عبد اللطيف الوراري
بما أنّ السيرة الذاتية هي حكْيٌ لأحداث حدثت لأشخاص لهم وجود في الواقع، أو قد لا يوجدون أصلًا؛ فمعنى ذلك أن ثمة معيارين جوهريّين: تطابق المؤلف والسارد والشخصية، أو القيام بالحكي كتخييل.
بخصوص المعيار الأول، فهو معيار الهُويَّـة: مصطلح متعدد المعاني، بحيث يشير إلى اسم المؤلف الحاضر في النص، بل كذلك إلى علاقة التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية. فاستعمال اسم العلم من قبل المؤلف لا يسمح بتحديد هوية حضوره في النص فحسب، بل بالتفكير في اكتشاف هُويَّته. فمسألة توظيف اسم العلم هي حاسمة، وحضوره الأساسي يجعل من تعيين النوع أمرًا ثانويًّا. وبالنتيجة، إذا كان المؤلف يتفكّه مع اسمه، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى القارئ. وكما قال لوجون: «في إنجاز الكتابة، يقيم السارد نمطين من المسافة: فهو يقف في مواجهة ماضيه وفي مواجهة كتابته على حدٍّ سواء» (أنا أيضَا، ص50).
في العبور من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي، تُطرح إشكالات نظرية، وفي مقدِّمتها: الهوية. لن تعود الهُويّة (التطابق) مُعْطىً ثابتًا، بل سوف تصبح سيرورة ضدّية تنجم عنها هُويّات متعددة. ففيما تبحث السيرة الذاتية بشكل استرجاعي عن هوية موحدة، يخترع مؤلف التخييل الذاتي ذوات ممكنة:
يتوجّه كاتب السيرة الذاتية، وهو يبحث عن وضوح الهوية الدائمة، نحو ماضيه ويربطه بالأحداث، وقد يعيد خلقه عند الاقتضاء. وأما مؤلف التخييل الذاتي فهو يجرب أكثر من حاضر وأكثر من مستقبل ممكن. يعيد الأول قراءة ذاته، فيما الثاني يبتكرها. ورُبّما تَوجّه التخييل الذاتي نحو الماضي أكثر منه إلى المستقبل. وترتيبًا عليه، تُبَنْين الضرورة الحكي السيرذاتي، ويطبع جواز الحاضر واحتماله اليوميات الحميمية والمراسلات وحتى التخييل الذاتي نفسه، كما يرى سيرج دوبروفسكي. إنّ ما يُميّز السيرة الذاتية أساسًا، من خلال معارضتها بالتخييل الذاتي، هو أنّ الأمر يتعلق بنوع يُكتب دائمًا في الماضي. فالإنسان يحاول في نهاية حياته أن يستعيد، أو يفهم، أو يتّصل، أو يُطوّر الكلّية حتى لحظة الكتابة. بينما أحد مظاهر التخييل الذاتي أنّه يحيا في الحاضر (. الذات الحاضرة، وليست ذات الكاتب التي تكتب السيرة الذاتية؛ لأنّها تحضر بوصفها نصًّا مكتوبًا في السيرة وعبرها، في «نقطة التقاطع بين التذكُّر والتخيُّل» بحسب تعبير ج. هيو سلفرمان، (نصيات بين الهرمينوطيقا والتفكيكية، ص156).
يتساءل أغلب الباحثين في الهوية عن علاقتها بالزمن، الماضي والحاضر تحديدًا. ومنهم من أقدم على مقاربة الأنواع من خلال مفهوم الهوية بما أنّها مقاربة مهمّة، وذلك لأنّنا في الغالب لا نتكلم – أو يكاد- عن الحقيقة في صلب النقاشات الدائرة بخصوص السيرة الذاتية أو التخييل الذاتي.
في هذا السياق، يضيء عالم الاجتماع جان- كلود كوفمان بعض مشكلات هذا العبور من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي. فأهمّ فكرة يُركّز عليها كوفمان أنَّ الهوية ليست كيانًا بل سيرورةً- بَلْه سيرورة ضدّية، مستعيدًا مفهوم «الهوية السردية» الذي أدمجه بول ريكور في كتابه «الذات نفسها كآخر»، وهو يقول «إنَّ الهوية لم تعرف المجد إلا لأنّها صارت متغيرة»، و«إنَّ سؤال الهوية قد نتج تاريخيًّا عن تفكك المجتمعات، مُحرّرًا الفرد الملتزم بتعريف نفسه ذاتيًّا» (ابتكار الذات: نظرية الهوية، ص58). وكان الشعور بالهوية الفردية أخذ ينمو في القرن التاسع عشر، فيما كان توظيف مصطلح «هوية» يبتذل في بداية القرن العشرين، ولم يحدث التطور إلا بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن وجد الأفراد أنفسهم مطالبين بتعريف معنى حياتهم في مرحلة تميّزت بالدينامية التي من أبرز وجوهها: «التحرير النفسي وانعدام الأمن الهويّاتي».
إنّ الهوية مثل حكي، وكاتب السيرة الذاتية يعلن عن نفسه في ما يسميه كوفمان محكي المحكيات، إذ يعود إلى ماضيه، ويحرِّر بشكل استرجاعي ما به يتمُّ المعنى ويخلق الانسجام الذي لا يتضمنه الحاضر. إنّه يرفع الحجاب عن روايته لحياته بدون أن ينخدع بالحقيقة. وفي المقابل، ينكتب التخييل الذاتي في الحاضر.
بهذا المعنى، فإنّ كاتب السيرة الذاتية الذي يتوجه نحو ماضيه، يدرك الهويّةَ كموضوع مفقود ينبغي العثور عليه ثانية، فتسعى كتابته السيرذاتية إلى بناء هوية نصّية موازية (معادل لغوي وذهني..) لتجربة الحياة الفردية في الوجود، ولا تنتج من خلال لغة الكتابة إلا ما يضفي عليها أشدّ معاني الاعتبار رفعةً. وهذا ما معنى «أن يكون انشغال الهوية يتوجَّه في حقيقة الأمر نحو ابتكار الذات جوهريًّا» (ص157)، ولا معنى لهذا الابتكار في غياب الآخر.
لهذا، يمكن اعتبار الفرق بين السيرة الذاتية والسيرة كالفرق الجاري بين الهوية والغيرية: تبحث الأولى وحدة الذات، بينما تبني الثانية غرابة الآخر. وفي التصوُّر الحديث، فإن الهوية والغيرية لا تتعارضان كما يوحي بذلك الظاهر؛ فالمغامرة السيرذاتية لا تتحقق إلا بانعطافة البحث عن الغير Autrui: أي بالبحث عن الهوية من خلال الغيرية، أو من خلال الجهود التي تبذل للتماهي مع الآخر.
إنَّ إشكالية الهوية/ الغيرية لا يمكن أن تُرسم بشكل أفضل إلا عبر العلاقة الدقيقة والمعقدة كمثال العلاقة بين الأب/ الطفل. يُومَأ إلى هذه الهوية بصور الأب والطفل، التي تتشابه بشكل مدهش حسب لعبة الغيرية التي تجري في مستويات شتّى. حتى الأنا الذي يُعتقد أنه تمَّ العثور عليه، ليس وحدة مماثلة بسيطة؛ إنّه يكون قد تعدّد واستحال إلى آخَر غيره.
هنا، تكشف العودة إلى الذات والتطابق معها عن كونهما محض وَهْم ومشكوكٌ فيهما، كما تؤكد ذلك العبارة الشهيرة لآرثر رامبو «أنا هو الآخر»، أو تلك التي طوّرها جيرار جينيت: «أنا هو الماء الذي يتدفّق». فالفعل السيرذاتي نفسه هو فعل غيريّة، وغيريّة الذات هي مرحلة ضرورية ولا يمكن تجاهلها لفهم الذات وإدراكها، ومن هنا تتضمّن ذاتية الذات عينها الغيرية إلى درجة حميمية على نحو يصعب معه التفكير في إحداهما دون الأخرى.