ضاقت بك الدنيا, أم أنت الذي ضقت بها يا أبا الطيّب… ها أنت مطارَدٌ في كل مكان, هجرت الشام إلى مصر, وتركت بلاط صديقك سيف الدولة إلى بلاط كافور.. ثم أعيتك الحيلة في مصر، وأنت كالأسير لا تستطيع حراكاً, ولم تغادر مصر إلا خائفاً تترقب. فلماذا هذا الترحال, ألم ترق لك الإقامة عند أحد السلاطين, ألم تتعب إبلك من قطع الفيافي والقفار …
ويضحك المتنبي ساخراً مقهوراً وهو يقول عن سلاطين عصره :
أُسيرها بين أصنام أشاهدها ولا أشاهد فيها عِفّة الصنم
حتى رجعتُ وأقلامي قوائل لي : المجد للسيف ليس المجد للقلم
أتعلم يا أبا الطيب أن هذا المعنى المعبّر قد أخذه عنك كثير من الشعراء خلال ألف سنة. وكان آخرهم عمر أبو ريشة الذي يقول في سلاطين عصره :
أمتي كم صنم مجّدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدوّ الغنم
ولكن… ألستَ مسرفاً في تشاؤمك ونظرتك السوداوية إلى الناس والأمور يا أبا الطيب .
ومن جديد يطلق المتنبي ضحكته الساخرة, وهو يردّد :
غاض الوفاء, فما تلقاه في عِدَةٍ وأعوز الصدق في الإخبار والقسم
أتى الزمانَ بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه على الهرم
قد يكون لديك بعض الحق يا أبا الطيب, ولكن التعميم ليس دقيقاً, صحيح إنك عوملت بالإساءة في مصر لدى كافور, وضاقت بك الأرض, ولكن أهل مصر ليسوا جميعاً صورة عن كافور .
سوف تقول لنا إنهم غافلون عن مساوئ حكامهم ومفاسدهم، ألست القائل :
نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
ولكنك تمكنت أخيراً من مغادرة مصر وفق خطة محكمة, ولم يستطع أعوان كافور وجنوده أن يقتفوا أثرك وأنت في طريقك إلى الكوفة. ولقد سمعنا قولك بعد إيقانك بالنجاة,
وأنت تتحدى كل من وقف أمامك.. حتى وصولك إلى الكوفة وقد أنخت بها إبلك
وركزت رمحك :
فلما أنخنا ركزنا الرماح فوق مكارمنا والعلا
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت وأني عتوت على من عتا
وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
ولكن.. مهلاً يا أبا الطيب… أراك تسرف في التهجم على مصر من خلال كراهيتك لكافور… وما تقوله فيها قد ينطبق على غيرها. ألم تسمع بما حدث في الكوفة من ويلات، ألم تسمع بالصراعات الصغيرة والكبيرة في بغداد. الإخوة يقتتلون, وخلف كل منهم أعوان وأنصار ومرتزقة.. وأنت نفسك قد خرجت من الكوفة في صباك المبكر هارباً من جحيم الفوضى والاقتتال. وكنت تنتظر العودة إلى الكوفة أميراً أوسلطاناً. ألست أنت الذي قلت لكافور :
وغير كثير أن يزورك راجل فيرجع ملكاً للعراقين واليا
وأنت تقصد بالعراقين : البصرة والكوفة .
وها أنت تعود إلى الكوفة هارباً من جنود كافور, ولم يبق لك في الكوفة قريب ولا صديق. ولقد ماتت جدتك الهمذانية قبل عودتك, وهي التي كانت ترقب تلك العودة, وتقبّل رسائلك شوقاً ولهفة. وأنت الذي ذكرت ذلك في شعرك :
أتاها كتابي بعد يأس وترحة فماتت سروراً بي, فمتُّ بها غمّا
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخمَ كونُك لي أما
لم تستطع لقاء جدتك وأصدقائك في الكوفة… وسرت إلى بلاد فارس وكأنك تريد القول
إنها جميعاً بلاد تجمعها حضارة واحدة, وثقافة مشتركة, ثقافة يفترض ان يلتقي فيها عراق العرب بعراق العجم، وسوف ترى يا أبا الطيب.. كيف سيصبح العراق العربي هدفاً للغزو الوحشي الذي قام به هولاكو من الشرق. وسوف ترى يا أبا الطيب.. كيف أن هولاكو آخر سوف يقتحم عراق العرب . ولكنه هذه المرة هولاكو غربي. ونحن قد سمعناك تنشد قبل أكثر من ألف سنة الحكم الرائعة التي تصور أحوال الكوفة اليوم, الكوفة مسقط رأسك ومرتع صباك وملعب أحلامك, لقد سمعناك تنشد قبل أحد عشر قرناً :
لا يخدعنك من عدودمعه وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
أفعال من تلد الكرام كريمة وفعال من تلد الأعاجم أعجم
ونحن نعلم أنك هنا تعني بالأعاجم الهجناء وضائعي الأصول وحثالات جميع الشعوب .
هاهو عراقك اليوم يا أبا الطيب مسرح لمن وضع مخطط الفوضى الخلاقة ونفذه بلؤم وخبث على أرضك وأرض جوارك . فأصبحت هذه الأرض مكانا لتصفية حسابات كبرى ندفع ثمنها مكرهين .ولكننا نبقى متفائلين بقولك :
واني لمن قوم كأن نفوسهم بها أنف ان تسكن اللحم والعظما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما
…… وماذا عن السنوات العشر الني قضيتها في حلب .. وهي زهرة حياتك وإبداعك ؟؟
ويجيب المتنبي : ذلك يحتاج الى وقت آخر وحوار خاص .
…. الى الملتقى إذاً يا ابا الطيب في رحاب حلب قريبا .
محمد قجة