الحياة كما هي 12

مرت إلى حدود اليوم ثلاثة أسابيع بالتمام والكمال ، على جولتنا السياحية المعلومة .. شح التواصل بيني وبين أمال في هذه المدة بشكل كبير .. بتنا نقتصر في تواصلنا على بعض الرسائل النصية .. وبضع دقائق قصيرة من المكالمات الهاتفية النادرة .. لا نقول فيها الكثير .. نبدو كما لو أننا حديثي العهد بالتعارف .. نتحفظ في كلامنا كثيرا ونختار الألفاظ المناسبة بنوع من الإنتقاء المبالغ فيه أحيانا .. حتى صوت أمال لم أعد ألمس فيه نبرة الحيوية والإنفعال ورواسب الماضي النضالي .. أصبح أنثويا أكثر .. وخافتا في غالب الأحيان .. كما لو أنها تخفي حديثها معي خوفا من أن يضبطها أحد ما ..
لست أنا من كان سباقا إلى الإمساك عن التواصل . فقد بادرت بالإتصال بها غداة رجوعنا من السفر ، غير أنها أحجمت عن الرد على مكالمتي في البداية ثم أتبعت المكالمة بعدد من الرسائل القصيرة .. ثم لخصت جوابها عن رسائلي في كلمات قليلة .. “شكرا إلى اللقاء “.. فما كان علي إلا أن ركنت إلى الهدوء والترقب ، والتمست لها عشرات الأعذار ..
فقلت لربما أمال محرجة ، أو أنها خجلت قليلا من سلوكها معي أثناء زيارتنا لمعرض المنتوجات التقليدية التي إقتنت منه الهدايا ، ونحن في طريق عودتنا إلى حال سبيلنا . اعتبرت نفسها تجاوزت حدود الصداقة واللياقة المطلوبة في مثل نوع علاقتنا .. أو أنها انزعجت من موقفي حينما حجزت غرفتين منفصلتين في الفندق الذي آوينا إليه أثناء زيارتنا لمدينتنا الجبلية . مع أن المنطق يقتضي ما أقبلت عليه من تصرف .. أو قد أكون قمت بفعل يتجاوز اللباقة والآداب أثناء تجولنا في مدينتنا .. أوخلال حديثنا حول مختلف القضايا التي ناقشنا ..
في الحقيقة إختلطت علي الأمور كثيرا ، ولم أعد قادرا على الحسم في أسباب هذا الفتور الذي اجتاح علاقتنا فجأة بعدما كنا نتواصل بشكل دائم .. وفي كل وقت وحين ، وخلال ساعات .. لم نكن نبالي أثناءها بالزمن .. ولا بما نقول .. كنا نتحدث في أي شيء .. ونضحك كثيرا ونحن نتواصل ..
أحيانا أخرى أفسر هذا الفتور المفاجيء أو الطاريء .. برجوع أمال إلى العمل بعد إنقضاء عطلتها السنوية .. حيث تعيش كما معظم الموظفين نوعا من الإرتباك في الأيام الأولى من العودة إلى العمل .. فتنقطع تلك العادات والسلوكات التي ذأبوا عليها خلال عطلتهم السنوية .. ويكون الإنتقال من وضعية الراحة والخمول أحيانا إلى وضعية العمل والحركية المرتبطة به ، مؤثرا ومربكا ..
ربما تعيش أمال نفس الحالة أيضا ، إنما تزيد هي على ما يعانيه الآخرون أصنافا إضافية من الإنشغالات ، بالنظر إلى طبيعة عملها ، حيث يتم تدشين الموسم الجديد سنويا بالعمل المرهق ، وبالإنكباب على عدة ملفات أساسية ترتبط دائما بإنطلاق كل دخول إداري جديد .. وقد حكت لي عن هذا الأمر بإسهاب خلال سفرنا ..
ولربما انشغلت بمساعدة والدتها في تجاوز محنتها مع المرض والحمية وممارسة رياضة المشي ..
إنما لم أعلم أنه سيشغلها كل هذا إلى الحد الذي تمسك فيه عن التواصل معي ..
أنا صديقها صابر !
قالت لي أنه في كل موسم جديد تستنفر الوزارة جميع مواردها البشرية لتتمكن من إنجاز كل متطلبات الأوراش الثقافية التي تضطلع بها .. وعلى رأسها الإستعداد للمحطات الثقافية المحددة حسب أجندة ثابتة ..
كالتحضير للجوائز الوطنية الخاصة بكل المجالات الأبداعية والثقافية ..
أو الإستعداد للتظاهرة الثقافية الدولية الكبرى المتمثلة في المعرض الدولي للنشر والكتاب ..
وغيرها من الأوراش التقافية التي تفتحها الوزارة ..
تنخرط أمال في معمعة التحضير والإشراف والتنسيق باعتبارها المسؤولة عن قسم النشر والكتاب في الوزارة .. من هنا يأتي حسب اعتقادي ، إنشغالها المفرط ، وتجاوزها أحيانا للساعات القانونية في العمل إلى ما بعد مغادرة معظم الموظفين لمكاتبهم .. فلا تجد الوقت المناسب للتواصل .. فالإرهاق عادة يحول دون القيام بمثل هذه الأمور ..
أتفهم وضعها من خلال هذه الملاحظات ، وحين تتبعي لمجريات عملها بهذا الشكل . فأتجاوز عنها فتورها في التواصل معي ..
ثم إنها صديقة لا أقل ولا أكثر .. ليس لي عليها سلطان ، وليس من حقي أن أطالبها بتقديم تفسير مقنع لسلوكها .. إنها حرة في تصرفها وفي عيش حياتها كيف ما شاءت .. مالها ومالي ؟ حتى آمرها بشيء لا يحق لي المطالبة به .. !
ثم قلت .. الغايب حجتو معاه .. فأنا لا أعلم الغيب ! قد تكون وقعت أشياء لا أعلمها ، ولم ترد أمال إطلاعي عليها .. قد تصنف سرا أو قضايا ترتبط بحياتها الخاصة ..
تجتاحني تخيلات متنوعة وتساورني شكوك وتساؤلات عديدة حول هذ القضية التي أضيفت إلى مشاكلي ومعاناتي المتشعبة .. فزاد هم التواصل مع أمال إلى ثقل ما أحمله من هموم ..
هل تعيش هي نفس المعاناة مع قلة التواصل بيننا أيضا ؟ أم أنها لا تحسب للإمر أي حساب . لأنها هي من حددت وثيرته وهي من تتحكم فيه .. !
تذكرت ، في خضم التفكير في ما خلفه قلة التواصل مع أمال ، تلك الروايات التي كانت قد أعارتني إياها لأقرأها على مكث .. وهي روايات لكتاب محليين ، تختلف من حيث التيمات المشتغل عليها ، وتقنيات السرد المتبعة .. فأرادت أمال أن أستنبط من قراءتها تصوري لطريقة الكتابة التي أحاول استحضارها كلما تناولت موضوعا ما في محاولاتي الإبداعية ..
إنما ، وهذا أمر متفق عليه مسبقا ، ولا يختلف حوله إثنان .. أن إمتلاك ناصية الكتابة والتأليف يتأتى بكثرة القراءات وتنوعها ، وتدبر معاني الألفاظ والتراكيب ، والإحاطة بمقومات وقواعد اللغة عموما ، ولغة الكتابة على الخصوص ..
كنا ناقشنا معا .. أنا وأمال هذا الموضوع وقد قامت على إثره بمدي ببعض الكتابات والإصدارات التي تتوافق مع إهتماماتي الإبداعية ..
سأنهي قراءة هذه الإصدارات وأعيدها لأمال حتي لا أنساها ، وقد أضيعها لا قدر الله ..
يا إلهي ! لا أكف عن التفكير في أمال .. أصبح الأمر ملفتا بالنسبة لي ومرهقا ! .. عجبا ! في السابق كنت لا أهتم .. ألتقي بها أحيانا وأجيب عن مكالماتها إن شئت .. أو على رسائلها النصية التي تصلني منها .. إنما كنت آخذ كل وقتي في الرد وفي الإهتمام بها .. لكن قبل موعد السفر بأيام ، وأمام تزايد وثيرة توأصلنا آنذاك ، حين مناقشة التدابير التي كان علينا إتخاذها أثناء السفر ، بدأت أحس بإزدياد منسوب إهتمامي بأمال . وقد تأكد لي هذا الإهتمام بصورة جلية ، خلال سفرنا والمدة التي أقمنا فيها هناك ، وخاصة منذ عودتنا ..
لا أدري هناك أشياء ما تشدني إلى أمال وتغمرني أحيانا مشاعر من نوع خاص تمتزج فيها اللذة والخوف .. وتتأرجح في دواخلي بين الإندفاع والسكون ، وتدغدغ نبض قلبي ويزداد خفقانه كما لو أنني أنتظر شيئا ما .. مفاجأة سارة .. شخص عزيز .. أخبار .. لا أستطيع ضبط وصفي لهذه المشاعر التي باتت تسكن قلبي ..
ماذا ستقول عني ؟ إن هي لاحظت كل هذا الإهتمام بها من قبلي ، أو علمت به ؟ ربما ستؤوله حسب فهمها تأويلا سلبيا .. ستضعني لا محالة في خانة معينة .. أو ربما ستتحفظ مستقبلا في علاقتها معي . قلت ربما .. !
أتذكر في آخر مرة تواصلنا فيها ، كانت بواسطة الهاتف .. أجابتني باقتضاب كبير حينما سألتها عن حالة أمها الصحية .. وهي التي كانت تسهب في ذكر التفاصيل المملة والتدقق في توضيح حالتها ومآلها مع الدواء والحمية ورياضة المشي .. الآن لم تتجاوز الحمد والشكر . ووصفت تخطي والدتها لمحنتها مع الأزمة واسترجاع عافيتها تدريجيا ، بدون تفصيل في الأمر ..
سأنتظر أول أيام الأسبوع لأذهب إلى مقهانا المفضلة لعلي أشاهدها مارة بالشارع القريب فأستفسرها عن هذا الفتور في التواصل .. وسأدعوها لتشاركني فنجان قهوة ..
أمال تحبها قهوة عادية مهيأة بعناية كبيرة ..!
تحب أن تتلذذ قهوتها في جو هاديء بل لها طقوسها الخاصة !
أمال تحب القهوة .. وأنا أحب القهوة .. ويزداد حبنا لها حينما نشربها معا .. ومقهانا المفضل الهاديء مناسب جدا للقاءاتنا ولاحتساء قهوتنا .. كم كنت أسعد بوجودي معها هناك .. وكم كان يطيب لنا المقام معا ..
قد يرافقني صديقي حليم إلى المقهى حتى لا تحرجني برفضها الجلوس معي ..
وماذا سيكون موقف حليم وردة فعله إن هو إطلع على قصة أزمة تواصلنا أنا وأمال .. ؟
لا .. لن أفعل !
آه كدت أنسى موعدنا أنا وحليم .. سيغنيني ربما هذا الموعد عن التفكير في أمال ولو إلى حين .. سأتصل به لنقرر في زمن الموعد ، فقد ترك لي صلاحية تحديد الوقت المناسب .. سي حليم رجل طيب وخدوم ومتفائل أكثر من اللازم ، رغم إلحاحه أحيانا في السؤال عن أشياء تبدو لي خاصة جدا .. رجع لتوه من المدينة التي يقيم ويعمل فيها إبنه .. قضى بها عطلته السنوية .. استمتع فيها مع أحفاده من خلال مجاراته لهم في مشاكساتهم ولعبهم في رمال الشاطيء والحدائق ، وحتى داخل المنزل !.. أمطرني بعدد هائل من الصور والتدوينات التي أظهرت بشكل مفصل هذه المتعة ..
يحكي لي كثيرا عن حمايته لأحفاده من بطش أبويهما بهم كلما بالغوا في الشغب .. وكيف أنه كسر تلك العلاقات والحدود والمحظورات التي رسمها الأبوان لأبنائهما سابقا .. فيكون سببا في زعزعة النظام الذي دأبوا عليه قبل حلوله بينهم .. يحكي وهو منتشي بما قام به من أفعال وسلوكات .. ويروي كل صغيرة وكبيرة عن أحفاده ..
ويردد تلك المقولات التي تعزز مكانة الأبناء والأحفاد في قلوبنا وفي حياتنا الإجتماعية ، وتمثل ذلك التوازن النفسي والروحي الذي يحرم منه من لم تحقق له هذه الأمنية .. وقد أثارني كثيرا ماحصل مع أمال حينما التقت بصديقتها بشرى وأبنائها ، ونحن في مدينتنا الجبلية .. وكيف سلمت عليهم واحتضنتهم وأقسمت أن تؤدي عنهم ثمن المثلجات التي اختاروا . بل دعتهم وهي تلح عليهم أن يطلبوا ما اشتهوا وما طاب لهم من أنواع أخرى إضافية .. فحز في نفسي ذلك المشهد ، وأثارني كثيرا ما تعانيه أمال من حرمانها من الخلفة .. وفهمت بل وأدركت جيدا أسباب ثورتها كلما كانت تسمع أن سعيد ، طليقها ، رزق بمولود جديد .. كانت تتغير نفسيتها وتتلاشى كل ضوابط الإيمان لديها بشكل يجعلني أتوجس من تبعات تلك الثورة وانعكاسها عليها ..
سبحان الله .. “يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ..”(الشورى 50-49) ..سنة الله في خلقه .. إنها الحياة علينا نحن بني الإنسان أن نتقبلها كما هي ..
نعمة الأبناء يجسدها صديقي حليم في إثارته لموضوع شغب أحفاده .. ويعزز موقفه بتلك المقولة التي تزكي سلوكه معهم ..
أعز من الإبن إبن الإبن . !
أتحفظ كثيرا أثناء لقاءاتي مع أمال في الحديث عن أبنائي .. أو أن أسرد تفاصيل عن حياتهم في الماضي ، أو أستعرض أمامها بعض ذكرياتي معهم .. كما يحلو للبعض أن يفعل دون اكتراث بالآخر الذي يكون محروما من هذه النعمة .. فحديثي مع أمال ينصب أساسا على القضايا التي لا تدمج مشكل الأبناء إلا نادرا ، أو إن أستفسرت هي عن ذلك ، حين يتداخل الحكي وتتشابك الأحداث في ما بينها ..
خلال تواجدنا في مقهانا ، أنا وصديقي حليم .. فضلت الجلوس في سقيفتها حتى أظل مواجها للشارع الذي تمر منه أمال بسيارتها .. ربما ترقبني فنتحدث قليلا وأستفسرها عن سبب هجرانها للتواصل معي .. أو قد أدعوها لفنجان قهوة .. حتى أنني لم أكن أستمع لحكي صديقي حليم وهو يروي أشياء إضافية عن عطلته .. أحيانا أجده يضحك ، ولا أدري ما العمل ؟ هل أجاريه في ضحكه أم أصمت .. فيتسبب لي ذلك في قليل من الإحراج .. أتلعثم في ردي لأنني كنت خارج التغطية ..! لاحظ صديقي هذا الشرود .. ونبهني إن كنت مشغول الذهن بأمور طارئة أو أنتظر شخصا ما ..؟
فأجبته بالنفي ، وأنا أنتقل ببصري يمنة ويسرة ، أرقب السيارات التي تسير في الشارع ، خاصة خلال هذا الوقت من اليوم الذي يصادف رجوع الموظفين إلى حال سبيلهم .. أبحث عن أمال من بين هذه الوجوه التي تمر أمامنا بلهفة لا مثيل لها .. وأنا آمل لو تتحول هذه الوجوه كلها إلى وجه واحد ..
وجه أمال ..!
وأعلل سبب سهوي بوضعيتي الإجتماعية والنفسية التي أنا عليها ، حينما يباغتني صديقي حليم في شرودي .. وأنا واثق من أن المسألة لا تنطلي على سي حليم .. لأنه ذكي وحذق ويؤول كل حركة وكل نظرة وكل فعل أقوم به في حضوره ..
إنما لا أبالي ..
طال جلوسنا في المقهى حتى غربت الشمس وأسدل الليل رداءه على الفضاءات المحيطة بنا .. وأضاءت أعمدة الكهرباء الشوارع .. فقمنا راجعين إلى منازلنا ، وأنا أجر ذيول الخيبة من عدم تحقيق أمنيتي ..
رؤية أمال ..
بينما شعرت أن صديقي حليم لم يستمتع بصحبتي في المقهى هذا المساء وكما هي عادتنا ، حيث نتداول في مختلف المواضيع ذات الصلة بالحياة عامة .. إنما تحمل هو وحده عبء الحديث بسبب ما كنت عليه من عدم الانتباه والتركيز والإستجابة لحكيه .. لكن ستعوض في المستقبل . أنا أعرف أن صديقي حليم يتجاوز عني مثل هذه الهفوات ..
عدت بخف حنين .. كما يقول المثل ..!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top