العلاقة بين الفكر الفلسفي النقلي والفكر الفلسفي العقلي

~~~ مسألة دياليكتيك العلاقة بين الفكر الفلسفي النقلي والفكر الفلسفي العقلي { النقلة النوعية من البيان إلى البرهان } ~~~
(..) يتضمن المنشور( التدوينة ) إشكالا ثان يسائل ويتساءل عن طبيعة العلاقة الجدلية بين الخطاب الفلسفي ــ النقلي { علم اللاهوت ، الفكر الفلسفي الديني } والخطاب الفلسفي العقلي { الفلسفة الإسلامية البرهانية } داخل البنية النظرية للتراث العربي ــ الإسلامي . انطلاقا من هذا التصور تقتضي المسألة المثارة { جدل العلاقة } تناولها من عدة أقطاب تدور في فلكها وتنظر إليها من رؤى شتى ؛ نظرا لطبيعتها المعقدة والمتداخلة والعسيرة في الفهم والتحليل ؛ أختزلها في أربعة :
* القطب الأول : مسألة الخصوصية ..
(..) لمقاربة العلاقة الدياليكتيكية ( الجدلية ) بين علم الكلام البياني والفلسفي { الفلسفة بشقيها العرفاني والبرهاني } ، يكون لزاما توضيح وبسط خصوصية كل خطاب معرفي من حيث تحديد مجاله وأدواته في بنية التراث النظري . يبحث الفكر الكلامي / الفلسفي { المعتزلة ، الفلاسفة الأوائل في المشرق العربي .. } في قضايا دينية / ميتافيزيقية ( التوحيد ، الذات والصفات ، العدل الإلهي ، الفعل الإنساني والفعل الإلهي ، الوعد والوعيد .. ) مستخدمين الاستدلال العقلي والتفكير المنطقي بغاية الدفاع عن ثوابت الأمة الإسلامية وتحصين قلعة النقل وإبعاد الخطر الخارجي الذي يهدد وحدتها الإيديولوجية { الفكر المعتزلي المتأخر مع أبي هذيل العلاف وابن سيار النظام نموذجا .. } .. في مقابل الفكر الفلسفي / البرهاني الذي يبحث ويتناول محاور فكرية جديدة تكتسي صبغة ميتافيزيقية ــ مجردة خالية من النفحة الدينية الصرفة { العلاقة بين الخالق والمخلوق .. الكليات .. الجواهر .. الأسطقسات .. العلاقة بين النفس والبدن .. البعث الروحي والبدني .. }؛ موظفا معجما مفاهيميا جديدا ومغايرا { المادة / الصورة .. القول / الفعل .. النهاية / اللانهاية ..العقل الفعال / العقل المستفاد .. القدم والحدوث .. الوجوب والإمكان القديم بالذات / القديم بالزمان .. } . فهذا الفكر الأخير انطلق من أرضية مغايرة وباحثا في قضايا جديدة بعيدا عن مسألة تعزيز البديهيات الدينية ودون تنصيب نفسه محام مخلص ومنافح عن الملة الإسلامية .. نخلص إلى القول بأن الخطاب الفلسفي العقلي تجاوز دور الحضانة ووظيفة المحاماة اللتين تقيد بهما الخطاب الفلسفي النقلي ؛ ومتسلحا بالحرية والاستقلالية في البحث والتفكير ..
.. وعليه ، فالخطابان رغم اختلافهما في مسألة الخصوصية { الموضوع والمنهج والغاية .. } فتربطهما علاقة جدلية تتمثل في توظيفهما آليات العقل والاشتغال معا في نفس التراث ونفس السياق الاجتماعي ..
* القطب الثاني / مسألة جدل العلاقة بين الفكر والواقع ..
(..) ساد الاعتقاد الراسخ بأن الفكر لا ينبثق من فراغ ولا يتشكل من خواء محض ، فهو وليد الظروف الواقعية والمعطياته الذاتية والموضوعية .. والفكر العربي الإسلامي ( التراث ) لا يستثني القاعدة ؛ هذا الأخير لم ينشأ من عدم ، بل هو وليد وحصيلة ظروف موضوعية وحيثيات مجتمعية متشابكة يتداخل في ساحتها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني .. نشا نتيجة أوضاع واقعية تمثلت في هيئة الانتفاضات والتمردات والثورات { ثورة البرامكة / ثورة القرامطة .. } ؛ حيث ترسخ العصيان المدني وتهافتت قوة القاعدة الإيديولوجية ـ النقلية { الثيوقراطية } التي أضخت عاجزة عن مسايرة الثورة والتمرد والعصيان في بنية المجتمع ؛ فأمسى لزاما استبدالها بإيديولوجية فكرية جديدة لتطويق الأزمة والحد من هيجان وغليان المد الثوري .. من هذا المنظور ، تشكلت الإرهاصات الأولى لفكر جديد تجاوز غيره القديم { النقلي / الثيوقراطي } في احتواء الاضطراب والثورات ، فكر تشكلت بذوره الجنينية مع فلاسفة المشرق والمغرب العربيين { أبو نصر الفارابي في ” آراء أهل المدينة الفاضلة ” .. ابن باجة في رسالة ” تدبير المتوحد ” .. } بغاية ترميم اعوجاج القاعدة الإيديولوجية المعطلة ، وتحديد ” وصفة فكرية ” لأمراض المجتمع وإصلاح دواليبه وجمع أشلائه الممزقة .. وعليه ، يكون الواقع بكافة حيثياته هو المسؤول المباشر عن انبثاق نسق معرفي { فكري } معين ؛ حيث جدلية العلاقة بين الفكر والواقع ، سواء كان الفكر نقليا أو فلسفيا ، ينبثق من الواقع الذي يوجهه ويقوده ..
* القطب الثالث / مسألة الوصل والفصل ..
(..) لاحظ المهتمون بحقل التراث أن العلاقة بين القولين { الديني / الكلامي ــ العقلي / الفلسفي } علاقة فصل ( انفصال } بالأساس ؛ إذ لكل نظام معرفي خصوصيته وظروفه التي تميزه عن نظيره الآخر، فالفكر الديني نقلي بالعقل والفكر الفلسفي عقلي بالنقل { أشعرية وفلسفة أبي حامد الغزالي كمثال } ؛ لكن الظروف والمعطيات الموضوعية القاهرة والملابسات التاريخية والحضارية هي التي طبعت الفكرين بطابع التناقض والتعارض ؛ على اعتبار أن الفكر العربي ــ الإسلامي في الشرق الإسلامي ( الحكم العباسي ) شهد انتكاسا وارتدادا خلاف لنظيره في الغرب الإسلامي (المغرب / الأندلس ) : في المشرق كان الوصل بين البنيتين المعرفتين ، مسألة الدمج بين الديني والفلسفي {مسألة التوفيق بين المعقول والمنقول في فلسفة الكندي والفارابي .. } ؛ بخلاف في المغرب العربي قام الفكر النظري ( الفلسفي ) بالفصل بين الخطاب الحكمي ( الفلسفة ) والخطاب الشرعي ( الدين ) ، قرأ كل خطاب على حدة بآلياته وقواعده وضوابطه دون خلط مياه هذا بذاك { الفلسفة الرشدية كنموذج / أبو الوليد بن رشد ” فصل المقال فيما بين الحكمة من الاتصال ” .. } ..
* القطب الرابع / مسألة التغاير بين الواقعين المشرقي والمغربي ..
(..) كل فكر أو خطاب معرفي ينشأ في بيئة أو واقع ، يحدده اجتماعيا واقتصاديا سياسيا وتاريخيا وحضاريا ؛ والخطاب الفلسفي النقلي في المشرق العربي تبلور وترعرع في بيئة سنية ترضع من ضرع الدين وتقتات من زاد الفقه وعلم أصول الدين ، بيئة يمثل التوجه السني قاعدتها وبنيتها الإيديولوجية في دول ثيوقراطية زمن الحكم الأموي والحكم العباسي الأول والثاني . يكرس فيها الفكر النقلي المغلف بغلاف فلسفي { الفكر المعتزلي الناضج بالذات } هيمنة الملة وسيادتها في دواليب المؤسسات من خلال العمل على عقلنة الدين وتعزيز مسلماته بالحجاج والاستدلالات العقلية بهدف التصدي لخصوم الملة الإسلامي ودفع الهجوم والخطر الخارجي الذي يهدد كيانها الإيديولوجي { الخطر الفارسي الغنوصي الحامل لشعار القطبية الثنائية ( إله الخير / السماء ــ إله الشر/ الأرض .. ) } المناقضة والمباينة لقطبية التوحيد الإسلامي كأساس وحدة الملة ووحدة المجتمع .. أما الخطاب الفلسفي النقلي في الشرق العربي { الكندي عل وجه مخصوص } اعتمد سلاح العقل كأداة برهانية لنصرة المنقول الديني ضدا على الغنوص المانوي (**) { التوجه الفارسي الشيعي القائم على التأويل الباطني للدين ، والمناوئ للإيديولوجية الدينية للدولة العباسية } ؛ وضدا على التزمت الفقهي المتحجر الذي وقف على ظاهر النص الديني ورفض عقلنته بالتأويل حفاظا على قوته وروحه وأصالته .. لكن عيب هذا الخطاب الفلسفي النقلي { الكندي / النظام / العلاف .. } تحدد في الاحتكام إلى النقل ( البيان ) وتقيد بقلعته ودافع عن حصنه المنيع بالعقل وأدواته الاستدلالية في مواجهة العرفان الفارسي ومده الشيعي من ناحية ؛ وعيبه الثاني أنه عمل على دمج بنيتين معرفيتين متناقضتين { الفلسفة والدين ــ العقل والنقل ــ الحكمة والشريعة } في خليط واحد هجين { فلسفة الفارابي } من ناحية ثانية .. خلافا لهذا الواقع المشرقي ، ولخصوصية فكره وتوجهه الإيديولوجي ، اتجه الخطاب الفلسفي العقلي في الغرب الإسلامي { المغرب والأندلس } مع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد إلى تغيير قواعد اللعبة الفكرية إيديولوجيا وفلسفيا ؛ على اعتبار أن الواقع الموضوعي الذي أفرزه وبلوره يختلف كل الاختلاف عن نظيره في المشرق العربي ؛ واقع متميز يشجع على تعاطي الفلسفة والعلم والتعليم ،ونشر الوعي الثقافي في البلدين ، ونبذ التزمت والتحجر الديني الذي تغلغل زمن دولة المرابطين حيث قراءة النص الديني { الملة } قراءة ظاهرية / سطحية خالية من الاجتهاد العقلي ؛ واقع تشكلت حيثياته في زمن دولة الموحدين { المهدي بن تومرت / يعقوب المنصور } التي رفعت شعار ” ترك التقليد والعودة إلى الأصول ” ، شعار مفاده الإصلاح الثقافي وترك التقليد والتبعية المشرقية في قراءة علاقة الدين بالفلسفة قراءة جديدة ؛ عمل فلاسفة المغرب والأندلس { ابن باجة / ابن طفيل / ابن رشد } على إنزاله إلى أرض الواقعي .. ومن هذا المنظور اتجه الفكر الفلسفي العقلي في الغرب الإسلامي إلى إقامة الجسور البنيوية بين الحكمة والشريعة وإعادة ترتيب العلاقة بينهما على أساس الفصل أولا ثم الوصل ثانيا ، مع إلغاء آليتي الخلط والدمج .. هذا المشروع الفلسفي / الثقافي خطط له ابن باجة في رسالته ” تدبير المتوحد ” وأتمه أبو الوليد بن رشد في مشروعه ” فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال .. ” حيث قراءة الخطاب الديني بأدواته وأصوله المعهودة عند علماء اللغة والمفسرين وعلماء أصول الدين ، وقراءة الخطاب الفلسفي بأصوله وآلياته الموجود عند فلاسفة التراث الإغريقي القديم { منطق أرسطو .. } ..
*** تخريج عام ***
(..) إن البحث عن أوجه المشابهة { التقارب / التقاطع } والمغايرة { التقابل / التباين } في دياليكتيك العلاقة { العلاقة الجدلية } بين ضربين متعارضين من الخطاب { خطاب النقل / خطاب العقل } على الصعيد المنهجي والغائي والإيديولوجي ، خطابان يوجدان ويتحركان في نفس البنية المعرفية { التراث العربي ـ الإسلامي } ، وفي نفس البيئة الاجتماعية ، ليس بالأمر اليسير إذا استحضرنا مستوى المفارقة وحدة المعارضة بينهما ؛ وعلى وجه مخصوص إذا كان الخطابان يمثلان بنيتين مختلفتين { بنية النقل / الوحي / المقدس .. بنية العقل/ الإنسان / المدنس .. } ..
* من زاوية المشابهة أو التقاطع بين خطاب الوحي { من وظفه ونافح عنه بحرارة / من وظفه وخرج عن أصوله ومتطلباته : متكلمة ومتفلسفة } وخطاب العقل { من خرج عن مساره ووظف آلياته في غير موضعها / من بقي وفيا لمساره وغايته : فلاسفة المشرق / فلاسفة المغرب } ، فيجوز القول بتحفظ بأن الخطابين يلتقيان نسبيا في تطبيق آليات التفكير العقلي واستدلالاته المنطقية بصرف النظر عن الغاية والخلفية ؛ ويلتقيان في تناول نفس القضايا والمسائل الميتافيزيقية { الله / الوجود / الإنسان / البعث .. } ..
* ومن زاوية المغايرة أو المباينة ، نجنح إلى القول بأن خطاب النقل { الدين } لا يبحث عن الحقيقة الغائبة ، لأنها حاصلة وجاهزة في الوحي ، فوظيفته تتحدد في المرافعة والمنافحة وكسب المعركة في المناظرة لتحصين النقل وتمتين قلعته الإيديولوجية في أرضية النظام الذي يستخدمه ويروج له .. أم خطاب العقل { الفلسفة } فتتحدد وظيفته في البحث عن الحقيقة في استقلال عن النقل ، وفي انعتاق من أغلاله ، استقلال نسبي وليس كلي ؛ إذ لا يوظف العقل لنصرة النقل وحمايته ، بل للبحث عن الحقيقة المجردة / الغيبية غير الجاهزة ؛ كما يروم من ناحية ثانية ترجمة تطلعات وطموحات الطبقات الاجتماعية النامية { الطبقة الأرستقراطية من تجار وحرفيين .. } ، ويعكس تدهور أوضاع الطبقات السفلى للكادحين { الفئات الاجتماعية المهمشة سوسيوـ اقتصاديا } ، الطبقة المنبوذة العاجزة عن مواكبة ومسايرة تطور الوعي الفلسفي / الفكر الجديد لأنها مؤدلجة ومنمطة ومحكومة ومطوقة بالتراث النقلي / المحلي الساذج لا التراث النقلي العقلاني المنفتح ..
* إذن ، فجدل العلاقة النوعية بين الخطابين أنهما يتقاطعان في أنهما يوجدان بالإكراه في نفس البيئة ونفس التراث .. ويتباينان في أنهما يشتغلان بآليتين مختلفتين ويعالجان موضوعات من طبائع متباينة .. وينطلقان من خلفيات فكرية وإيديولوجية متقابلة ومتغايرة ؛ ويختلفان في التعبير عن تطلعات وآفاق المطالب الاجتماعية .. ومن ثمة ، يكون الخطاب الفلسفي العقلي / البرهاني تشكلت وتبلورت إرهاصاته في المجتمع العربي / الإسلامي نتيجة الهزات الاجتماعية وتهافت الخطاب النقلي الذي ابتعد عن هموم الفئات الاجتماعية التي تعيش في مجتمع ثيوقراطي ؛ فهو امتداد وتطوير وتجاوز للخطاب الفلسفي النقلي معرفيا ومنهجيا وإيديولوجيا ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(**) الغنوصية Gnocisisme هي اعتقاد فلسفي صوفي ـ ديني يروم معرفة الله بالحدس والإلهام ، بالقلب والعرفان لا بالعقل والبرهان ؛ تمثلها المذاهب الباطنية في بلاد فارس ( إيران حاليا ) ودولة الفاطميين ؛ تعتقد بوجود الثنائية في الوجود (إلهين : الخير والشر ، النور والظلام ، الحياة والموت ، الروح والمادة .. ) ؛ تمثلها عدة فرق في بلاد الفرس منها الديصانية والمانوية والزراديشتية والمزدكية .. باختصار ، فهي نحلة دينية ذات طابع فلسفي قديم ( اليونان ) وباطني ( الفرس ) ومسيحي ويهودي وحتى إسلامي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top