لاشتغال : نص السيرك , ونص الحيوان , ونص التوهم / التمثيل والتخييل في بناء عبر نصاني (Transtextuele) , يندرج في جماليات الكتابة القصصية التجريبية ذات العلامات السيميائية التي تتطلب قراءة هيرمنوتيقية متعددة الحوامل والمحافل المعرفية والأدبية , والتي تنخرط انخراطا كليا في [استطيقا النص المفتوح] L’œuvre ouvert بتعبير أمبرتو إيكو .
هذا التوجه الجمالي في كتابة القصة القصيرة الذي يتجسد في العمل (سيرك الحيوانات المتوهمة) لم يأت من فراغ , وليس طارئا على المنجز السردي القصصي لأنيس الرافعي الممتد من سنة 1999 إلى سنة 2021 تاريخ إصدار عمله القصصي الأخير والذي يشمل 21 عملا قصصيا .
الأمر يتعلق بتجسيد لمنجز سردي تخييلي يأخذ شكل [مشروع قصصي] متمفصل في انجازه على اعتماد عمل مختبري (يؤثر الكاتب وصفه ب “المشتل القصصي”) , حيث كل مجموعة قصصية هي ذات طابع خلاسي لصوغ جماليات جديدة في الكتابة القصصية , ما أحب أن أصفه هنا بجماليات التهجين التفاعلي بين الكتابة القصصية ووعيها الذاتي ولا وعيها النظري , دافعا بذلك النزوع الخلاسي – التهجيني نحو كتابة لاحدودية , ذات عين ثالثة لأنها لا تكتفي بالنظر إلى ذاتها من الزاوية المغلقة لحدود القصة / الجنس الأدبي كما تحدده الأعراف والسنن المعيارية الجاهزة , بل هي باعتمادها [استطيقا النص المفتوح] تدفع بالتخييل القصصي وبأبنيته وأنساقه الرمزية وبمعمارية القصة وهويات أشكالها نحو محاورة جمالية لاحدودية مع مختلف النظائر الكونية العليا للسرد التي تتشابك وتتماهى وتتصادى وتتماس وتتجاور وتتداخل في الكون الأرحب لمطلق النص السردي الإنساني .
(3)
المدماك المركزي , الظاهر/ الخفي في الآن ذاته , والذي سنجليه في هذه القراءة على وجه التركيز , والذي هو أحد الأعمدة الفقرية لتشكل معمار المجموعة القصصية (سيرك الحيوانات المتوهمة) يتجسد أساسا فيما سنوصفه ب : “تشظيات النسق التناظري ل : [زعموا أن …] الإحالة هنا واضحة إلى نص “كليلة ودمنة” لابن المقفع المشهود له بالاستهلال الميتاتخييلي [زعموا أن …] الذي هو أحد الأبنية الرمزية الجوهرية لمبدأ التوهم التخييلي في محكي (كليلة ودمنة) كما يوضح ذلك عبد الفتاح كيليطو في مؤلفه “الحكاية والتأويل” 1988 حين قراءته لمؤلف (كليلة ودمنة) . (5)
يحضر نص (كليلة ودمنة) في العمق المحايث الكموني ل “سيرك الحيوانات المتوهمة” ويتعلق الأمر بحضور موارب أشبه ما يكون بنص مكتوب بالممحاة , لأن الكاتب أنيس الرافعي يمحي بجرة قلم تجريبية الاستهلال الميتاتخييلي [زعموا أن ..] باعتماد تقنية الحذف , ففي (كليلة ودمنة) الوظيفة الأساسية ل : “زعموا أن ..” في السرد تفيد دلالة السرد المتواتر محاكية في ذلك [رواية الحديث بالسند] . وهذا كما يوضح كيليطو في المرجع المذكور آنفا , وأيضا كما يوضح ذلك بقراءة جد بليغة الناقد سعيد الغانمي في كتابه الشيق “مفاتيح خزائن السرد : مدونة المعتمد الأدبي والتحليل الصنفي في السرد العربي القديم” (6)
دلالة السرد المتواتر ل “زعموا أن ..” تنهض بمهمة إضفاء الوثوقية على معنى [الحكمة والمثل] باعتبار الحكاية والقصة في (كليلة ودمنة) ذات : ” بناء أمثولي .. شخصيات “كليلة ودمنة” شخصيات حيوانية وظيفتها أن تثير لدى المتلقى انطباعا عما يماثلها من شخصيات في عالم البشر ” . (7)
(4)
يبدأ تكنيك “التشظي” في المسرد القصصي ل “سيرك الحيوانات المتوهمة” بممارسة قلب جذري شامل على هذا النسق التناظري الذي يهندس معمار “كليلة ودمنة” فبعد الحذف الكلي ل [زعموا أن ..] ما دام السرد في المجموعة القصصية هو على لسان حيوانات متوهمة ذات أنطولوجية تخييلية صرفة , سند السرد لديها موقوف على ذاتها , فالمنولوجات كلها ذات طبيعية ذاتية التخييل (Autofiction) لازمة غير متعدية .
يزداد نزوع التشظي للنسق التناظري ل “كليلة ودمنة” من خلال إلغاء مطلق لدور [الأمثولة] , فالحيوانات في قصص (السيرك) ليست كينونات رمزية مضاعفة لعالم الإنسان , من خلالها يسعى هذا الأخير إلى تمثل ذاته , إنها على وجه أدق أو أقرب إلى روح المجموعة القصصية , ما سأسمح لنفسي بوصفه : “الظل الشاحب/الرمادي للكينونة البشرية” (
ذلك أن الناظم الرمزي لحكايات الحيوان في “كليلة ودمنة” مشدود الأواصر إلى مسعى يرتبط بنشدان الكمال , لهذا فالنسق التناظري ل “كليلة ودمنة” يرزخ بقوة لجاذبية الصورة والكمال , الذات والمثال وعلى النقيض من هذا فإن السرد القصصي في [السيرك] هو سرد مصبوب في قالب تراجيدي لتشخيص وضع هشاشة الكائن البشري , الكائن المنذور للتشظي والتفكيك والامحاء وفقدان القيمة والمعنى في أزمنة العنف الطاغي , عنف الصورة , عنق الآلة , عنف الرقمية العنف الالكتروني , عنف الجغرافيات الوهمية , عنف السراب الوهمي للآلة الإعلامية .
الكائنات الحيوانية في المجموعة القصصية “سيرك الحيوانات المتوهمة” ليست مضاعفات رمزية للإنسان ذات طبيعة مثالية , بل هي كائنات متشظية أشبه ما يكون بقرين (Double) متفكك يستجمع صورته في انحلاله ومواجهته العزاء لذعره التراجيدي وحتفه المأساوي المنذور للموت , موت نهجه الخراب والصمت والفراغ والعزلة الفردية الأحد من شفرات السكين . (9)
(5)
إذا كان هذا الثقل المدماكي يشكل النواة الصلب لرمزية المعمار القصصي للمجموعة , فان أي قراءة حصيفة لا يمكن أن تمر مرور الكرام على هذا الثراء الخصب المشع المغناطيسي لفعاليات اشتغال السرد القصصي لدى أنيس الرافعي على تعدد مستفيض من المدونات التخييلية والاستطيقية : الاشتغال على الصورة والرسم التشكيل وفنون التشخيص السينمائي وتعددية الأجناس والخطابات , واستجلاب المناصص الأيقوني , ومحاورة سجلات السرد التراثي في صنافاته المتعدد ونصوص السرد الحديث , وتشقيق نسيج السرد بإواليات الحلم والاستيهام واللعب وفنون التشدير والسرد الصوتي والموسيقي , دون أن نمهل التعالق المدهش مع سجلات السرد العجائبي وتخييل القرين / المضاعف .
في هذه المجموعة القصصية المرفوقة بحقيبة رسومات [تفاعلية] من توقيع الفنان الأردني محمد العامري نجدنا تماما مثل الألواح التي تختزن الطاقة الشمسية وتعيد نفثها في انعكاس النص الأيقوني على النص السردي إزاء نص مواز محمول على جماليات الاحتمال البصري لتشخيص قرابة إبداعية . [بين اللسان والعين] بين المقول اللفظي والعلامة المرئية , والشأن في ذلك قريب الشبه من باب الإعلال والإبدال في النحو , كلا البعدين يسعيان من خلال استطيقا العبرنصية إلى تجسيد التفاعل الاحتمالي بين فيزياء العبارة و فيزياء الصورة في تلك المنطقة من الادراك لنشأة المعنى في التجاذبيات القصوى لتعالق الحواس.
المراجع
أنيس الرافعي : “سيرك الحيوانات المتوهمة”،
حقيبة رسومات ومونولوجيات . رسوم محمد العامري، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع ، عمان 2021 .
سعيد علوش : (سيرك عمار) . دار الآمان .
الرباط . 2008 .
را : الجزء الرابع من “الشوقيات” (53 حكاية شعرية على لسان الحيوان) معارضة لشعر لافونتين في ديوانه (Les fables)
را : عبد الفتاح كيليطو : “الحكاية والتأويل”
الأعمال الكاملة , الجزء الثاني , منشورات دار توبقال 2015 الدار البيضاء .
(5) المرجع سابق . ص 255 : “ولا يسعنا إلا أن نبدي إعجابنا بالحكيم القديم الذي ألف كتابا وأوهم القراء بوجود سر فيه , بينما أغلب الظن ألا سر هناك” .
(6) را . سعيد الغانمي : “مفاتيح خزائن السرد مدونة المعتمد الأدبي والتحليل الصنفي في السرد العربي القديم . دار الرافدين . 2021” .
(7) المرجع السابق : ص 188 : ويضم الكتاب دراسة معمقة لنمودج السرد التناظري في (كليلة ودمنة) .
( نحيل هذا الى النصيين القصصيين : [مونولوج الهر] ص 89 و [مونولوج الدب] ص 139 فهما يزخران بالسياقات الدلالية الأشد إيحاء واشتغال سيمياء القرين الحيواني في (سيرك) أنيس الرافعي .
(9) بخصوص مفهوم القرين التراجيدي وصورة القرين المرتبط شيمة المسخ (La metamarphose)
يمكن الرجوع مثلا إلى [مونولوج الحمار الوحشي] ص 169 [مونولوج الخفاش] ص 95 استفدنا في التحليل في هذا السياق من :
-Otto Rank (1932) : (Don Juan et le Double).
-Tzvetan Todorov : « Introduction à la littérature fantastique » Seuil . 1970