الحادثة

 يعيش سعيد حياة هادئة مطمئنة لا تشوبها شائبة ، وينعم باستقرار أسري نموذجي .. يعمل إطارا بوزارة الشؤون الدينية ، يسكن مع أفراد أسرته السعيدة في منزل جميل بإحدى ضواحي العاصمة ، ويركب سيارة تليق بمقامه الاجتماعي وتوافقه .. لا يمل من الذهاب إلى المسجد لأداء الصلوات المكتوبة كلما أتيحت له الفرصة .. ولا يفتر لسانه عن شكر ربه على النعم التي حباه بها .. ويحمده على الدوام ويستعينه ويستهديه . لكن حالة سعيد المستقرة هذه ، سرعان ما تتبدل إلى وضعية غريبة يصير معها إنسانا ٱخر مختلفا تماما .. كما لو أنه يصاب بنوبات من القلق والغضب والسخط عندما يجلس وراء مقود سيارته .. لايسأم من انتقاد السائقين الذين يتقاسم معهم الطريق كلما اقترف أحدهم خرقا لقانون السير كيف ما كانت طبيعة هذا الخرق .. كما ينتقد كل من ضايقه إبان سيره في الطريق أو منعه من المرور بأي شكل وتحت أية ذريعة .. منبها إياهم بضرورة احترام القانون والسهر على تطبيقه . لا يتجاوز عنهم زلاتهم ولا يفوت الفرصة دون أن يذكر المخطيء من السائقين بما ارتكب من خطإ عمدا أو سهوا أو اضطرارا .. وبشتى الطرق .. – راه عندك قف .. ألم تر العلامة ؟ يتهكم على صاحب سيارة لم يحترم علامة التشوير المعنية . – ليس لك حق الأسبقية ! ماهذه السياقة ؟ يشير إلى سائق مر أمامه وكاد يعرقل سيره لولا أن سعيد ضغط على دواس البنزين أكثر فأفشل مناورة السائق الطائشة .. – تريد أن تقتلني ! تتحاوز من جهة اليمين .. أين تعلمت السياقة ؟ يوقف سائقا حاول الانفلات من جهة اليمين مسرعا .. ويؤنبه على فعلته .. هكذا يقضي سعيد زمن ذهابه إلى عمله وعودته منه ، لا يتوانى في وعظ السائقين وتلقينهم دروسا في فن السياقة وتذكيرهم بكل الوسائل بضرورة احترام قانون السير .. وهو يتأهب للإنعطاف يمينا نحو وجهته ، إذا بسائق أرعن يقطع عليه طريقه بسرعة جنونية في محاولة لتحقيق السبق ، ودون احترام علامة التوقف ، حتى كاد يصدم سيارة سعيد لولا أنه تفاداه بأعجوبة ،
حينها ضغط هذا الأخير بحركة عفوية على دواس الفرامل والمنبه في نفس الٱن وبكل ما أوتي من قوة ، أثار انتباه السائقين الذين انزعجوا واندهشوا من سلوك السائق الأرعن .. ومن أصوات المنبه .. لم يكتف سعيد بالحركات التي قام بها ، بل غير اتجاهه وأسرع خلف السائق الذي ضايقه .. وهو ينبهه بإشارات ضوئية على فعلته ومن مغبة ما قام به .. لكن السائق المعني لم يكترث بسعيد وما تسبب له من إزعاج ، بل أخرج يده اليسرى من نافذة سيارته وأشار إلى سعيد ، الذي يسرع محاولا اللحاق به ،
بحركة تنم عن انحطاط أخلاق هذا السائق وتجاوزه لكل أساليب اللياقة والاحترام في التعامل مع الناس ، عوض التعبير لهم عن أسفه لارتكابه الخطأ ، وطلب الصفح عن فعلته .. حركة أغضبت سعيد كثيرا وجعلته يصمم على ملاحقة صاحب هذه الإشارة الدنيئة ، وتلقينه درسا لن ينساه أبدا .. تمكن سعيد من شل حركة السائق المستهتر ، وأرغمه على التوقف عند مدخل زنقة ضيقة تتفرع عن الشارع الذي ارتكبت فيه المخالفة .. لما أصبح السائقان وجها لوجه وهما داخل سيارتيهما ، أنزل سعيد زجاج نافذة سيارته بهدوء حتى تجلى له غريمه الذي قام بنفس العملية .. حدق إليه سعيد بنظرات نارية من وراء نظاراته الشمسية القاتمة ،
ونطق بكلمات قوية من تحت كمامته الطبية . ثم بكل تأن أخذ المسدس وأطلق على السائق المشاكس رصاصة اخترقت صدغيه وأردته قتيلا .. لاحظ سعيد وجود كاميرا مثبته على المرٱة العاكسة .. نزل من سيارته بهدوء وهو يمسح بعينيه المكان من حوله ، ثم فك الكاميرا بيده المغلفة بقفاز جلدي أسود ، ووضعها بجانبه على الكرسي الأمامي . وقبل أن ينطلق إلى وجهته اكتشف أن الجهاز يعمل بنظام طاقة مستقل .. جالت بخاطره أسئلة كثيرة حول الحادثة .. – يا إلهي لقد قتلت نفسا بغير حق ؟
لقد أصبحت مجرما ..!
فيجيب بهمس بينه وبين نفسه .. – لم أظلم السائق الأرعن بل أخذ جزاءه الذي يستحق .. تبا له !
– لكنني قتلت مؤمنا .. ومن يقتل مؤمنا متعمدا .. يا إلهي سوف أحرم من الجنة وسيغضب علي ربي !
لكن ما أدراني بإيمانه .. لعله ملحدا أو كافرا .. ثم طفق يستغفر ربه بوتيرة غريبة .. وهو يسترجع شريط ما وقع دون أن يشعر بتأنيب الضمير .. في ركنه الذي أعتاد الجلوس فيه بحديقة منزله يشرب قهوته التي هيأها بإتقان ، وهويتصفح جريدته المعتادة ويتجول في عناوين المقالات المنشورة على صفحتها الأولى .. لاحظ الاهتمام الذي أولته الجريدة لحملة التطعيم ضد فيروس كورونا التي انطلقت منذ أسبوعين ، وتذكيرها بالبرامج المفصلة للعملية عبر ربوع البلاد ، ونقلها ارتسامات المواطنين عن هذه الحملة المباركة .. لينتقل إلى الصفحة الأخيرة حيث تنشر تلك الأعمدة الخاصة مواد أدبية متنوعة والتي تستهويه قراءتها .. ويبحث فيها عن جديد كتابه المتميزين . بعدها غاص في الصفحات الداخلية للجريدة ، فاستوقفه خبر في ركن الحوادث معنون بما يلي : لا زال قاتل سائق السيارة كذا متخفيا ولم تتمكن الشرطة من الوصول إليه .. لكن الفرقة العلمية تمتلك كل الأدلة عن القاتل .. وأنه أصبح في عداد المقبوض عليهم ، فقط يلزمها قليل من الوقت والحذر .. فالقاتل مسلح ! أثاره التحليل الذي قدمه كاتب الخبر .. بأن الأمر يتعلق ربما بتنافس بين عصابات مفيوزية حول اقتسام مجالات نفوذها ، فنتج عنه تصفية أحد زعمائها من الطرف الٱخر .. ابتسم سعيد ابتسامة خجولة وهو يتابع قراءة الخبر .. وتصفح جريدته .. ثم فجأة اخترقت الأجواء دوي نداءات بلغت إلى مسامعه من مكبر الصوت قريبة من منزله ، ترغمه على الامتثال لقرارات أفراد فرقة الشرطة التي تطوق مسكنه وتستعد لألقاء القبض عليه . فهي تتوفر على كل الأدلة التي تؤكد ضلوع سعيد في عملية قتل السائق في التاريخ الفلاني بالزنقة الفلانية وبالحي المعروف .. فجهاز الكاميرا الذي اقتلعه من سيارة الضحية استمر يسجل ملامح سعيد وفضاء سيارته الداخلي وجزئيات من منزله ، ويرسل المعلومات إلى ذاكرة التخزين المرتبطة بالكاميرا والمثبتة في مكان ما بسيارة الضحية . فسعيد حينما حمل معه الكاميرا إلى مسكنه لم يوقف اشتغالها ..! – وعليك الإلتزام بالخطوات التي نعلن عنها الٱن ، وأن تسلم نفسك دون أي تأخير أو مماطلة أومحاولة الفرار .. ونحذرك من مغبة عدم امتثالك لهذه الأوامر .. فقد تجني على نفسك إن أنت امتنعت عن الخروج إلينا وتقديم نفسك .! انتصب سعيد واقفا وهو يعمل قدر المستطاع على تنفيذ ما يسمعه عبر مبكر الصوت من تعليمات فرقة الشرطة التي بدأت تقترب رويدا رويدا من منزله لإلقاء القبض عليه واعتقاله .. شبك أصابع يديه ووضعها فوق رأسه بشق الأنفس وهو خائف وجل مما ينتظره .. يحس بدقات قلبه تتسارع ويزيد خفقانه بشكل مطرد ، ورجلاه ترتعشان بشدة ولا تقوى على حمل جسده الذي يزداد ثقله مع مرور الزمن .. لم يعد سعيد يملك القدرة على ضبط أعضائه وأحاسيسه وتأكد من اقتراب أجله .. تحجر لسانه ونشف ريقه ولم يستطع النطق بأي لفظ . أحس بدفء يجتاحه من أعلى فخده وينحدر إلى أسفل قدمه .. والدوار يعبث برأسه وعقله حتى كاد يفقد وعيه ويهوى .. وكلمات مبكر الصوت تنهال على مسامعه كأنها فرقعات مدافع قريبة منه .. فانقطع اتصاله مع ما يحيط به ، وأصبح الظلام سيد الأماكن … فتح عينيه بصعوبة وهو يتألم من صداع شق رأسه صنفين .. والمنبه يذكره بموعد الاستيقاظ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top