” الموازنة بين المادي والروحي / جدلية الفطرة والثقافة “

 إن الموضوع المطروح يناسب الزمان ، والمكان اللذين ، الزمن الذي نعيشه في الوقت الراهن حيث غياب تهذيب الأخلاق وتطهير السلوك اللفظي والعملي وتنقية النفس من شوائب الدنس وترسبات التعفن ، تنقيتها من نزوات الهوى بالعفة والارتقاء إلى ذروة المثل الفضلى ..
يقارب هذا الموضوع ازدواجية داخل الكائن البشري كقطبية ثنائية متألفة من عنصرين متنافرين ومتداخلين في آن :
عنصر المادة بتجلياتها ومكوناتها وسياقاتها { البدن ، الفطرة ، الوراثة .. } / عنصر الروح بحيثياتها ونطاقاتها { النفس ، الفكر ، الثقافة .. } ..
إن المسألة المطروحة ( الازدواجية ) أثارت قديما وحاليا حفيظة رجال الدين والفلاسفة ، علماء الطبيعة والانثروبولوجيا ، بمختلف مشاربهم الفكرية وتخصصاتهم الابستمولوجية وخلفياتهم الإيديولوجية ؛ حفيظة قادتهم إلى بناء طروحاتهم ونسج نظرياتهم بغاية سبر أغوار المسألة المطروحة بأدواتهم المنهجية وتمثلاتهم المعرفية لبلوغ الحقيقة ..
*** أقارب الموضوع المثار من ناحيتين :
1) مدى الترابط بين المادة والروح من منظار ديني / إسلامي
2) التفاعل الجدلي بينهما من منظار فلسفي / أنثروبولوجي
..1) ــ بخصوص العلاقة الأولى فالجسم كمادة له مطالبه الصرفة الضرورية { تغذية ، توالد ، تنمية .. } التي تحصن وجود النوع البشري وتحافظ على استمرارية حياته وبقاء كينونته .. في مقابل الروح كقوة باطنية غير مرئية تقود الكائن البشري إلى الكمال البشري وترفعه إلى هرم الفضيلة من خلال الترفع عن ما يجعل الإنسان يصطف في مصاف الحيوان ويبعده عن ما يقوده إلى الانغماس في مباهج الحياة الدنيوية ومتعها .. أفرزت هذه المعادلة / المشكلة ذات الطابع الميتافيزيقي ( القطبية الثنائية ) توجهان متعارضان :
* توجه أول يرفع شعار تقديس ما هو روحي ويعلي كفته على ما هو مادي ، ويسعى إلى تحريرالإنسان من الشهوات والنزوات بالرياضة الروحية ومجاهدة الذات للوصول إلى الكمال الروحي ( التطهير الطاهر للذات ) . هذا التوجه قد نجد له تشخيصا وتمثيلا في السلوك اليومي للرهبان والراهبات ( العزوف عن الزواج .. ) / الديانة المسيحية ، وفي سلوك رهط من المتصوفة الزهاد في تركيبة المجتمع الإسلامي ..
* توجه ثان يرفع شعار إشباع مطالب الجسد وعدم حرمانه من اللذات والمتع ، على اعتبار أن طبيعته البيولوجية تأبى الانتظار والتأجيل والتعطيل إلى أجل غير مسمى .. يتجسد هذا التوجه في سلوكيات الإنسان الغربي ( الأوروبي / الأمريكي ) الذي يطغى الجانب المادي الصرف على عيشه اليومي .. ما موقف الخطاب الإسلامي من التوجهين ؟
.. يحث الخطاب الإسلامي على إشباع الحاجات المادية والروحية معا ، على اعتبار أن الفطرة السليمة في الشخص الإنساني تحلَ ما هو طيب وتحرَم ما هو خبيث { إباحة الزواج الشرعي / تحريم نكاح المحارم ـ إباحة الأكل الصحي الحلال / تحريم أكل الجيفة والحيوانات العفنة ـ إباحة الكسب الحلال / تحريم الكسب الحرام كالقمار والميسر ..} .
وازن الخطاب الإسلامي بين قطبين في اتساق لا طغيان فيه ، حيث نهى عن الغلو والإفراط والتفريط في جانب دون الآخر ؛ وأمر بالتوسط والاعتدال من خلال الإباحة بما فيه منفعة والنهي بما فيه مفسدة { = الفلسفة اليونانية القديمة / يحدد أرسطو الفضيلة في الوسط العادل بين الطرفين المتنافرين : مثلا الفضيلة في المال هي الاقتصاد بين التقتير والتبذير.. } ..
.. وعليه ، يكون الخطاب الإسلامي قد ابتعد عن الميل لقطب دون الآخر ، وهذا موقف متزن لأن الاتزان والاعتدال يقتضيان المزج بينهما من خلال التفاعل والتواشج والتكامل ” وابتغ فيا أتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ” القصص / 77 .. ” قل من حرَم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ” الأعراف / 32 …
.. 2) ــ بخصوص العلاقة الثانية / التفاعل الجدلي داخل القطبية الثنائية ، أتناوله من منظور مغاير للمنظور الأول ، منظور فلسفي وسيوسيو ـ أنثروبولوجي من خلال توظيف جهاز مفاهيمي ( بنية لسنية ) آخر يستبدل الروحي بالفكري والثقافي والمكتسب ، ويستبدل المادي بالبيولوجي والفطري والطبيعي .. ومن ثم ، تكون الطبيعة الإنسانية تتجاذبها خاصيتان : خاصية الحياة وخاصية الاجتماع ؛ فتطرح هذه الطبيعة مشكلة الازدواجية والتناقض والتوتر بين قطب المادة أو الطبيعة الفطرية { الإنسان وجود طبيعي يتطلب الإشباع المادي .. }
وقطب الروح أو الطبيعة السوسيو ـ ثقافية { الإنسان وجود فكري يتطلب الإشباع المعنوي .. } .. وفي سياق هذا الطرح أتساءل :
ما أصل طبيعة الإنسان : الثبات والانغلاق أم التغير والانفتاح ؟ تناول هذا الإشكال رهط من المفكرين والفلاسفة والمهتمين بالحفر البنيوي في طبيعة أصل وجود الإنسان ، وانتهى الأمر إلى إفراز تصورات وتموقفات وتوجهات متباينة منها حصرا لا مثالا طرحان متعارضان :
* الطرح الفلسفي القديم / يجنح أصحابه إلى اعتبار طبيعة الإنسان علة أو ماهية ثابتة إذ الإنسان موجود لذاته لا في ذاته ( أرسطو / الطبيعة ماهية ) . عطفا على ذلك ، فالإنسان جزء من الطبيعة والأصل البيولوجي أو الفطرة ينزل منزلة المحدَد لطبيعته ( موسكوفيشي ) ..
* الطرح الفلسفي المعاصر الذي يقلب المعادلة معتبرا الطبيعة الإنسانية متغيرة إذ الوجود سابق على الماهية ، بمعنى فالإنسان مخلوق يوجد قبل صناعة ماهيته ، فماهيته بعدية لا قبلية ؛ وبالتالي ، فهو مشروع وليس موضوعا ،
وهو حر ومسئول ومريد ومختار في بناء كينونته ” الإنسان ليس سوى ما يصنعه بنفسه ” / ج.ب. سارتر ..وينسجم مع هذا الطرح توجه ثقافوي ينفي وجود طبيعة ثابتة داخل الإنسان ، فأصل إنسانيته اجتماعي / ثقافي ، مكتسب لا فطري ، بعدي لا قبلي .. طبيعة مصنوعة وليست طبيعة جاهزة معطاة بشكل قبلي { المرجع / لوسيان مالصون ” الأطفال المتوحشون ” } . ويسير في نفس الاتجاه الفكري / التنظيري توجه آخر يعتبر الإنسان نتاج اجتماعي إذ الأصل الاجتماعي من تربية وتعلم واكتساب هو الذي يحدَد طبيعته ويؤسس جوهر إنسانيته ( إميل دوركايم ) ..
إن مفعول المجتمع وتأثير بيَن في نشأة الإنسان ، على اعتبار أن آلية التنشئة الاجتماعية تنقل الإنسان من حال الهمجية والفطرة الغريزية إلى حال التمدن والتعلم والاكتساب ( كي روشي ) .. وعلى ضوء هذه الطروحات الفلسفية ( القديمة والمعاصرة ) وهذه التنظيرات العلمية ( الانثروبولوجية والسوسيولوجية ) تبقى طبيعة الإنسان مركبة ومعقدة تجمع بيت المتناقضات والمتقابلات { مادة / روح .. فطرة / اكتساب .. وراثة / ثقافة .. } ؛ طبيعة جدلية / تفاعلية يصعب التفريق بين أقطابها المتشابكة ( جاكار ) ..
*** وبكلمة مختصرة ، فالإخلال بالتوازن داخل الإنسان كتغليب كفة على أخرى ، وإحداث اضطراب في مسيرة هذه القطبية الثنائية ، والتمرد على نظام المعادلة الميتافيزيقي والفيزيقي يقود إلى انحراف الإنسان وسقوطه في مخالب التيه والضلال ؛
إذ الوجود ككل ــ والإنسان جزء منه ــ لا يستو إلا بتفاعل التجاذب بين الأضداد لا التنافر بينها ولا بسيادة القطب الوحيد ( أمريكا الحالية كقطب وحيد واحد قاد العالم إلى الهاوية والتيه في المجهول خلافا لفترة الحرب الباردة التي شهدت التوازن في القوى ، فكان حال البشرية لا حرب ولا سلم ..) ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top