– طابت أوقاتك بكل خير يا أبا العﻻء وشيخ الحكماء وفيلسوف الشعراء ..
= أنا ﻻأستحق لقب أبي العﻻء .. ألم تسمعوا بقولي :
( دعيت أبا العﻻء وذاك مين
ولكن الصحيح أبو النزول )
– هذا تواضع منك .. وهانحن نراك بيننا بعد ألف عام وأنت ملء سمعنا وبصرنا وبصيرتنا . . . ونحن نعلم سيرة حياتك الرصينة .. ولكن ..ألم يعرف الحب طريقه إليك ؟!
= تلك أيام الصبا .. ليس منها غير الذكريات .. ومن شعري في الصبا :
( منك الصدود ومني بالصدود رضى
منذا علي بهذا في هواك قضى )
– ونحن نعلم أنك في شبابك كنت تتفاخر ؛ ولكنك تمزج هذا التفاخر بحكمتك المبكرة . ما الذي تذكره من عمر الشباب ؟
= ( أﻻ في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
وإني وإن كنت اﻷخير زمانه
ﻵت بما لم تستطعه اﻷوائل )
– فقدت بصرك طفﻻ .. ولكن بصيرتك ظلت متوقدة .. وهاأنت تبرح المعرة يافعا إلى حلب حيث أهل أمك “بنو سبيكة ” الذين تقول فيهم :
( كأن بني سبيكة فوق طير
يجوبون العزائز والوهادا )
ثم نراك تتنقل بين أنطاكية والﻻذقية وطرابلس الشام ، إلى أن تقصد بغداد ثم تغادرها مهموما مكتئبا .. وتلزم بيتك في المعرة رهين محبسيك .
يأخذ عليك كثيرون أنك كنت كثير الشك مما جعلهم يتحاملون عليك ويتهمونك في صدق إيمانك .. فهل لك رد عليهم ؟
= إن الذين يرمونني بذلك ﻻ يذكرون قولي المشهور :
( أثبت لي خالقا حكيما
ولست من معشر نفاة)
وقولي :
( يا خالق البدر وشمس الضحى
معولي في كل شيء عليك )
وقولي :
( رددت إلى مليك الخلق أمري
فلم أسأل متى يقع الكسوف)
– هذا صحيح يا شيخ الحكماء .. ولكنهم يرمونك بالشك وضعف اليقين ويزعمون أن ذلك وارد في شعرك . ألست القائل :
( كذب الظن ، لا إمام سوى العقل
مشيرا في صبحه والمساء )
= إنني أتعجب من الذين يتقولون على شعري .. أنا أدعو إلى تحكيم العقل والتفكير .. وهل في ذلك مخالفة لما ورد في كتاب الله : يعقلون . يفكرون . يتفكرون . يعلمون .
وهل يعيب شعري قولي :
( خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
وﻻ يرجون غير المهيمن راج )
وقولي :
( وإنك إن تستعمل العقل لم يزل
مبيتك في ليل بعقلك مشمسا )
– ولكنك متهم بنقدك الحاد لبعض مظاهر عصرك ، وعدم رضاك عنها في أحوال اجتماعية واقتصادية وسياسية ، ومﻻحظاتك في “رسالة الغفران”
= نعم لقد فعلت ذلك . وما قلته يصلح لكل زمان ومكان .. وهل الدعوة إلى العدل والمساواة أمر بغيض ؟!!
لقد انتقدت الملوك فقلت :
( تسمى رجال بالملوك جهالة
وﻻ ملك إﻻ الذي خلق الملكا)
وقلت :
( الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض ، وإن لم يشعروا ، خدم )
فهل في قولي هذا ما يعيبني ؟!
– هذا ﻻ يعيبك بل إنه يشرفك .. وهل انتقدت أحواﻻ اجتماعية أخرى ؟
= نعم .. دعوت إلى اﻹنصاف والمساواة
( لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقير ضعيف أو أمير متوج )
ودعوت الى السﻻم والهدوء فقلت :
( فإن ترشدوا ﻻتخضبوا السيف من دم
وﻻ تلزموا اﻷميال سبر الجرائح )
وقلت :
( وأصفح عن ذنب الصديق وغيره
لسكناي بيت الحق بين الصفائح )
-كما انك كنت تشكك في نزاهة القضاء الذي يغض النظر عن الفاسدين الأثرياء ويعاقب الفقراء في سرقات صغيرة ؛ وذلك في قولك : ( يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار )
= نعم قلت ذلك وانا عند رايي .
– ولكنك كنت كثيرالتشاؤم ، اتذكر قولك :
( أولو الفضل في اوطانهم غرباء
تشذ وتنأى عنهم القرباء )
ويؤخذ عليك أنك أخذت المعنى من أستاذك المتنبي أبي المحسد في قوله :
( أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخﻻهم من الفطن)
= ويضحك أبو العﻻء مسرورا ويقول : ألم يقل المتنبي :
( أنا الذي نظر اﻷعمى إلى أدبي )
والمتنبي كان يقصدني .. فأنا هو اﻷعمى الذي نظر إلى أدبه !!
– من المعلوم انك يا ابا العلاء معروف على المستوى العالمي اكثر من اي شاعر عربي آخر حتى استاذك المتنبي .
= نعم اعرف ذلك .. وهذا يسعدني .. ولعل مرد هذه الشهرة لأعمالي النثرية وابرزها ” رسالة الغفران ” الذي هو فتح جديد معرفيا وفنيا وحضاريا ؛ واعلم ان كتابي هذا تأثر به وقلده كثيرون منهم ” دانتي ” . وكذلك كتبي الأخرى ” الصاهل والشاحج ” وهو نقد سياسي واجتماعي على لسان الحيوانات . وكتاب ” الفصول والغايات ” وكتاب ” رسالة الملائكة ” وغيرها من الكتب .
– ستبقى يا ابا العلاء شغلنا الشاغل ومحور اهتماماتنا الفكرية والادبية والشعرية والحضارية ؛ لأنك عبقري استثنائي من الصعب ان يجود بمثله الزمان .