كان وما زال الحب يتربع عروش الأدب،
ومن ذلك الأدب الصوفي فقد ترك لنا السادة الصوفية موروثا أدبيا هائلا قائما على الحب الإلهي بحسب الأذواق والأحوال،
ففي الوقت الذي كان الحب يتراوح فيه بين الغزل بالمرأة والتفسير العقلي له فلسفيا كان الشعر العربي يتسم بجماليته لكن في حدود العاطفة بين الرجل والمرأة،
إلا أن الحب تجاوز ذاك الحد ليشق طريقه بين الحق والخلق فظهر الحب الصوفي. مع انتشار الزهد في القرن الثاني الهجري الذي اتصف بالتصوف لمحاولة إحداث موازنة بين الترف والتعلق بالدنيا وبين العزوف عنها انقطاعا عن ما فيها إلى عالم خارجي.
برز الأدب الصوفي معتمدا لفظة الحب في مفرداته متجاوزا حب العاطفة الى الحب الإلهي، منبثقا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
إلا أنه كان متطبعا بدايةً بطابع الخوف عند الحسن البصري رحمه الله، فكان يتحدث في مجالسه عن الحب بصيغة الخوف والتخويف.
ثم تطور الحب ليكون علاقة مع الله جل جلاله مستبدلا الخوف بالحب ورائد ذلك كهمس بن الحسن القيسي رحمه الله،
ثم إبراهيم بن أدهم رحمه الله الذي سمى الصوفية ب (أهل المحبة).
ومع الإختلاف في تحديد أول من برز حب الله صريحا في أدبه، فكان أبرزهم رابعة العدوية رحمها الله، يرى بعض الباحثين أنها أول من اتصفت بالحب الإلهي في شعرها ،
لا سيما وأن الحب أقرب عاطفيا إلى المرأة فبرز بشكل خاص في أدبها، قد لا تكون هي الأولى لكن ما ورد إلينا من نصوصها أكثر مما ورد عن غيرها.
يصل الحب عند رابعة العدوية رحمها الله درجة الاستغراق متجاوزا حدود المألوف.
وبعد أن كان الحب عفويا عند رابعة العدوية رحمها الله اتجه بعدها خارج النطاق العفوي ليكون سببا للجدل بين مؤيد ومندد،
لا سيما بعد القرن الثاني ودخول القرن الثالث وانتشار التصوف أدبيا ودينيا تزامنا مع ظهور المحاسبي والخراز والجنيد والسري السقطي والبسطامي والحلاج والشبلي رحمهم الله،
وهنا نقطة تحول في الثقافة الدينية والعلاقة مع الغيب إذ توشح الأدب بما صدر عنهم في حال الوجد والفناء بما لا يتلاءم مع الواقع متوشحا بمعان خرجت عن سلطان العقل ولا تتوافق مع ظاهر المعنى.
وربما كان المقصد من ذلك تعبيرهم عن حبهم لله بكلام تفصيلي وليس بكلام عابر لا يتحقق إلا بنكران الذات وتدمير الأنا.
فلا يرون تحقق الحب الإلهي إلا بهجر النفس الإنسانية والسمو الى الحق جل جلاله.
ومن ذلك عندما أوضح البسطامي رحمه الله معناه بقوله ( كنت أربعين سنة ديدبان القلب فبعد الأربعين وجدته شركا،
وشركه أن تلتفت إلى ما سواه) والمعنى اذا كان الشرك العقائدي هو عبادة غير الله،
فالشرك بالمعنى الصوفي هو الإلتفات الى ما سوى الله، وهو ذروة التوحيد.
ثم يبرز الحلاج رحمه الله بأدبه المثير للجدل إذ يرى أن جوهر الذات الإلهية هو الحب،
وأُنتقد بالحلول في بعض أشعاره لكنه أنكر ذلك صريحا بقوله: (وظنوا بي حلولا واتحادا .. وقلبي من سوى التوحيد خال)
فلم يكن مقصوده إلا الخروج من سجن الجسد للإقتراب من محبوبه الأسمى، لكن اراد أن يذهب وحده متخليا عن ذاته فلا يرى الوصول إلى المحبوب إلا بمحو الأنا.
لكنه لم يسلم وحكم القاضي الظاهري محمد بن داود رحمه الله بإعدامه .. وكان القاضي قد ألف كتابا بعنوان الوردة في الحب وموضوعه الحب الجنسي بين الرجل والمرأة،
وشتان بين حب الحلاج وحب ابن داود.
لم يُنفَذ حكم الإعدام وعاش بعده الحلاج رحمه الله ثمان سنين ثم سُجِن مع إصراره على مذهبه في الحب داعيا لقتلته بالمغفرة إلى أخر لحظة قائلا: (هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا إليك، فاغفر لهم فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتُليتُ بما ابتُليتُ به، فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد)
وسلم المحب أمره للمحبوب خلال موقف مؤثر إذ مسح وجهه بدمه متوضأ، فسئل:أي وضوء هذا؟! أجاب ركعتان في العشق لا يصح وضوءهما إلا بالدم.
وخُتِمت حياته بأسطورة خالدة.
بعد موت الحلاج تحول الحب إلى مرحلة التأمل والمراجعة ونابه فتور وركود أدى إلى ظهور الترف وإدعاء الجهلاء.
حينها ظهرت الطرق الصوفية، الى جانب تدوين ما مضى من التراث الصوفي ،
فصار الحب نظريا مقترنا بالعبادة مع الإستدلال بالنصوص الدينية وصار الاهتمام بالجانب العملي للحب دون الإقتصار على الحب الإلهي.
ثم جاءت مرحلة مابين القرنينين السادس والسابع لينضج الحب عن التعبير الروحي إلى أفكار تحمل ثقافات الأدب والفلسفة والشريعة. فيشرق في هذا العصر الحب الإشراقي عند يحيى السهروردي رحمه الله وكان منهجه في الحب أقرب الى المنظور الفلسفي منبثقا من حكمة الإشراق،
فمفتاح الحب عنده النور الذي هو أساس العالم كما يقول في حكمة الإشراق: (وكلما ازداد نورا ووضوءا ازداد غنىً وقربا من نور الأنوار).
ثم يأتي الشيخ عمر السهروردي رحمه الله الذي عندما سئل عنه الشيخ الأكبر ابن عربي رحمه الله بعد أن التقاه، كيف وجدته؟
فأجاب: (مملوء سنة من قرنه الى قدمه).
فكان منهجه في الحديث عن الحب لا يتجاوز السنة مع ترديده لبعض نصوص الأدب الصوفي مما سبقه.
ثم يبرز نجم الشيخ الأكبر ابن عربي رحمه الله ليستعمل الحب في أدبه على نحو أربع مفردات (الهوى والحب والعشق والود) بمعنى: الهوى: هو اسفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به في اول ما يحصل في القلب.
ثم يبين أن الحب: هو خلوصه الى القلب وصفاؤه عن كدورات العوارض فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبه. ثم العشق يعرفه ابن عربي رحمه الله: افراط المحبة ..
والعاشق والعشق التفاف الحب على المحب، حتى خالط جميع أجزائه واشتمل عليه اشتمال الصماء، مشتق من العشقة. والعشقة هي اللبلاب لأنه يلتوي على الشجر ويلزمه.
وهكذا يتنقل الحب بمراحل: الهوى فالحب فالعشق، فإذا هوى الإنسان أحدا ثم نما صار حبا فإذا أعمى الحبُ الإنسانَ عن ما سوى محبوبه وصار يراه في كل شيء حوله فسمي ذلك الحب عشقا. ونجد بعض العلماء لا يحبذون مفردة العشق فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن العشق إفراط المحبة ولا يمكن ذلك في حق الله،
او لأنه مأخوذ من التغير والذبول ولا يطلق ذلك على الله تعالى علوا كبيرا.
وابن عربي أكد أن العشق لا يطلق على الله سبحانه وتعالى لكن لا بأس في إتصاف العبد بالعشق لله.
أما (الود) فهو لقب من القاب الحب وليس مرحلة وهو بمعنى الثبوت، كما بين ذلك الشيخ الأكبر ابن عربي رحمه الله بقوله: (أما الود ثبات الحب او العشق او الهوى أية حالة كانت من أحوال هذه الصفات) فالمقصود عدم تغير الحب وزواله في أي حال من الأحوال ،
والود هو الوحيد من القاب الحب الذي يسمى به الله سبحانه وتعالى صريحا في القرآن (وهو الغفور الودود) البروج ١٤
ثم يقسم الحب بحسب الشخ الأكبر ابن عربي رحمه الله الى:
١-الحب الطبيعي: وهو إتصال محسوس يطلبه المحب ويشتاق الى المحل الذي يظهر فيه محبوبه، ويحب في المحبوب لأجل نفسه.
٢-الحب الروحاني: هو الذي فيه يحب المحبوب لمحبوبه ولنفسه، فيرتقي من التواصل الطبيعي الى التواصل الروحي.
٣-الحب الإلهي: هو حب الله للعبد وحب العبد لربه، كما قال تعالى (يحبهم ويحبونه) المائدة ٥٤ ويقسم ابن عربي رحمه الله أحوال حب البشر لله الى:
١-إما أن نحبه له
٢-او أن نحبه لأنفسنا
٣-او نحبه للمجموع لنا وله
٤-او نحبه لا لواحد مما تقدم لا له ولا لنا ولا للمجموع وهذا صعب التصور ،
فلماذا نحبه إذا لم يكن الحب له او لنا او للمجموع ! هذا والكلام عن الحب في أدب ابن عربي رحمه الله يطول ..
ولانغفل عن ما قدمه لنا الأخرون كابن الفارض ومولانا جلال الدين الرومي ولكن لا يتسع المقام فالكلام عن الحب يزداد طولا مع السادة الصوفية في أدبهم شعرا ونثرا ..
كما أن الحب توسع في الأدب الصوفي الى حب النبي صلى الله عليه وسلم وحب المريد لشيخه وحب الإنسان للإنسان. وتبقى قضية الحب في الأدب الصوفي قضية ذوقية كلٌ صرح بما أحس وكلٌ تكلم بما استشعر،
فما زال الحب مفردةً وحالةً شعورية يتنقل في واحة الأدب الصوفي بين رابعة العدوية رحمها الله ومن جاء بعدها مرورا بالشيخ الأكبر ابن عربي رحمه الله وحتى يومنا هذا كلٌ ينظم بما يتوق ،
وكلٌ ينثر بما يتذوق مرورا بتلك الأحوال التي هي كالورود في واحة غناء كلٌ يشم منها ما يعجبه وكلٌ يرى منها ما يقترب من قلبه او عقله.