غبت لحظات عن واقعي .. عن زمن مقهاي الذي أفضله في هذه الساعة بالضبط من كل عشية .. سرحت في دروب مآسيي التي جرفتني فجأة وأخذتني إلى أعماق متاهاتها .. لم أكن أتوقع حدوثها خاصة في هذا الظرف بالذات الذي أمر به والمتخن بالآهات والمطبات .. ألتقط إشارات متناثرة قد تضيء لي غياهب النفق الذي أدخلتني إليه المكالمة التي أجراها معي إبني قبل وقت وجيز من الآن .. مكالمة كانت كافية لتنقلب أوقاتي وتختلط أزمنتي وتدعني أتوه عن طريقي.. وأنا أتساءل بحسرة وحرقة ..
– لماذا يخاطبني إبني بهذه الطريقة الفجة .. العنيفة ..؟
– لم أعهد فيه مثل هذه الهفوات .. أنا الأب الذي ….
– هل كان جوابي عن طلبه في الإلتحاق بالمنزل خاطئا ..؟ أو يحمل تأويلا غير الذي قصدت به موقفي من الضيف ..؟
تناثرت الأسئلة على لساني وبلغت شظاياها كل مساحاتي النفسية والوجدانية ..وألمتني كثيرا ..
أستفيق على رنات الهاتف مرة أخرى .. أنظر إلى الرقم المسجل على الشاشة .. أحاول قراءته .. لم أتمكن من إستبيان أرقامه .. خيل إلي كما لو أنها تتحرك لتزيد من محنتي .. حتى الهاتف يعاكسني .. ضبطت أخيرا الرقم ..
– مرحبا أمال كيف الحال ؟
– أين كنت .. أقلقني تأخرك في الرد ؟
– أنظر كم مرة ناديت عليك ألا تريد أن تتحدث معي ؟
– ماذا بك .. كفي عن مناوراتك .. لم أكن بجوار الهاتف ..
– يبدو واضحا من عدد المرات التي ناديت فيها عليك !
– اين كنت ؟ هل أنت بخير ؟
– نعم والحمد لله عالي العال ! لا يخصني إلا النظر في وجهك الصبوح .. هههه ..
– أنت تريد أن تغيظني دائما .. وأنا أتحملك .. لكن ..
– هل هذا تهديد ؟ أم وعيد ؟ هههه ..
– إعتبره كما تحب وترضاه .. أما أنا فقد أنهكتني سخريتك السمجة ، الثقيلة .. ولكنه نصيبي .. وقدري ..
– لنعد إلى موضوعنا ..
– أي موضوع يا أمال ؟
– التأخر في الرد على ندائي ..!
– ألم ننه الموضوع ؟ وقلت لك أنني …
تقاطعني وهي تسرع في كلامها .. وحدة نبرة صوتها ترتفع تدريجيا ..
– لم تقل شيئا .. أين كنت لما ناديت عليك كل هذا الوقت ..؟
– آه تبا للذاكرة التي أصبحت تشيخ قبل العضلات .. كنت يا صديقتي أمال في زيارة خاصة لدورة المياه .. زرتها للمرة الثالثة في ظرف عشرين دقيقة ..
– أه أين أنت إذن ؟
– لا يذهب تفكيرك البائس إلى تلك النوايا السيئة التي يمليها عليك عقلك بكرة وأصيلا .. أنا يا ستي في المقهى المعلومة ، وقد تلقيت مكالمة أربكت كل جزء في جسمي المنهك التعبان ، المثقل بالهموم …
– ممن كانت المكالمة ؟ ..أفصح إيها اللعوب ..؟
أنا شرباك ماء ..!
– لنترك موضوع المكالمة حتى ينضج آثارها أكثر ، فإن أفصحت لك عن مقتضياتها الآن سننسى الحديث عن حالنا ومآلاتها ، وسنغوص في تحليل أسباب النزول والدوافع والنتائج .. وهلم جرا من أدوات التحليل وآلياته ..
نؤجل موضوعها للآتي من الأيام .. أفضل في إعتقادي !
– ألهذا الحد أثرت فيك مكالمة ، وأنا لم أعهد فيك إلا الصبر والحزم والقدرة على التجاوز !
– هههه ذه كان زمان وكبر .. كما يقول أشقاؤنا المصريون .. أما الآن فقد تشرعت أبواب المصائب وصارت تصلني على سجيتها لا تستأذن عند الدخول ..
– ماهذه الأشعار .. أصبحت أديبا في غفلة مني .. هههه
– ليس أشعارا ولا ألحانا .. إنها الحياة كما هي .. بدون رتوشات ولا مساحيق ..
– تبا لها .. الحياه خدعة الحياة هباء .. الحياة لا شيء ربما وهم لم نستفق منه بعد …
– حيلك حيلك .. هههه ..ماهذا فلسفة ..!
– هل تشكو من شيء وجع مغص مرض ؟ لماذا الذهاب إلى دورة المياه ثلاث مرات ؟ في ظرف زمني قصير ..!
– لا أشكو من أي شيء .. أؤكد لك أن صحتي زي البومب .. قلت لك أثرت المكالمة على أجهزتي العضوية الحساسة منها على الخصوص ، والتي ارتبكت من شدة ما سمعت أذناي ، فأبلغت كل خلايا جسمي بالمعلومة ، فكانت ردود فعلها أن ذرت البول أكثر من اللازم .. هذا ما في الأمر ..
– يقال أن كثرة التبول علامة من علامات …
أقاطعها حتى لا تسرد علي لائحة الأمراض التي تكون من بين أعراضها كثرة التبول ، فأنا لا أتحمل سماع مثل هذه الجزئيات ..
– أعرف .. لا تخافي .. لا شيء مما يخالج مخك الشرير ..
– الأمر فيه مؤثر واستجابة .. فانهمرت المياه زلال من متانتي .. أنظري إنه أمر بسيط ولا يتطلب كل البحث الذي انطلق في مخك ..
– أزعجني كثيرا ما قلت لي .. أريد أن أسمع منك الحكاية .. كل الحكاية ..
– إن شاء الله سنتركها تستوي على نار هادئة ونفككها معا إربا إربا .. ما رأيك ؟
– عين العقل .. إنما أين ومتى ؟
– لدي إقتراح سيعجبك لا محالة .. نذهب إلى مدينتنا الجميلة التي وعدتني بالسفر إليها ، أتذكر ذلك أم نسيت ؟نقضي فيها نهاية الأسبوع ، وتفرغ جعبتك وتنقيها من كل الشوائب .. ستكون فرصة للنقاهة وتجديد القوة ..
– إياك أن تكون نسيت وعدك بالسفر معا !
– لا تقلقي ولا تخافي ، فأنا لا زلت على عهدي .. وسنسافر إن شاء الله .. إنما بعد ما تهدأ هذه العاصفة .
– إتفقنا .. وأنهي أنا بالمناسبة إرتباطاتي بالشغل .. لأتفرغ لمشروع السفر ..