يقول الشاعر: ” لا أبحث عمن يقرأني بل عمن ينام مكاني في زوابع سواحلي”.
دعوة صريحة الى تحطيم المسافة بين الشاعر وقارئهليصبح القارئ والمقروء صورة واحدة بل يصبح القارئ شاعرا يسكن مكان الشاعر كي ينام بالزوابع في سواحله٬ يعيش أحلام يقظته بمجاراة الصور. فحاجة الشاعر لا الى من يتهجى التجربة بل الى تناسخ يتولّى فيها القرين إعادة العيش في التجربة فيمسي الشاعر والقارئ يكتبان معا الشذرة الشعرية وهما يتقاسمان تلاطمها في صلب العواصف الشواطئية٬ يقول الشاعر: “لا أحد يكتب لنفسه كفى كذبا “٬ فحاجة الشاعر لمن يتقاسمه هاجسه الشعري هي نفسها حاجته الى شعره٬بل أكثر من هذا تضحية الشاعر بذاته كي تكون ملكا لقارئه فيتسنى له كتابته بها٬ فتولد القصيدة من جديد من قلب تلاطم الأمواج بقراءة ثانية من متلق حالم يصبح صديقا للشاعر كي يولد البحر من جديد ٬ يقول: من دون أصدقائي ما كان لي أن أقول هذا المساء للبحر: ” عيد ميلاد سعيد “.Haut du formulaire وفي نفس السياق يقول: أيها القارئ٬ أهديك يدي ٬ أكتبني بها “. ذاتان في ذات واحدة يتقاسمان ذات اللغة والوجود. انه التفكير بالمثنى ٬ ذاك الذي جعل الزهراوي أيضا بين ذاتين يكتب القصيدة / الجسر ٬ وفي هذا البين – بين تحتفي القصيدة ب ” الانتماء” الى الهوية المتعددة المتّخذة الشكل اللغوي لبوسا شعريا بنفي طوعي للمعني الفاضح. في المقام الأول لايتعلّق الأمر في هذه الاطلالة بمضمون شعري بحثا عن دلالة خارجية تتغياها عادة القراءة الشعرية٬ وتتلهف لها حرقة٬ بل يتعلق الأمر بالقول الشعري نفسه. محاولة لاستنباط كيفية ما لكتابة ما. تصور لكيفية كتابة الشعر٬ بوصلة لبناء شعري ما. مدخل يحكم صياغة المبنى الشعري٬ ويرسم في حدّه الأدنى معالم السبيل لاستنباث قصيدي٬ وكأني بالشاعر يضع في غور القصيد نبراصا خافتا يستهدي به السائح للخروج من النفق الاستعاري والمتاهة الكنائية٬ ومن ثمة الانفتاحالبدئي على انبثاق دلالي٬ حينها تتحول القصيدة الى “قصيدة على القصيدة”٬ ويتحوّل المعطى الشعري الى قصيدتين : واحدة لسؤال ال” الكيف ” ٬ وأخرى لبداية جواب على سؤال ال:”ماذا “٬قصيدة بالمثنى ٬ ذاك الذي تحتفي به اللغة العربية ٬ ويغيب في اللغة الفرنسية ٬ جسر التباعدوالتقارب بين لغتين ٬ بين حضارتين ٬بين شخصيتين : في الآن نفسه وجهان لعملة واحدة : واحد لتصريف المعنى والثاني لمحاولة احتوائه. يلتبس الوجهان٬ عند الشاعر الزهراوي٬ فلا نعرف وجهالقصيدة من قفاها٬ وتظل القصيدة مع ذلك شعرا٬ والشعر حرث فآتوا حرثكم أنى شئتم .تلك هي الارسالية التي يستهدفها ٬ في فضولي٬ الجراب الأزرق لمحمد الزهراوي . من هذا الترخيص الشعري الذي قلما تجود به الصرامة الحياتية تختفي حقيقة الشعر والشاعر٬ ويتأبد النص الجذير بالتأبيد٬ ألم يقل الشاعر بلعب حر باللغة٬ وبسجع صوتي : Les poètes n’ont rien à découvrir. Les poètes, il faut les dé_couvrir . ليس للشعراء ما يكشفونه. الشعراء من ينبغي إعادةسترهم. بذا سار الانسجام المثنوي في مدونة الشاعر محمد الزهراوي ٬ المخضرم بين لسانين ٬ على الوثيرة التالية: حاستان ـ لغتان ـ شعران/ قصيدتان. ـ حاستان :من العلاقة الوطيدة بين الذات والمحيط تنهض الجدلية الشعرية في التقاطها الماكر للصورة ٬ بانخراط الحواس لبناء الحدس الشعري ٬ ذاك الذي يجعل من الشعر خانة المحتمل الذي يتجاوز الواقعي بل يقوده أحيانا كثيرة ٬ في هذا السياق الحواسي التفاعلي مع المحيط لا يبقي الشاعر الا على حاسّتين يحوزان السبق الشعري: البصر والسمع ٬ فالشاعر٬ في تصوره ٬ من يجيد استعمال هاتين الحاستين : يقول :”عيني مكان الوقت ” ٬ فبالعين أمتلك الحيّز المكاني ٬ فتصبح عيني المعادل الموضوعي للمكان الملتقط . يقول : ” أسمع الصمت بعيني “٬ فتصبح حاسة البصر أذنا لسماع صمت المكان في اتحاد حلولي بين الحاستين ليقول بعد ذلك٬ وبعد المقدمة الأولى والثانية في تركيب شعري : ” في آخر المطاف تصبح العين أذنا ” ٬ وهما الحاسّتان الكفيلتان ببناء صورة المكان ٬ لتتشكل هذه الصورة لغة ٬ تمثلا خاصا للمكان الذي يسكن الشاعر ويسكنه الشاعر ٬ فيتحوّل المكان الى مكان ذاتي خاص بعد ان انمحى المكان الموضوعي تماما ٬ فالشاعر لايكتب عن المكان بل يكتب المكان بجمالية خاصة٬ يقول :” أقضمالمكان بناب الوقت ” ٬ وهو الناب المحيل الى اللغة وقد انتقل المكان الى لغة ٬ الى صورة سمعية ٬ وقد حاول الشاعر شعرا تفكيك إواليتها ٬ تلك التي تستعصي على أشباه الشعراء ٬ لذا يصرخ الشاعر بتحدّ خاص ٬ وبتحليل لخمياء القصيدة ٬ ذات التركيبة الخاصة : ” أيها الشاعر٬ لكي تسمع أذني ٬ ازرع عينيك في فمي ٬ لا تستطيع ” ٬ بمعنى آخر٬و بتبسيطية تحرم المقول الشعري من نسغه ٬ أيها الشاعر ٬ التفت الى لغتك كي تمتلك المكان . بذا يذرع الشاعر مكانه حتى يخول لقدميه التفكير في تفاصيل المكان ٬ يقول: ” أحلمُ ٬ ورجلاي تفكران “٬ فحلم اليقظة في صلب الحلم يشكل كوجيتوه الخاص٬ ليتساءل وقد أثقل الوقت ممشاه ٬ وبوفاء دائم لاشتغاله اللغوي ذي السجع الصواتي:”هل هذا المكان أكثر مطرا أم أنه أكثر قدما من عيناي؟“٬فهو المكان الشعري الممطر٬ ذاك الذي اصطلح عليه قدماؤنا بماء الشعر. وفي التحام بين الحاستين وقد أنجبا مكانا لغويا ليس تجريديا بالضرورة يقول الشاعر: ” سابقا ٬ أذرع دروب البيضاء تلك الدؤوبة من غير فتور للحدّ الذي تلهث فيه كلماتي ومع ذلك أتابع ممشاي مسلّحا بخرسي والآن منهكا عند كل ممشى ٬ ينبغي أن أتوقّف وقبلي تصل كلماتي قصدي المشتهى . يضيق المكان الموضوعي على سعته ٬ وتصنع الكلمات منه المكان المشتهى لتصل المبتغى بإيمان عميق في شساعة العبارة وقدرتها العجيبة على تجاوز ضيق المكان .حينها ينمحي المكان الخارجي وتنمحي معه الحاسّة الخارجية وتصاب بالعمى ٬
فيجد الشاعر ضالته في عماه لتتقد بكل عنفاونها ثيمة العمى . —–