الحياة كما هي 14

لم أتمكن من تجاوز الأنفعال الغريب الذي إنتابني جراء التواصل المفاجيء مع أمال هذا الصباح .. لم تعد تسعني الفضاءات التي أنا فيها ، بل أصبحت نفسي تتوق إلى فضاء أرحب وهواء أكثر .. من شدة فرحي بانفراج أزمة تواصلنا ، والإثارة التي خلقتها هذه المكالمة على نفسيتي .. فأشعلت في جسمي جذوة من الحماس لم أكن أحس بها سابقا ، من فرط ما عشعشت الهموم عندي ، جعلتني أقبل وبنشاط منقطع النظير على الحياة من جديد وبتفاؤل أقوى .. قصدت المقهى مبكرا .. قبل زمن الموعد بأكثر من ساعة .. وأنا أتلهف لرؤيتها والجلوس معها والتحدث إليها كما لو أنها كانت مغتربة في بلاد بعيدة ..
أخذت مجلسي في الركن المعهود من سقيفة المقهى .. وهو المكان الذي دأبنا على الجلوس فيه معا .. الفضاء هاديء إلا من قهقهات بعض الزبناء .. عادة ما يكون فارغا من الرواد في مثل هذا الوقت من النهار .. لم ينتظرني النادل حتى أسترجع أنفاسي ، وأستقيم في جلستي .. فقد حضر إلى طاولتي بسرعة كما لو أنه كان يعلم بمجيئي ..
– لم تمهلني كثيرا كما عادتك سيدي ..؟ ما الأمر ؟
– مرحبا أستاذ .. لا شيء سوى أن الزبناء لا زالوا لم يتوافدوا إلى هنا في هذه الأوقات كما ترى .. فأردتك أن تستفيد من خدماتي بأريحية .. هههه ..
– فليكن .. أذا قهوتي المعتادة .. والجرائد ..!
– حاضر سيدي .
انصرف النادل لتحضير طلبي .. وأنا أركز نظري على الجهة التي عادة ما تأتي منها أمال .. ولو أن الوقت لازال مبكرا .. إنما ألتفت بين الفينة والأخرى إلى هناك .. ولسان حالي يقول .. ربما ..!
أرشف من فنجاني رشفات متتالية ونسائم القهوة تملأ أنفاسي برائحتها الزكية .. وأنا أمرر عيناي على عناوين صفحات الجريدة بدون تركيز أو إهتمام بين .. كمن يبحث عن خبر تائه بين السطور . ثم أنتقل إلى وسط الجريدة محاولا حل ألغاز الشبكات الذهنية والكلمات المتقاطعة . إلا أن قلمي وعقلي لا يسعفاني .. فأضعها جانبا ، وأفعل نفس الشيء مع الجريدة الثانية ..
أشعر باضطراب ورعشة في جسمي ودقات قلبي تزيد مع اقتراب زمن الموعد .. وعيناي لا تبرح شاشة الهاتف ترقب الساعة على امتداد الوقت .. يا إلهي قد ينفضح سري عندما تصل أمال وتراني على هذا الحال .. بماذا سأجيبها وكيف أقنعها أن الأمر عادي ..!
وفي غفلة مني وبالرغم من مراقبتي للوضع .. وصلت أمال دون أن ألاحظ مجيئها حتى اقتربت من طاولتي ..
رشيقة خفيفة الظل .. مبتسمة بلباس رياضي أنيق كامل .. ماهو بالفضفاض ولا بالضيق .. تجمع شعرها إلى الخلف وتلف عليه شريطا مطاطيا من نفس لون شعرها ، مما جعل ملامحها تبرز أكثر .. زادتها النظارات الشمسية بهاء وحسنا .. ألقت علي التحية وهي تتأهب للجلوس أمامي .. وقفت لأحييها ثم جلسنا في نفس الوقت ..
– مرحبا أمال لم ألحظ مجيئك حتى دنوت مني ..
– كنت منشغلا بهاتفك .. ربما ..
– أرقب الساعة لا تبين وقت الموعد ليس إلا ..
– لا عليك .. كيف حالك صديقي مع مشاكلك ووحدتك .. ؟
– الحمد لله .. نداول الأيام .. ونعيش الحياة كما هي .. لا تبديل لحالي .. إنما تخرجينني من وحشتي بتواصلك وبدعوتي لنلتقي هنا في هذا الفضاء الهاديء ..
– أحس بنفس الشعور بالرغم من وجودي مع والدتي .. أعاني من الوحدة في أعماقي .. تحاصرني وحشتي أنا كذلك من كل الجوانب .. إنما نتحرر من مثالبنا بين الفينة والأخرى كما قلت .. وهذا مهم للحفاظ على توازننا النفسي على الأقل ..
– كيف هو حال الوالدة الآن مع أزمتها ..؟
– حالتها مستقرة ، بل تحسنت كثيرا مقارنة مع السابق .. إنما يلزمني مراقبتها على الدوام ..
– أعانك الله في مهمتك صديقتي أمال ..
صمتنا قليلا ثم أزحت نظارتي الشمسية من على عيناي .. وطلبت من صديقتي أمال أن تحتفظ بها تزين محياها .. أجدها تضفي عليها مسحة جمالية تذكرني بفنانات الدراما ونجومها ، والمشاهير وهم يتحدثون إلى معجبيهم أو يتجولون في الفضاءات العامة ، أو في وضعيات حميمية يقتنصها المصورون الإنحشاريون ، صورا لهم في هيآت مختلفة لا تشبه ما يكون عليه العامة من الناس .. هكذا تخيلت أمال جالسة أمامي وهي تضع نظراتها ..
لكنها أزاحتها ..
فتوقف إعجابي بها ، وانقطع حبل تخيلاتي ، معللة حركتها بالعمل بمدأ المساوات حتي نرى بعضنا البعض بنفس القدر من الواقعية والتلقائية ..
لا أمانع .. لكن حينما توجه نظراتها إلى مباشرة ترديني مقلتيها بذلك البريق الساحر الذي يقتلني مرات متعددة ، ويصيب سويداء قلبي بسهامه الملتهبة ..
هل تحس أمال بحالي ..؟ لم أبح لها بموتي من وقع وميض عينيها علي كل مرة .. حتى لا أتسبب لي أو ربما لها ، في إحراج لاحاجة لنا به اللحظة . فهي لا تحب من يفرض رأيه وأفكاره عليها .. كيف ما كانت طبيعة هذه الأفكار . تفضل التقاسم بعد النقاش وإعطاء وجهة نظرها .. إنه بعض ما تختزنه ذاكرتها من رواسب الماضي النضالي .. أحس بذلك .. بل حدث أن ذكرتها بهذا الإحساس مرات ، وضحكنا كثيرا على مصطلح .. “الماضي النضالي” .. وهي تذكرني بالمثل الشائع ..
– .. يلا مشا الزين تيبقاو حروفو ..! ههه .
إغتنمت فرصة ذكرها لكلمة “الزين” في مجرى حديثنا . فانطلقت أثني على جمالها .. وأمدح في ” زينها ” دون أن أدري حالي وأنا أتكلم ..
– علاش .. زوينة لا زلت زوينة .. وبزاف عاد ..! شباب طراوة ثقافة .. ثم أستفيق على كلامها وهي تقاطعني ضاحكة ..
– مابك ياصابر ؟ .. ههه .. هل تتغزل في صديقتك ؟ لم أسمع منك هذا البوح من قبل .. وبهذه الطريقة العذبة .. ماذا دهاك ..؟
– الرجوع الله .. هههه
ثم تتبع كلامها بضحك أنار ملامحها بإشراقة بهية ..
ارتبكت قليلا وأنا أحس بقلبي يخفق .. يخفق لها وينشر دفء الحب في كل أضلعي .. وأنا أضغط على نفسي حتي لا ينكشف أمري .. ربما لازال الوقت مبكرا لكي أبوح لها بما يخالجني .. لكن الجوى يعذبني أحيانا ..طال الأمد على حالي وأصبحت أعاني من التفكير فيها بعيدة عني ، أوهي أمامي ومعي ..
أحبها ، وأذوب صبابة من حر الشوق إليها ، ومن هواها .. سأقولها سأعلن حبي لها ، ولتذهب تبعات تصريحي إلى الجحيم .. !
قطع النادل حبل هيامي وشرودي وأنا أردد مع نفسي مكنوناتي من العشق الذي أحمله في قلبي لصديقتي أمال ..
– مرحبا أستاذ .. هل أهيؤ لكما قهوتكما كما العادة ..؟
– أريد عصير برتقال بارد قليلا ..
تغير أمال طلبها المعتاد وتؤكد على برودة المشروب ..
– ماذا ؟ لن تشربين قهوتك ؟
– شرب القهوة يتطلب مزاجا ووقتا لارتشافها بهدوء وترو .. سوف لن أطيل الجلوس معك .. أعذرني صابر لدي إلتزامات عائلية .. ثم إنك شربت قهوتك كما يبدو من الفنجان الفارغ أمامك ههه..!
– إذن كما سمعت سيدي .. إنما هيء لنا اثنين وليكونا باردين ..
– حاضر سيدي ..
– ما رأيك أمال ؟ لنحتفل باللحظة .. بطريقتنا .
تبتسم أمال دون أن تنبس بأي لفظ . أنظر إلى عينيها فأجد في نظرتها قليلا من القلق .. وشيئا من أثر الإزعاج الذي سببته لي حينما أعلنت عن قرب انصرافها ..
– هل هناك خطب ما صديقتي ؟
– فقط علي أن أعود إلى المنزل لأصطحب والدتي في حصة المشي التي دأبنا على ممارستها معا .. وعلي أن أتهيأ لأمور أخرى …
– لكنك أخبرتيني سابقا أن حليمة بنت خالتك هي من تضطلع بهذه المهمة .. أليس كذلك ؟
– نعم .. لكن أكتشفت أنهما تقضيان وقتا مهما جالستان في الحديقة القريبة من هنا .. ثم تعودان إلى المنزل كما لو أنهما أديا حصة رياضة المشي كاملة ..
– وكيف عرفت هذه الخدعة .. هههه .؟
– حينما ذهبت حليمة لزيارة أهلها .. حكت لي والدتي الأمر ، ونحن نمر بجوار الحديقة أثناء إحدى حصص المشي .. وطلبت مني الجلوس لنستريح قليلا !
– لهذا قررت أن أتولى مهمة الإشراف على حصة رياضة المشي بنفسي حتى تعطي أكلها .. وإلا قد تفاجيء الأزمة والدتي من جديد !
– حفظك يارب !.. خيرا فعلت صديقتي .. ماحك جلدك مثل ظفرك ..
– صحيح .. لقد أصبحت أشك حتى في أخذها للدواء ، ولو أنني أؤكد عليها بضرورة الإلتزام بنصائح ووصفة الطبيب بشكل دائم . إلا أن حادث الإستراحة في الحديقة أربكني .. شيئا ما .
– ماذا عن موضوع اللقاء ؟ شغلني كثيرا .. أنا كلي آذان صاغية .. هات ما عندك يا صديقتي ..
– آه نعم .. أخذني الحديث عن حالة والدتي .. وكدت أنسى الأمر ، معذرة ..
– أردت أن أخبرك أنني مقبلة على سفر خارج الوطن في مهام ترتبط بالشغل في إطار وفد رسمي .. يضم حوالي خمسة أشخاص .. سنسافر إلى بلد أوربي …
– لا بأس .. سأسشتاق إليك ! .. وكم مدة الإقامة ..؟
سكتت أمال قليلا لما ذكرت إشتياقي لها خلال سفرها ، وهي تنظر إلي نظرة مختلفة توحي بالأمر نفسه .. ثم استرسلت في حديثها ..
– ربما أسبوعا أو أقل أو ربما أكثر .. لا زلنا لم نضبط بعض التفاصيل المرتبطة بالمهمة كاملة ..
– سنحضر انطلاق أنشطة المعرض السنوي بهذه الدولة الذي يفتتح في مثل هذه الفترة من كل عام ، وهو من المعارض الثقافية والعلمية والفنية الدائعة الصيت عالميا .. نحن نرتبط معها بعلاقات شراكة ثقافية متينة .. كما أن وزارتنا اقترحتها ضيف شرف خلال معرضنا للكتاب والنشر المزمع عقده في نهاية السنة ..
– ستكون مهمة دقيقة وفعالة ومثمرة على المستوي الثقافي والعلائقي بدون شك ..
– أتفق معك صديقي ، فإرتباطنا ثقافيا مع هذه الدولة الصديقة يحتم علينا التحرك في هذا الظرف بالذات .. لقد سبق الإستعداد لهذه الزيارة خلال أيام اشتغلنا فيها على هذا الملف بجدية وبذلنا مجهودات مضنية ، ولا زالت بعض النقط لم يحسم فيها بعد ..
– أتفهم جيدا إنشغالاتك وأقدر فيك هذا الإهتمام وهذا الحب لعملك ..
– بالمناسبة ، لقد أخبرت والدتي بإمكانية اللجوء إليك إن طرأ طاريء على حالتها الصحية لا قدر الله .. فأنا من اقترحتك لهذه المهمة .. وقد سلمت رقم هاتفك لحليمة .. وسأعطيك رقمها الآن .. فكرت كثيرا في الأمر قبل أن ألجأ إليك .. ولو أنني لم أخبرك مسبقا .. تبين لي أن صديقي صابر أفضل من أهلنا .. لأسباب سأحكيها لك لاحقا …
– على الرحب والسعة صديقتي .. أتمنى أن تكون والدتك بخير وعافية خلال غيابك .. إنما أكدي عليها مرة أخرى بضرورة الإلتزام بتعليمات الطبيب حرفيا ، وبدون اجتهاد منها ..
– أكيد .. لأن التهاون والتراخي في اتباع توجيهات الطبيب قد تكون نتائجها وخيمة لا قدر الله ..
– أعذرني صديقي صابر مرة أخرى .. سأعود إلى المنزل الآن . هذا كل ما كنت أود قوله لك .. أتمنى أن تقبل اعتذاري لأنني أقحمتك في مشاكلي العائلية ومعاناتي .. ولم أشاطرك شرب القهوة ..!
– إعتبريني من أهلك .. أليس الصديق أخا لم تلده لك أمك .. كما يقول المثل ..!
– كيف ستلتحقين بالمطار ..؟
– آه فعلا .. كل ما يتعلق بالرحلة ستتكلف به الوزارة .. فالمهمة رسمية وبالتالي ستوفر إدارتنا كل الوسائل لتتم الرحلة في أحسن الظروف ..
– سنتواصل كما العادة .. إنما مرة أخرى أعتذر لك .. فأنا من سيتولى أمر التواصل بيننا .. خوفا من أن أنزعج أو قد لا أجيبك ربما أكون منهمكة في العمل ..
– على راحتك صديقتي .. خذي كل التدابير الضرورية والإحتياطات اللازمة لتيسير سفرك ومهمتك ولا تشغلي بالك .. المهم أن تسافري وترجعي بسلام آمنة غانمة ..
– شكرا صابر .. إلى اللقاء ..
غادرت صديقتي أمل بنفس السرعة التي أتت بها .. راقبتها بناظري وتابعت اختفاءها بين المارة .. لم أتلذذ جلوسها معي ولم أسكب ما بقي في خاطري من كؤوس الشوق .. حتى غادرت بخطوات خفيفة وهي تسرع لمهام أخرى تنتظرها ..
ارتبك برنامجي ولم أعد أعرف ما يلي اللقاء .. ماذا أفعل ؟
هل أعود إلى المنزل ؟
أحس بفراغ قاتل .. !
إرتميت في مقعد السيارة وشغلت المحرك ثم انطلقت هائما في أرض الله .. لا ألوي على شيء ، ولا أحدد إتجاهي .. أسير ألى مكان ما .. وأنا أسترجع اللحظات الجميلة المليئة بعبق الشوق والحب الذي أكنه لأمال دون أن أفرج عنه لتعلمه هي ..
قادتني اشواقي إلى البحر ، إلى الشاطيء .. بعد أن لمحت لوحة تشير إلى إتجاه الطريق الموصل إليه ، فعرجت إلى هناك ..
ينسيني النظر إلى البحر هواجسي وتخيلاتي .. ومعاناتي ، ويطفيء لوائع أشواقي .. ولو للحظات .. أسافر في زرقة مياهه وأصوات إنكسار أمواجه ، وأنا أشعر كما لو أنه ينقلني من وضع نفسي معلول إلى حالة الإنفراج والإنبساط ، والحركة والنشاط .. ويحررني من تلك القوقعة التي أنحشر فيها مع مشاكلي وهمومي على الدوام .. أشعر وأنا أهيم بنظري في مياه البحر ، كما لو أنه ينقلني من ضيق الفضاء الذي أعيش فيه ، إلى فضاء أوسع وأرحب .. أرتب في عقلي كل ما يشغلني ، وما أريده في معيشي اليومي ، وأحيانا في زماني المتوسط المدى أوالبعيد .. أغوص في أعماقه وأنا أحس بالإطمئنان والإنشراح .. أتخيل نفسي أتجول مع أمال في البلد الذي ستسافر إليه .. أفعل حماقات كثيرة حين أنظر إلى البحر ، وأضحك من غبائي وخيالي الذي لا يستقيم أبدا ..
لا زال الشاطيء والفضاء القريب منه فارغين إلا من بعض السيارات القليلة .. هذا الفضاء الطبيعي الجميل يمكن مرتاديه من تأمل الغروب وتلون الأفق بألوانه الساحرة . فيستمتع العشاق بلحظات أفول الشمس وإعلان نهاية يوم من حياتنا .. سأرحل حينما يفدون إلى هذا المكان بكثرة ، ويمتليء بهم …
وسأعود بصحبة أمال ذات أمسية إلى هنا ، إلى هذا الفضاء الجميل ، لنودع أشعة الشمس وهي تحمر فرحا بحبنا وبالتآمنا في قصة عشق سنكتبا ونرويها للبحر للأمواج وللعشاق .. لا محالة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top