أرقتني شدة التفكير في أمور حدثت بحر الأسبوع الذي يشرف على الإنقضاء .. توالت علي سلسلة متماسكة الحلقات من أحداث لم أكن أتوقعها أو أعلم أنها قد تصل شظاياها إلى مجريات معيشي اليومي .. بالرغم من تأزمه وهيمنة لون الرصاص على معظم ألوانه .. وكأنه استلهم لونه من حلكة معاناتي . فزادت قتامته وصعب علي مواجهة هذه الأحداث .. طال سهادي جراء الغوص في ما ألم بي ، ولم يدع متعة النوم تحفني وأنا في أمس الحاجة إليها ، ولو لبضع دقائق .. حتى انبلج الصبح وطردت أنواره عتمة الليل وأضاءت كل الفضاءات من حولنا ، وانطلقت العصافير في شذوها الصباحي .. وأنا على حالي لم يغمض لي جفن ..
بعد مدة لا أدري مداها وأنا بين النوم والصحو ، رن هاتفي ! انزعجت من رناته .. وتأسفت كوني لم أغلقه نهائيا قبل النوم .. أو قل قبل أن آوي إلى الفراش .. فالنوم أصبح عملة ناذرة في حياتي التي فتحت دفاتها على مصراعيها ليلج السهاد والأرق دون أن يستأذناني .. ويجثما على صدر أيامي ، ويخنقا أنفاس آمالي وأحلامي ..
وددت لو أغفو لدقائق محدودة ، حتى أعدل مزاجي وأسترجع قليلا من عافيتي التي بددها السهر ومسامرة المثالب التي لا تنتهي .. وأنا أعتبر أن نهاية الأسبوع فترة أستراحة وإسترخاء واستكمال للنوم وللراحة التي نحرم من لذاتها ومتعتها طيلة أيام الأسبوع المنذورة للعمل والمشقة والتعب ..
لكن الرنين لم يتوقف . يتكرر بشكل متوالي كما لو أن المنادي يلح على ضرورة مهاتفتي ..
حبوت إلى الطاولة التي تركت الهاتف فوقها غير بعيدة من السرير ..
يا إلهي .. إنها أمال .. تبا لقد كدت أنسى موعدنا ..! أف من ذاكرة ومن عقل لا يسعفاني على استحضار مواعيدي ، ويفلحان بإغراقي في الهموم والمشاكل فقط ..
حينما تتصل بي أمال ، أو نلتقي في فضاء عمومي .. تتبدل أحوالي وأصبح كائنا آخر .. مختلفا عني .. أنسى همومي ومعاناتي ، وأشعر أنني مقبل على وضع جديد .. مختلف .. إنه سحر الأنثى . إنها أمال ..!
ألقيت بالهاتف على أذني لأرد على نداء أمال .. وأنا مستلقي على ظهري مباشرة فوق السجاد على أرضية غرفة النوم ..
حينما تريد أمرا ما ، فإنها تتمسك به إلى آخر نفس .. لا تريد تأجيل مشاريعها أو تأخيرها قليلا . منضبطة إلى أقصى حد في مواعيدها .. ولا تنزعج حين تذكرني بتهاوني ولامبالاتي .. أحيانا أبدو لها غير مهتم .. فأنا ربما أحسب الأمور من باب فيض الوقت الذي أعيشه .. فقد يحدث أن أؤجل مشروعا إلى اللاحق من الأيام ..
– مرحبا أمال .. صباح الخير كيف حالك ؟
– مرحبا .. أحسبك نصف نائم فصوتك مضطرب . هل نسيت موعدنا ؟
أريد أن أغيظها قليلا .. فأنا أتلذذ أحيانا بالمكر الذي أمارسه أثناء مكالمتي معها .
– أي موعد ؟ عن ماذا تتحدثين يا أمال ؟
– أتحدث عن السفر .. عن تغيير الأجواء التي وعدتني بها .. هل نسيت حين أسهبت في تحليلك لقيمة السفر وانعكاساته على نفسيتنا وعلى أفكارنا ؟ .. أسي الفيلسوف ؟ أم كلام الليل يمحوه النهار ؟..
– آه .. تبا لذاكرتي العجوز . كدت أنسى . فعلت خيرا حينما ناديتيني .. أعطني مهلة أربعين دقيقة أوضب حالي ، ثم ألتحق بك .
– لك ساعة كاملة .. إنما لو أنك أضفت ثانية واحدة إلى هذه المهلة .. سألغي المشروع نهائيا .. ولن أشاركك فيه !
– لا تقلقي ، لن أخلف الموعد .. سنسافر إن شاء الله . لا تنزعجي من سلوكي .. يا صديقتي أمال .
حين تسمع هذه الدعابة البسيطة . صديقتي . تنشرح وتطرب وتتجاوز عني ما سببته لها من قلق وانزعاج .. أمال إنسانة عصبية قليلا ، ومزاجها أصبح يتغير باستمرار كما أيام فصل الخريف .. لكنها طيبة وحنون إلى أبعد مدى .. ربما تكمن هنا نقطة ضعفها ..
وصلت إلى مكان اللقاء قبل انصرام الموعد بدقائق ..
صعدت أمال إلى السيارة ، وأخذت مجلسها بجانبي كما العادة .. أقفلت حزام السلامة ..ثم تفحصتني جيدا كما لو أنها تراني لأول مرة .. وأنا أتعمد عدم تركيز نظري على وجهها وعيناها ، حتى لا أتورط في أمر ما .. وأتجاوز المثل الذي يؤكد على الإنصات الجيد إلى ماتقوله عينا إمرأة ، حينما تتحدث إليك ..
بعدما سألنا بعضنا عن أحوالنا الصحية والمعنوية .. أضفت سؤالا عن حالة والدتها لتطمئن أمال أنني أهتم بها وحالها مع أمها ، وما تعانيه إثر العيش معها في منزل واحد ..
– الحمد لله .. أمي بخير الآن .. أساندها أحيانا في ممارسة رياضة المشي .. وأراقب حميتها ومواعيد أخذ دوائها .. تستفيد منذ الآن وأثناء غيابي من خدمات إبنة أختها التي تطمئن كثيرا لصحبتها ..
– هيه .. وأنت كيف حالك ياصابر؟
– الحمد لله .. حينما أكون بقربك أكون في أحسن حال .. على الأقل أجد مؤنسا ومحاورا .. ورفقة .. أنا ، ربما نحن معا ، في حاجة لمثل هذه الأشياء لنؤثث بها حياتنا .. بل أظن وأحس أن الحاجة للرفقة أصبحت ملحة وضرورية في مثل سننا الذي نحن فيه .
تنظر إلي أمال وأنا أتحدث ثم تغير اتجاه نظراتها وهي تبتسم إبتسامة خفيفة لا أدري مغزاها .. إنما تؤكد أنها على أحسن ما يرام . وأن حديثي معها بلغ منها مبلغا معينا ..
تم تفصح عن ما يشغلها ، وهي تنظر خارج السيارة .
– لا أدري يا صابر . لم أنم جيدا ليلة الأمس .. فربما سفرنا هذا معا ولأول مرة أثارني قليلا ، وجعلني حبيسة هذه الإثارة .. أشعر بقليل من الإضطراب ..
– إطمئني يا صديقتي فالأمر عادي ، ولا يدعو إلى القلق .. ربما تذكرت أشياء أخرى إرتبطت لك بالسفر .. فذاكرتنا تخزن أشياء قد تظهر في مناسبات دون أخرى وتقترن بها .. أو ما يسمى بالتذكر الإشتراطي .
تنظر إلى وتصغي بهدوء .. ثم تعقب على كلامي وهي تضحك ..
– هههه بدأت في سردك الفلسفي وتحليلك لكل شيء .. تبا ..
أنطلقنا بسارتي تطوي المسافات ، وتبتلع المنعرجات والمنحدرات التي لا تنتهي ، ونحن في طريقنا إلى وجهتنا التي قررنا السفر إليها .. المدينة الجبلية الهادئة .. وبلمسة خفيفة على زر التشغيل في واجهة اللوحة الألكترونية أمامي ، إنطلقت أغنية العيطة العمالة ، والتي أحب أن أستمع إليها كلما كنت رائقا منشرحا .. وأيضا شغلتها لتكسير الصمت الذي ساد بيننا لبرهة ، والذي لا تبدده إلا أصوات هدير المحرك واحتكاك عجلات المركبة بالإسفلت ..
بعد أنغام الكنبري والكيتارة .. إنطلقت أصوات المطربين وهم يتغنون بالشاوية ..
..الشاوية كواتني وزادت مابيا ..
..وافراق حبابي جاني صعيب ..
ما إن بلغت إلى مسامع أمال الكلمات الأولى ، حتى إنطلقت معلقة على إختياري لهذه الأغنية للإستماع إليها في هذا الظرف الخاص .. ثم أردفت ، بانزعاج بين ، وأنا ألمس قلقها ونبرات الغيرة التي غلفت كلامها وتحليلها للحدث ..
– طالما أنك معجب كثيرا بالشاوية .. لماذا تركتها إذا ؟
– لا يذهب خيالك بعيدا أيتها الركراكية الشرسة .. إنها أغنية بريئة من كل الحمولات التي أثقلتيها بها .. تطربني كثيرا ، وأحب الإستماع إليها وأنا مستقر المزاج تغمرني أحاسيس الفرح .. أليس تواجدنا معا شيء مفرح ؟ فأنا أحتفل بالحدث بطريقتي .. هذا كل ما في الأمر ..
– انكشفت ياصابر .. أي فرح وأي مزاج ؟ .. استمع إليها حينما تكون بمفردك .. أما وأنا معك .. فلا !..
– لك في فعلتك خلفية ما .. !
– أرجوك يا أمال . كفي من هذا الجدال العقيم .. ليس لي خلفية ولا أي شيء آخر .. كنت أظن أنها ستروقك نغماتها الموسيقية وتوزيعها العصري الذي يمزج الإيقاع الكناوي والألحان الشبابية ..
– يمكن أن أوقف تشغيلها إن أردت ..؟
– تبهرني بتحليلاتك لكل القضايا كيف ما كانت طبيعتها ..
أقاطعها مازحا ..
– يقال أن في الفراق إشتياق .. هههه ..
وأنا أحاول أن أبعدها عن موضوع الأغنية .. وأدغدغ مشاعرها برفق ..
– كيف جيتك ؟
– ألست محللا بارعا ؟.. لقد تدربنا أيام النضال وحلقات النقاش الطلابية .. أم نسيت صولاتك وخطاباتك المذهلة والمقنعة ..؟
تنظر إلي بتعجب .. ودون أن تعي ، وهي تهز رأسها تماهيا مع الإيقاع الكناوي الذي يبدو واضحا في موسيقى الأغنية .. ثم تجيبني بحسرة وهي تتأسف على زمن مضى بأحلامه وأوهامه ومشاريعه الوردية .. الزائفة ..
– لماذا هذا النبش في ذكريات إنتهت وباتت ماضيا بعيدا .. أتعلم أنني لم أعد أتذكرها أو أستشهد بإيامها رغم عذوبتها وحلاوتها أحيانا .. كانت تمثل بالنسبة إلينا انا وسعيد خلال السنوات الأولى من زواجنا وقبل أن نعتقل .. استمرارا لحياتنا الطلابية ، ونحن في وظائفنا أوكزوجين .. لم نتمكن من التخلص من ذلك الإندفاع والنقاش العنيف من أجل فرض رأينا إلا بعد أن استقر به المقام في السجن ..!
– خبت بعد ذلك تلك الفورة النضالية التي انخرطنا فيها مدة ليست بالهينة ، وأثرت على حياتنا الفكرية وأشكال تواصلنا مع الآخر ، الذي لم نكن نقبل منه إلا صنف كلامنا وأخوات أفكارنا ..
– عشنا يا صديقتي في الوهم والحلم مدة مهمة من حياتنا الطلابية والوظيفية .. أغفلنا فيها الإبداع والرقي بأفكارنا ومعارفنا العلمية والأكاديمية إلى مستويات أفضل .. أعتبر ، وعن قناعة أحيانا .. وقد أكون خاطئا .. أن فترة النضال العقيم الذي مارسناه ، مثل فراغا في حياتنا ومسارنا الأكاديمي ..
ماذا جنينا من تلك المرحلة .. التي يعتبرها بعض الزملاء .. ذهبية ..؟
– أظن أن الحكم على تلك المرحلة بنوع من التسرع لا يجدي .. فهي مرحلة تكونا فيها سياسيا وفكريا ، وتعلمنا فيها أشكال الحوار والإقناع والمناورة مع الأعداء .. كما التهمنا خلالها كتابات سياسية كثيرة ، إطلعنا فيها على الفكر الإشتراكي والشيوعي ونظرياته وعلى أبرز المنظرين الذين وضعوا أسس الفكر الأشتراكي العلمي ..
– صحيح .. ربما تكون وجهة نظرك مقنعة إلى حد ما يا صديقتي .. ولكن اسمحي لي أن أقول لك أننا فعلا تعلمنا تقنيات الجدل الدياليكتيكي .. وصرنا نستشهد في نقاشاتنا بالنظريات الإشتراكية العلمية وتطبيقاتها على أرض الواقع من خلال النماذج التي كانت معروفة وقتها ، والتي لم يكتب لها الأستمرار حتى وقتنا الراهن لتتبين علميتها وواقعيتها وقوتها في منافسة الرأسمالية والإمبريالية .. تبخرت وانمحت وتناثرت أشلاؤها .. لقد كانت مثالا صارخا على الوهم الذي غشانا آنذاك ، والذي زاد من ضبابيته ، تلك الخطب العصماء التي كنا نحضرها لزعماء اليسار عندنا ..
– لا تحمل الأشياء أكثر مما كانت عليه .. فالتجارب السياسية في بعض الأنظمة ، والتي اتخذت الإشتراكية منهجا للحكم نجحت على الأقل فترة زمنية طويلة في صد التوسع الأمبريالي للرأسمالية .. وأن العالم عرف توازنا وهدوءا طيلة ما يقارب ستة عقود ..
– نعم ولكن ما هو الثمن الذي أدته الشعوب في المعسكرات الإشتراكية ؟ داخل دول أوربية الشرقية .. خاصة إبان مرحلة الحرب الباردة ؟ .. لقد تفككت هذه الانظمة الصورية وتلاشت وفسحت المجال لكيانات دخيلة وهجينة وارتبطت عضويا بالرأسمالية الغربية .. العدو السابق الصديق الجديد !.. أما في الدول المتخلفة التي اعتمدت الإشتراكية منهجا للحكم .. فلا أتحدث عنها لإنها لم تظهر ملامحها أبدا بسبب سيطرة العسكر على كل شيء والخراب الذي تركته في شتى المجالات ، والمآسي التي تعيشها شعوبها حاليا ..
– الآن أصبح اليساريون يتحدثون عن الديمقراطية .. والتي كان لهم رأيا فيها من قبل .. بل إقتبسوا مفهوما جديدا أصبحوا يتغنون به .. الديمقراطية التشاركية .. يا لبلادة اليسار .. !
– تبدو لي متحاملا كثيرا على اليسار والإشتراكية ..
أقاطعها حتى أنهي فكرتي ، ولو أن السجال في مثل هذه القضايا أصبح غير ذي جدوى ..
– لا أتحامل على أي كان .. إنما أبين مدى وهن وضعف اليسار في اعتماد فكر مختلف قادر على إعتناق الواقع المتخن بالتناقضات والتجذر فيه .. اليساريون يا أمال في بحبوحة من العيش ، كما باقي زعماء التنظيمات السياسية الأخرى .. استطاعوا أن يكونوا شبكات حزبية وعائلية ومصلحية تغلغلوا بواسطتها في مختلف أسلاك الإدارة والتمثيل السياسي والدبلوماسي .. إنتهى زمن الوهم .. بل منهم من انقلب على عقبيه وأصبح إسلاميا لا يشق له غبار .. من أشرس المدافعين عن المباديء التي كان يعتبرها بالأمس رجعية .. وأفيون الشعوب ..!
أفلت مقولات الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج ..
إنتهت البرباغوندا التي عاش بها المعسكر الشرقي ، وبث سمومها في عروق ودماغ الجماهير المحبطة ..
الآن .. كاين أراسي أراسي .. هههه ..
رغم أن هذا النقاش أصبح متجاوزا .. بالنظر إلى التحولات العميقة التي مست الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، ليس فقط في دول المعسكر الشرقي كما كان يسمى ، بل في كل دول العالم ..
فإنه أغنانا عن حساب وعد الكيلومترات التي قطعناها ، أو ترقب الساعة لقياس المسافة المتبقية للوصول إلى وجهتنا .. كما تجاوزنا أيضا الجدال حول أغنية الشاوية ..
ونحن نقترب من هدفنا لاحظت أن أمال بدأت تغفو بين فينة وأخرى . فنصحتها بأن تعدل المقعد ليصير مواتيا للتمدد والإسترخاء .. وموسيقى أغاني رائدة فن العيطة فاطنة بنت الحسين تنبعث من مكبر الصوت ، وهي تصدح بأغنية ..
خارجا وديرا يديا فيديه .. هداك حبيبي ..