خفافيش غويا لا تدخل مدينة غابرييل غارسيا ماركيز
خفافيش غويا التي غادرت لوحته وحلّقت إلى ماوراء البحار لتحطّ الرحال بووهان،
أغرت وجوهها الآدمية البشر فتكالبوا على نهشها بنهم .
خفافيش غويا أعلنت تمرّدها داخل عمقهم ،
أطلقت شيطانا صغيرا بقرون تاجية حضنته ذات صدفة يرعى بأحشائهم ويرتع بلاهوادة.
خفافيش غويا الماكرة ألبست شيطانها الصغير بعضًا من سوادها فجاء انتقامها حدادا على خطايا البشر.
ربما نكاية بالفنان الذي احتجزها داخل إطار لوحته فغادرت كوابيسه لتسكننا،
وربّما نكاية بالطبيعة بعدما تبرأ منها الطير والشجر،
لذلك لم ترغب في الإختفاء بلا أثر والمؤكد ان خفافيش غويا العمياء أذهلت التاريخ
وهي تخلّد شراستها ومكرها بأرقام مهولة اختزلت كل الألوان والديانات والمشاعروالدموع ،
فشيطانها اللامنتهى الصغر بقرونه التاجية استبدل الدم بالهواء واستوطن الإنسان
ثم توج نفسه سلطانًا لكل الآلام.
قد تكون الشياطين الصغيرة أكثر صرامة من القوانين وهي تلقّن الإنسان درس الحرية بعد حرمانه منها وتعيد ترتيب الحروف لمفهوم الغزو والإحتلال والإستيطان.
وربما يكون إصرارها على نشر الشر وتدمير الحياة غيرة من الإنسان بعد أن تفوق عليها بأساليب مبتكرة في الخراب والقتل والفتن .
حتى هي انطلت عليها حيله يوما وصدقت أن قلبه منيع يستحيل اختراقه،
و اعترفت بشجاعة أنه يتقن لعبة التنكر وارتداء أقنعة الإنسانية والمحبة.
هذا الإنسان العاق لكنه وجوده ولأمه الطبيعة لم يجد في الحروب ولا المجاعات ولا أنّات اللاجئين، سببًا يوقظ فيه الضمير الحي أصبح أكثر عميا وسوادًا من خفافيش غويا وأصبح عقله نقمة عليه بعدما سلّم قلبه لغواية السلطة والنفوذ والثروة وقدّم روحه قربانا للجشع .
هذا العقل بدون قلب أصبح مجرد رمز أجوف، وقف عاجزا أمام قرون الشيطان الصغير
التي أصابته في العمق. يحاول ربما جاهدا تدارك أخطائه وتصحيح مساره بعدما
زرع الرعب باختراعاته المدمرة فكانت حروبه بطعم شروره، كيميائية،
بيولوجية، نووية، فيروسية، اقتصادية، واللائحة تطول. و ها هو خفاش أعمى
هرب من قبضة فنان يسلّط شيطانا منتهى الصغر بقرونه الهزيلة ليهزمه شر هزيمة ويضعه أمام مرآة أفعاله عكست خيباته بوضوح.
شيطان صغير يسلب منه حاضره ويحتجزه رهين قدره ويوقف الزمن بشماتة. في خضم الجري وراء المجهول والمادة،
أضاع العالم إحساسه بإنسانيته وأصبح متبلّد الشعور. ربما خفاش غويا وشيطانه الصغير أكثر رحمة وأمانة وهما يعيدان لنا ما أضعناه،
إحساسنا المفقود بالآخر بعدما كان معيار تجاوبنا للكوارث ليس الأفظع منها والأكثر ألمًا بل الأقرب إلينا. كوفيد 19، هذا الشيطان الصغير بقرونه الهزيلة خلق معجزة،
وحّد بين القلوب وحرّك المياه الرّاكدة بأرواحنا، بل حررنا من أنانيتنا وغرورنا
وفكرة أن الإنسان المتحضّر سيد العالم، يتحكم بمصائر الأمم ويبني لمستقبله بثبات ولو على أنقاضها. في خضم الجائحة تتوالد السيناريوهات المؤثثة للمشهد المأساوي،
وقد تكون فعلا مؤامرة شيطانية ابتدأت بفكرة مجنونة شرهة للقبض بيد من حديد على السوق الاقتصادي العالمي وللمزيد من السيطرة وإخضاع الشعوب لربما تحول الفقر المتجدر فيها إلى بؤس ليتلذذ الغانمون أكثر بشرههم، وبقدرة قادر انقلب السحر على الساحر وأصبح الجميع غارقًا إلى خصره في وحلل من العجز والحيرة والانتظار. وبينما نجترّ خيباتنا، تتلاطمنا كوابيس غويا ووحوش دالي، يزداد الشيطان الصغير بقرونه الهزيلة مرحا وهو يعيث في أجسادنا تنكيلا و يقتات من أحلامنا. أضحت الكوابيس ملاذا وهروبًا من فكرة الموت المحتمل القريب. مفترسة هي انتظاراتنا للفجر، تغرس مخالبها المسنّنة في قلب زمننا المحتضر، ولا يزيدها ذلك إلا لهفة للارتواء من خوفنا وهلعنا من المجهول. كل الألسنة التي سكنها الصمت انتحرت وهي تلعق مواطن الضعف والعجز التي طغت على السطح وأغرقت كل النرجسيات والانتصارات الزائفة التي سطّرها الإنسان بغرور عبر تاريخه الدامي الحافل بوهم المكاسب والنفوذ .
علينا الاعتراف بشجاعة أننا نسير بلا هوادة إلى الغور الأدنى وإلى حتفنا ما لم نستدرك أرواحنا وننقدها بجهد العزيمة والتضامن والحب، ففي ذلك خلاصنا. مغزى الحياة بحاضرنا وحضورنا وأن نموت. الموت نهايتنا الأكيدة يوما ، لذلك لا نخافه. لكن من المؤكد أننا نخاف الإنتظار ونرتعب من كل الحرائق التي تشعلها الحيرة بذواتنا ونحن نترقب موت الشيطان.
فكرة فقدان الحضن لا تحتمل، فلا معنى للوجود بدون دفء ولا انعتاق، لذلك حاضرنا الآن يتسلل بين أصابعنا ببرودة قاتلة، فاسحا المكان لفزع وتوتر صامت ومتاهات أسئلة لاتنتهي. هل يدق الإنسان مسامير نعشه ؟ أم هي فاتورة جشعه وشروره يؤديها ولو بعد حين؟
هل شيطان الجائحة المتناهي الصغر نقمة، لعنة أم نعمة ؟ أم هو ملاك؟؟
أهرب من تساؤلاتي وكوابيسي وخفافيش غويا ووحوش دالي إلى أرقام باردة صمّاء، أرقام بالآلاف اختزلت كل المشاعر والأسماء والبلدان والديانات والآهات والأنّات والدموع وشواهد القبور، غزّة الشيطان الماكر لا لون لها ولا هوية ولا ديانة. الجميع تحت رحمة غضبه وجولاته وصولاته، أهرب من هذه الأرقام المهولة بحثًا عن سحر رقم مثالي أعادت له الجائحة وهجه ونوره. أصبحت أعشق معناه ومضمونه، له وقع السحر، يثلج الصدور ويطفئ نار الانتظارات. “صفر” من المصابين والمتوفين. “صفر”من المرضى والمنكوبين. “صفر” من المعوزين واللاجئين. “صفر” أصبح منتهى الأمل حتى تعتقنا الكوابيس وتعود الخفافيش إلى إطار لوحتها تلتهي بمشاغبة الفنان.
وقد يغادر الشيطان منتهي الصغر والعناد كل البؤر التي استوطنها بعدما استكفى من دمنا وهوائنا وأعاد ترتيب أولوياتنا، وقد يُنبت أجنحة بقرونه الهزيلة تأخذه بعيدا خارج مدارنا. يحلّق عاليًا وربما يعود ملاكًا كما كان يوما ذات خلق معلنًا أن جوهر الوجود هو الإنسانية، ومركز الكون إنسان بعقل حاضن لقلبه بعدما استوعب درس الشيطان الملاك الذي قلب حياته رأسًا على عقب وربما للأفضل. يعيش بعد الجائحة فجرًا يمنح النور والعدل والكرامة لكل البشر .
أهرب أخيرا من القلق والترقب إلى دفء حروف العميق غابرييل غارسيا ماركيز، الممتلئة صبرا وأملا : -“لم يفت الأوان بعد للمشاركة في إنشاء المدينة الخيالية المضادة،
جديدة وكاسحة للحياة، حيث لن يكون هناك أحد قادرا على اتخاذ قرار عن الآخرين بكيفية موتهم، حيث سيثبت أن الحب أمر حقيقي وأن السعادة ممكنة.”
وللأمل والحب وكل الأحضان الدافئة بقية…