جنون خسارة الأوفياء

 


استاذ التاريخ والحضارة الإسلامية ورئيس قسم التاريخ كلية الآداب- جامعة دمنهور

غنى محمد الحلو من كلمات سيد حجاب : منين بيجي الشجن.. من اختلاف الزمن/ومنين بيجي الهوى.. من ائتلاف الهوى/ومنين بيجي السواد.. من الطمع والعناد/ومنين بيجي الرضا ..من الايمان بالقضا/من انكسار الروح في دوح الوطن/يجي احتضار الشوق في سجن البدن/من اختمار الحلم يجي النهار/يعود غريب الدار لـ أهل وسكن/ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء/وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع/أقسى همومنا يفجر السخرية/وأصفى ضحكة تتوه في بحر الدموع/ولفين يأخذنا الأنين/لليالي ما لهاش عينين/ولفين يأخذنا الحنين
لواحة الحيرانين.

الوفاء والإخلاص من الصفات النبيلة والأخلاق الحميدة التي ترفع من قيمة صاحبها وتعزز من احترامه عند الآخرين، وهو عكس الرياء، كما أنه من الصفات التي تثبت الحب في القلوب، والإخلاص من الأخلاق التي أمر الله -سبحانه وتعالى- بها، وورد ذكره في القرآن الكريم في الكثير من الآيات، إذ أن الله تعالى جعله مقياساً لقبول الأعمال والعبادات، فمن لا يخلص في عبادته وحبه لله تعالى فكأنه لم يعبد الله أبداً، لذلك وجب الإخلاص في النية والعبادة والأعمال لأنه أساس قبولها، وفي هذا يقول -جلّ وعلا- في محكم التنزيل: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء). من أهم ما يتميز به الإخلاص أن جميع الجوارح تشترك فيه، إذ يجب أن يكون الإنسان مخلصاً بقلبه وعقله وروحه وحواسه وكل ما يملك، فلا يُعقل أبداً أن يفعل الإنسان شيئاً بجسده بينما عقله وقلبه لا يفكران في الإخلاص في العمل، لذلك يعتبر من الصفات التي يجب أن تسيطر على حياة الإنسان بكل ما فيها، كما يجب أن يكون الإنسان مخلصاً ، وإذا رزقه الله بالمخلصين من حوله فيحمده على ذلك ولا يصاب بفيروس جنون خسارة الاوفياء فقال إيليا أبو ماضي: يا من تحن إلى غد في يومــــــــــــه ،،،،،،،، قد بعت ما تدري بما لا تعلــــــــم.

فمن ثمرات الإخلاص أنه يساعد في نمو المجتمع وتطوره وإتقان العمل واختفاء الفساد ومظاهره، بالإضافة إلى أنه يزيد من الثقة بالنفس لأن المخلص في حياته يعرف في قرارة نفسه أنه قد أدى ما عليه على أكمل وجه، فلا يخاف شيئاً ولا يقلق من عدم قبول عمله لأنه يعرف نيته أنها خالصة وليس فيها أي رياء أو ادّعاء أو تمثيل.

من أهم ما يميز الإخلاص أنه سر بين الإنسان وبين الله تعالى، فلا يعلم بنية العبد وإخلاصه إلا الله تعالى، لهذا يجب أن يجتهد الإنسان في أن يكون مخلصاً ونيته صافية وخالية من أي رياء، خصوصاً أن الأمر الشائع في الوقت الحاضر أن يفعل الإنسان الأعمال الصالحة كي ينال المدح والثناء والشهرة أمام الناس، دون أن يفعلها بنية خالصة، وهذا يجعل العبادات وكأنها هباءً منثوراً، فيذهب تعب الإنسان وجهده دون أجرٍ أو ثواب. كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مخلصين في كل أمور حياتهم، وكانوا يحثون الناس على الاتصاف بهذه الصفة الحميدة، كما كان الصحابة والتابعين والسلف الصالح من أكثر الناس إخلاصاً، لهذا يجب اتخاذهم قدوة والتصرف مثلهم لنيل رضى الله تعالى، وكي تكون الأعمال متقنة وكاملة وليس فيها نقصٌ أو تقصير، فالمخلص إنسان عرف سرّ القبول وأداه على أكمل وجه.

ففي الوفاء سعادة للنفس البشرية، والوفي هو الإنسان الراقي من البشر، والوصول لدرجة الوفاء هو المكسب الحقيقي لبني الإنسان.

إن الوفاء ليس كلمة تقال، ولا سلوكاً يمكن القيام به بلا مقدمات وبلا استعداد وتهيؤ ذاتي ومعنوي، ولا فعلاً يتصف به الإنسان، إنما الوفاء هو طبيعة للنفس الزكية، والروح العطرة الشذية، والقلوب الخيرة الندية، يأتي بصاحبه لأفعال هي المروءة بعينها، والإكرام بعينه، والكرم بحقيقته، ورد الجميل على أصوله، والاعتراف بالفضل بكل معانيه، فهي التي تأخذ بصاحبها نحو السؤدد، وليس صاحبها الذي يأخذها نحو التطبيق، وفي النهاية ينصهر الإنسان بوفائه فيصبح الوفاء سلوكه اليومي وفعله الدائم حتى بدون أن يفكر فيه، وهذه هي السعادة بأسمى معانيها، سعادة الوفي، وسعادة المحيطين به، وسعادة الأمة من بعدهم.

في هذا الزمان أضحى الوفاء عملة نادرة، على الرغم من أنه من أعظم الصفات الإنسانية، وهو من الأخلاق الكريمة والحميدة، ومن فقد فيه الوفاء قد انسلخ من إنسانيته.

والوفاء خلق عظيم لا يتصف به إلا عظيم، وقد صنفه بعضهم بأنه وليد الأمانة وعنوان الصدق ودليل الشجاعة والصبر وقوّة التحمل.

وفي زمننا الحالي انسلخ الوفاء، وكثر فيه الغدر والخيانة مع مقت الإسلام لهما وتحذيره من نقض العهد بأي صورة من الصور، ولأي غرض من الأغراض ووفق رؤى الحكماء أن الذي ينقض العهد ويتصف بتلك الصفة الذميمة إنسان أحمق لا مروءة له ولا شيمة!

وفي زمن اللاوفاء الذي نعيشه الآن تتكشف حقائق البشر وتنزاح الأقنعة عند حدوث المواقف، وتتضح معادن الرجال وتظهر على واقعها الحقيقي إن كانت التنشئة في بيئة صحية نظيفة أو بيئة عفنة مريضة!!

قد يعتقد بعضهم أن التحصيل العلمي أو الثقافي قد يكون لهما تأثيرهما على الوفاء والالتزام، وهذا قد يكون فيه شيء من الصحة، ولكن هيهات.. فهناك من تحصّل على أعلى الدرجات العلمية وترقّى إلى أعلى المناصب الدنيوية، ومع ذلك لم يؤثر عليه ذلك رقياً وسلوكاً حيث لم يلتزم بوفاء ولا عهد!!

وهناك من لبس ثياب الزّهد والتقية وهو يحمل في جوانبه اللاوفاء، والغدر، والخيانة، بمعنى (حية تحت تبن) كما يذكر في الأمثال الشعبية. وفي نفس الوقت يكون الوفاء سمة بارزة وخصلة حميدة لدى فئات من الناس ممن لم يحصلوا على درجات علمية أو مراتب عليا رفيعة، وهم بذلك يعبرون عن بيئتهم الطيبة المسكونة بالخير، والمحبة، والوفاء، والإخلاص، ورد الجميل والاعتراف بالفضل لأهله لمن كان لهم عون وسند بعد الله -سبحانه وتعالى-.

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}، والوفاء مطلوب في كل الظروف، فما بالك به إزاء عهد أمام الله، فهنا العهد يستلزم الوفاء أكثر وأكثر، يقول تعالى في محكم التنزيل {وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

فالوفاء بالعهد من أهم المبادئ التي يقوم عليها بنيان الشخصية  القوية المتينة الداعية للحق المبشرة بالعدل والتسامح والمحبة والإخاء، والوفي هو داعية حقاً لأن سلوكه عامل جذب للآخرين نحو عقيدة هي الفطرة بذاتها.

أما نقض العهد فلا طريق له إلا الضياع والخسارة والتشتت والشر والبعد عن الحق.

إن الوفاء علامة بارزة من علامات الإيمان -بإذن الله- وكذلك دلالة راسخة على قوة الشخصية وبعدها عن المصلحة والانتهازية والوصولية والنفعية والطمع والحسد والغل والحقد ، والإنسان الوفي هو محل ثقة بين الناس، يحبونه ويجلونه، ويقبلون على معاملته، ولا يرتابون بوعده وعهده، وهذا نصر عظيم لا يناله إلا الأوفياء، وعجب إن كان الوفاء لذلك عملة نادرة في هذا الزمان الذي جاء بحضارات مشوهة، وأفكار ضالة مضلة جعلت شريعة الغاب سيداً يحكم الجميع.

إن الوفاء مع الناس يأتي في كل الظروف وليس كمداهنة ونفاق وقت وجود الأشخاص في مناصبهم، وإنما الوفاء يبقى مع الطيبين الأخيار حتى ولو جار الزمان عليهم ووقعوا بالمحن والشدائد.

والنقطة المهمة التي لا يجوز التغافل عنها أو التغاضي بخصوصها، هي أن هناك عقوداً وعهوداً يرتبط بها كل منا في يومه وفي ظروفه وأحواله المختلفة، وهذه من آخر الضرورات أن يلزم بها، وهذا الأمر لا مهادنة فيه لما فيه من إضرار بمصالح البشر، يقول تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، وهذا أمر من الله تعالى للمؤمنين، ولا خيرة لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمراً.

ونذكر هنا في أنه إذا كانت النفس البشرية مزيجاً من الأحاسيس والانفعالات والسلوكيات والتصرفات والطباع والأمزجة، التي منها ما يشتمل على الخير، ومنها ما يقع في إطار الشر والعياذ بالله، فإن من أجمل الصفات التي قد ترقى إليها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق، وتتطلع إليها الأفئدة بفطرتها التي جبلها الله تعالى عليها هي صفة الوفاء.

واخيراً الوفاء لا يُقاس بعدد القاءات ولا الساعات التي كلّمك فيها بالبطاقات الهاتفيّة، بل بالزمن الذي يقوي اواصر المحبة والإخلاص والمواقف التى تترجم الوفاء ، وحده الوفاء يملك عدّادًا دقيقًا للوقت، إنّه النخاع الشوكي لذاكرة الأوفياء ،فالوفاء هو أن تعجز عن الخيانة رغم قدرتك عليها. ً فيذكر صلاح جاهين في الرباعيات :

ساعات أقوم الصبح قلبي حزين
أطل بره الباب يأخذني الحنين
اللي لقيته ضاع
واللي اشتريته انباع
واللي قابلته راح وفات الأنين،،،،،،وعجبي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top