المستشرق

انتهيت من قراءة كتاب ” المستشرق – في فضّ غموض حياة غريبة وخطيرة ” للأميركي توم ريس .

يأخذنا توم ريس الصحافي في مجلة نيويوركر،في رحلة ملؤها التجارب القاسية في حياة قربان سعيد المثيرة للتأمل ،اللافتة والمشوقة والموثّقة بمعلومات تاريخية.
بدأ اهتمام ريس بهوية وشخصية “قربان سعيد” من ربيع عام 1998، حين ذهب إلى مدينة باكو عاصمة أذربيجان للكتابة عن طفرتها النفطية الجديدة، بعد عودة مظاهر الحياة إليها التي توقفت عملياً عند تاريخ 1917 ( تاريخ الثورة البلشفية ) ، وقبل أن يغادر باكو نصحه صديق إيراني بقراءة رواية “علي ونينو” لقربان سعيد للتعرف من خلالها على المدينة وعلى القوقاز بوجه عام، تلك كانت البداية وأينما ذهب وحل توم يلاحقة ظل قربان سعيد في باكو.
عاد لفندق “باكو حياة ريجنسي” ووجد كتابا وحيدا باللغة الإنجليزية في محل لبيع الهدايا بعنوان “الدم والنفط في المشرق” وعلى الغلاف مكتوب أن المؤلف “أسعد بيك” هو مؤلف رواية “علي ونينو” وتحته وبين قوسين كتب اسم “ليف نوسيمباوم”، أسماء ثلاثة لشخصية واحدة: قربان سعيد أم أسعد بيك أم ليف نوسيمباوم، وماذا حدث له ومن هو؟ ذلك الفضول الذي استولى على توم ريس جعله يتتبع كل ما يخص حياة قربان سعيد تتبعا دقيقا .
يستهل ريس كتابه بالحديث عن باكو عاصمة أذربيجان التي غالبية سكانها من المسلمين الشيعة ( التشيّع يعني الإيمان بالشهداء الدينيين الّذين يمتدون حتى علي ابن عم النبي وزوج ابنته ). باكو ليس فيها جوامع كبرى فقط وإنما نُسخ مقلّدة لصالات القمار الكبرى في مونت كارلو ، واسمها مشتق من تعبير فارسي يعني ” مهب الرياح ” لكونها في مقدمة شبه جزيرة صحراوية ناتئة داخل بحر قزوين .
على مدى تاريخ أذربيجان ، غزاها الإسكندر المقدوني ، المغول ، العثمانيون والفرس. يُعرف موقعها الجغرافي بأنّه غير محدد الانتماء ، حين استولى عليها الروس عام 1825 . اكتشفت أوروبا باكو واكتشفت باكو أوروبا في حقبة التمدد القيصري في القوقاز وسجل ذلك ببراعة كل من ليرمنتوف ، تولستوي وبوشكين .
رسم ريس لوحة فسيفسائية لحياة قربان سعيد، من خلال مراجعة مراسلات ومخطوطات، وسجلات الشرطة الفاشية في روما، ومدونات محفوظة في النمسا، وزيارة المناطق والقرى التي يذكرها قربان سعيد عن حياته فضلاً عن مقابلة كل من يمكن أن يساهم بمعلومة عن حياة قربان سعيد من أقارب أو أصدقاء وورثة، وحصل على أكثر من ثلاثمائة رسالة خاصة خفيت عن أعين الباحثين، كانت مراسلات بين قربان سعيد وبيما أندريا ( نصف إيطالية، نصف ألمانية ) وهي إحدى صاحبات الصالونات الأدبية في عهد موسوليني والتي استمرت لمدة ثلاثة أعوام،
حيث وجد في الرسائل وصفاً لأيامه الأخيرة، لكن الأكثر أهمية هو وصوله للناشرة الألمانية لكتب قربان سعيد وزيارتها في بيتها وهي في عمر ال96، السيدة “موغلة كيرشنر” التي استقبلت توم ريس وحكت له عن قربان سعيد وسألته هل قرأت كتابه بعنوان “الرجل الذي لم يعرف شيئاً عن الحب” وكانت إجابته بالنفي، فسلمت له دفاتر مخطوط كتاب كتبه قربان سعيد، وعندما بدأ توم في قراءة سطور هذه الدفاتر، كانت المفأجاة أن هذه الدفاتر ليست رواية بل كانت مذكراته التي كتبها عن حياته وهو على فراش مرضه، وهي آخر ما كتبه قربان سعيد.
قصة “ليف نوسيمباوم” القصيرة هي التالي: ولد في أكتوبر 1905 في باكو عاصمة أذربيجان لأب يهودي اشكينازي من سلالة مهجّنة فارسية تركية هو ابراهام الذي قدم أبواه إلى القوقاز من كييف أو أوديسا الروسية
( كانت من المراكز اليهودية الكبرى في مستوطنات اليهود الإجبارية حول البلطيق حيث لم يكن مسموحاً لهم بالسفر ولا بالعمل خارج نطاقها ) .أصبح ابراهام ثريا” من تجار صناعة النفط وباع أغلب آبار نفطه للأخوين نوبل عام 1913 عشية اشتعال الحرب العالمية الأولى .أما والدة ليف ، بيرتا سلوتزكي فكانت شيوعية من متطرفي الثوار، تبرعت لستالين بمجوهرات لدعم الثورة وانتحرت في طفولة ليف، ثم قامت الثورة البلشفية ضد القيصر الروسي،
وصل البلاشفة باكو وسيطروا عليها وهددوا بارونات النفط فيها، على إثر ذلك هرب ليف وأبوه على ظهر الجمال بصحبة قافلة عبر سهوب بلاد فارس وعبر صحاري تركستان، وانتقل إلى إسطنبول بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل بعدها إلى برلين، وأعلن اعتناقه الإسلام في السفارة العثمانية في برلين عام 1923، في الأيام الأخيرة للخلافة العثمانية، وتسمى “قربان سعيد” وفي بداية الثلاثينيات انتقل إلى فيينا،
ونشر روايته “علي ونينو” باسم مستعار، وحقق كتابه “القيصر وستالين” أعلى المبيعات واشتهر في الولايات المتحدة في رحلته لها 1935، اشتهر في مجتمعات فيينا ونيويورك وهوليوود في الثلاثينيات، كان نجم وسائل إعلام جمهورية فايمار في ألمانيا، ومستشرقاً محترفاً يلتقي كثيراً بموسوليني، لكنه حتى في أثناء حياته لم يعرف أحد على جانبي المحيط الكثير عن قصة حياته أو هويته أو ماضيه. وفي عام 1938 حاول قربان سعيد الفرار من حصار الاضطهاد النازي الألماني، وسرعان ما تم اعتقاله وترحيله إلى إيطاليا .
في بداية عام 1939 نُقل إلى المستشفى في نابولي حيث تم بتر أصابع من قدمه اليسرى ( من هنا جاءت الإشاعة بأنه مات منتحراً بطعن نفسه ) .بعد ثلاثة أعوام مات,في مدينة بوزيتانو، عن عمر ستة وثلاثين عاما” , بمرض رينود وهو مرض بالدم نادر جداً ينجم عنه أعراض جذام متسارعة وغرغرينا.
زوجته الأولى إيريكا كانت من عائلة يهودية ميسورة , والدها وكيل شركة باتا التشيكية للأحذية, عملت لدى ليف كسكرتيرة في مجلة الأدب وتزوجها عام 1932 .
قيل أن رواية ” علي ونينو ” ( وهي قصة حب بين ارستقراطي أذربيجاني مسلم شيعي وبين أميرة جورجية مسيحية اورثوذوكسية) ،هي من كتابة زوجته الثانية البارونة الفريدة , الزوجة السابقة للبارون عمر رولف فون ارنفلز والتي كانت تدعى السيدة قربان , لكن يتبين فيما بعد أن ليف كان يفعل ذلك عمداً ليستطيع الحصول على عائدات نشر كتبه التي تم منعها من قبل السلطات الألمانية.
انفصل ليف عن زوجته في أواخر الثلاثينييات حيث ذهب هو إلى الهند وهي إلى اليونان ،و كانت تحقق هناك مدخولاً من قراءة الأبراج والطالع. درست التاريخ الإغريقي القديم والرياضيات واستحوذت عليها أفكار أفلاطون وشخصيته.
اسم أسعد بيك اختاره ليف من اسم صديقه أسعد اللاييف ابن شمسي أسعد , من أثرى أثرياء رجال النفط المسلمين في العالم , الذي فر بدوره من باكو عام 1920 هرباً من الثورة البلشفية .
يقرأ توم ريس شخصية قربان سعيد باعتبارها جزءا مما يسميه “نمط اليهودي الشرقي”، وهي ظاهرة شاعت في القرنين التاسع عشر والعشرين و نسيت في عصرنا الحالي. هذه الظاهرة عُرفت في بداية العصر الفيكتوري في إنجلترا، حينما كان الشباب من العائلات اليهودية الثرية والشهيرة ذات النفوذ في مجتمعاتها مثل وليام جيفورد وبنيامين دزرائيلي،
ينطلقون للبحث عن جذورهم المشرقية في الصحراء، في حالة بيلجراف فقد وصل الجزيرة العربية وانتحل شخصية طبيب مسلم وعمل في الخفاء لصالح طائفة الجزويت،
وعمل على إدارة مؤامرة من نابليون الثالث لتأليب العرب ضد العثمانيين، أي قبل خمسين عاما من قدوم توما إدوارد لورانس المشهور بلورنس العرب، كانت مذكرات بيلجراف من أعلى الكتب مبيعاً حتى غلبت عليها
مذكرات لورنس بعد ذلك. الاستشراق اليهودي يرى المشرق لا كمكان لاستكشاف الغريب عنه ولكنه موضع يكتشف من خلاله جذوره الشخصية، وأحيانا اعتبروا العرب أخوة دم أو اعتبروا العرب يهودا على ظهور خيول كما صاغها دزرائيلي.
كتاب قيّم جداً ،
زاخر بالمعلومات والتفاصيل التاريخية والأدبية ويذكر شخصيات صادفها ليف في تنقلاته بين
المدن والعواصم الأوروبية مثل عائلتي نابوكوف وباسترناك الهاربتين من الثورة البلشفية أيضاً .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top