رواية نور خضر خان : تنبيهٌ بلا تصحيح ومشاهد وثائقية غير مقيدة بالزمن ! بقلم: نجاح عباس رحيم/ العراق

مقدمة
في أي اختيار لعنوان أي مقالة نقدية تصف بنية أي عمل أدبي, لا يرى الناقد أنه يمتلك إلزاماً على القارئ أن يقرأه ويحسبه موجزاً قاطعاً لنص الرواية, لسبب بسيط وهو إن الناقد يدوّن عشرات الإشارات النقدية التي تتيح للقارئ وحده أن يؤول أي واحدة تصف باتساق متقن جزءاً من بنية الرواية إلى صيغة عنوان للمقالة بناء على فهمه .
والرواية موضوعة النقد تتحمل, في الواقع, أن يختار لها القارئ العادي أو القارئ الناقد; أكثر من عنوان. ولكن في كل الأحوال ينبغي للعنوان أن يخرج من زهر النص الروائي ومن ثماره, ولا جدوى لعنوان رواية لا يأتي من فهم القارئ .
والعنوان الذي اخترته لا أظنه كاف لما يجول في خاطري الذي ملأه الكاتب بانطباعاته ورؤاه المنفصلة عن نمط الرواية التقليدية البصرية في ناحيتين; الأولى في بثه الحياة في أسر بصرية غابرة لاوجود لها بالتأريخ; وتجنيد العديد من الأماكن لها وعشرات من الأسماء , والثانية بالحبكة غير التقليدية التي اظهر بها مشاهد الأحداث, وأتاح للقارئ أن يقرأ ليستبصر بنفسه المعنى الذي قدّمه في واقع افتراضي بالمكان والزمان بطابع وثائقي جرت حكايات مشاهده في حقبة ما قبل الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 ولغاية 2019 , ليضع بنفسه العنوان الذي يقتنع به للرواية .
انطباعات
إن أول ما يثير الناقد في تناوله لأيِّ كتابٍ مطبوع يحتوي على نص أدبي, هو العنوان والى جانبه الغلاف. فالعنوان ” نور خضر خان ” وصورة الباب القديم المصنوع من خشب الصاج والمطبوع على الغلاف, هما صورة واحدة لتشكيل واحد يحيل الناقد, بالحدس, وعلى الفور الى مقاربة دلالية وهي; إن الرواية تتحدث عن تأريخ حقبة من حكم الإدارة العثمانية للعراق .
وليس ضرورياً أن يكون الباب من التراث البصري, إذ يوجد في بغداد والعمارة العديد من الابواب لبيوت ذات طابع تراثي تتماثل مع الباب المطبوع على غلاف الرواية ; بالغرة التي تقع في قمته, وإن كانت أحيانً تختلف نقشتها بشيء بسيط من باب الى آخر تبعاً لصانعه. ولكن صورة الباب وأي صورة أخرى على أي غلاف، تبقى على حد تعبير العديد من الأدباء; صورة أخرى تعمل كتشكيل نصّي تظهره حواس القارئ إلى العيان واقفاً على عتبة الرواية الأولى قبل الدخول الى النص سواء كان روائياً أو شعرياً , بمزاج يشجّعه على إبداء الجمال والإبداع بالنقد.
ولعل أحدهم يمتعض من الملاحظة الأخيرة فيقول: ليس ثمة مبرر أن نلتفت إلى الغلاف والعنوان كطرفين متممين لخطاب الرواية, لأننا بالنهاية سنقرأ مضامينها. ولكن هذا الرأي ليس إلا اضطهاداً للحواس التي تستقرئ الصور الصامتة, وإلغاءً لفكرة إن غلاف الرواية هو جزء من بؤرة ما يحدث في النص الروائي وخاصة عند الحديث عن غلاف رواية ” نور خضر خان ” الذي لا يقف على الحياد من ذلك .

بنية النص الروائي
في القسم الأول من الرواية يبدأ الكاتب روايته على لسان الشخصية الإفتتاحية ” نور خضر خان ” معلنة عن زيارة خاجيك وعن موهبتها في كتابة القصة القصيرة, وعن ذكريات طفولتها في البصرة, لتبدأ بذلك فصول الرواية الأولى وهي أثنا عشر فصلاً, استعرضت بها سيرة حياتها في لندن وعن الشخصيتين عدن وزمان، وأمها ” أمان ” وأخيها ” أمير ” وبداية حبها لزوجها “خاجيك ” وإنجابها لطفلتها الأولى ” آنوش ” , وكشفت عن الآثار الشعرية لشقيقة زوجها ” كُنار ” وخاصة قصيدتها التي جعلها الكاتب بوابة لروايته, وعن نيتها في تأليف كتاب عن حكايات دار زمان ووضع صورة له على غلافه الأمامي .
في القسم الثاني بدأت رواية آنوش في خمسة ملفات (=أضابير ) دوّنت بها حكاياتها الخرافية عن الفتاة التي تحوّلت الى حمامة, وحكايات أهلها على لسان ذويها في دار زمان وعن سهيلة, احتوت الثلاثة الأولى على ثمانية فصول لكل واحدة منها, أما الملف الرابع والخامس فقد احتوى الأول على خمس عشرة مدونة, أما الثاني فقد احتوى على تسع مدونات .
القسم الثالث من الكتاب الذي ألفته نور خضر خان, تخصص كدليل أو خارطة للأشخاص الذين ارتبطوا بواقع ذلك الدار بنواحي مختلفة .
بهذه الفصول وضعنا الكاتب البصري المعاصر جابر خليفة جابر أمام رؤية أدبية جديدة أسست لأحداث كتبت بنصوص روائية سردية ذات طابع وثائقي غير محدد بالزمن. والكاتب وقف بهذه الرواية بكامل مخزونه المعرفي بجذور التراث والثقافة البصرية , فتبنى بها انتشال أو توظيف دار شناشيل وهو دليل أثري مهجور سماه ” دار زمان ” من تراث محلة نظران بالبصرة القديمة ليتخذه جزءاً من وجود أو واقع مكاني صغير يعتمد على أساس الافتراض للدلالة على مدينة البصرة ككل، ومسرحاً لحياة أسر أرمينية فرّت إليها مجبرة من موطنها في تلك الحقبة العثمانية, بسبب الحرب التي تسببت بها السلطة العثمانية ضد الأرمن, وثمة نساء جيء بهن سبايا على أيدي ضباط من الجيش, والجميع توزعوا على المدن العراقية بين خدم وحريم على نمط حريم السلطان العثماني ; ومن بينها مدينة البصرة, ليتشكل بهذه الأُسر والأفراد مجتمعاً أرمنياً صغيراً, ضمّه الكاتب في روايته وهم يمارسون حياتهم كما تصوّرها في تلك الحقبة .
أما في القسم الثاني الذي وسمه بعنوان ” ثلاث تفاحات سقطت من السماء ” فقد اختار لأفراد تلك الأسر أسماء أرمينية من واقع حقيقي وآخر غابر ليصنع بها المسار الروائي بلا قيد زمني كالذي في الروايات التأريخية, إلا أنه عمد الى التوثيق به بشكل افتراضي بدءاً من ص80 و122 و132 وبتاريخ معلوم عن الانتفاضة الشعبانية عام 1991 (ص237)
بعض هذه الأسماء كانت لأشخاص عاشوا في حي الأرمن القريب حالياً من ساحة عبد الكريم قاسم بالبصرة , وبعضها خيالي , وبهذا الشكل أظهر الكاتب طريقة معروفة في مزج الواقع الحقيقي بالخيالي لكي يركّز القارئ على موجات الصور والمشاهد التي لا يخدمها على الاستمرار بالتدفق في الرواية سوى ذلك المزج في السرد .
وبالسرد يتحدث الكاتب عن ” دار زمان ” مرة بزمن معلوم ومرة بزمن مجهول وكلاهما غير متسلسلين, ثم ينتقل الى مكان آخر خارج المدينة ليكمل البناء الفني للرواية باللغة نفسها التي تنتقل مرة من الفصحى التي لم يهتم, أحياناً, بصيغة وانسيابية الجمل فيها بشكل متقن وعلى خلاف مبدأ “الزيادة في المبنى زيادة بالمعنى ” , ولا باستخدام علامات الترقيم أو التنقيط التي تساهم على تنظيم الألفاظ المكتوبة أو الحوار, وتوضيح المعنى الكامل للجمل وتعيين الفواصل بينها, فضلاً عن كونها تمنع تراكم السطور وتمنح القارئ وقتاً قليلاً للتوقف .
ومرة ينتقل الكاتب باللغة الى اللهجة البصرية بالطريقة نفسها, فتسبب باللغتين عرقلة في العرض الخاص بصياغة الجمل وانسيابية الفهم على الخلاف من القارئ, الذي عمد الى قراءة الجملة لأكثر من مرة لكي يدرك المعنى المقصود , والأمثلة على الخلل في تنظيم وصياغة الجملة كثيرة, منها في ص 72 و 73 و 94و96 و187و197 و 198 و200 و 231 .. الخ
في الصفحة الأولى, استهل الكاتب روايته بقصيدة ” آنوش ” , النثرية السردية, التي تعكس مشهداً وصفياً لهجوم أو حرب تشتعل في مدينة أورفة الأرمينية, يُدرك منها أن الرواية في جوهرها صراع أجيال ومصائر بشر في عالم معلوم بالمكان ومجهول بالتأريخ .
وقد تأيّد ذلك بالنص الروائي, وتبين أن القصيدة كانت صرخة ألم ويأس إلى حد طلبت بهما الشاعرة المستغيثة كُنار, المساعدة من أرض خلت من رجالها من ناحية, والقصيدة هي دعوة للقارئ للوقوف على عتبة ثانية للرواية بعد الغلاف, قبل الدخول في بيئة تشكلت بها هوية الثقافة البصرية المميزة، وانتشار الحلقات الاجتماعية الواعية فيها وبزوغ خصوبة الكتابة الأدبية وانجذاب الى حضارة الغرب لتندفع هذه الحلقات بالهجرة إليها من ناحية أخرى, وتبين أيضاً أن دار زمان ذاتها كانت بيئة للتعايش السلمي البعيد عن استغلال الفرد للآخر, على الرغم من التقاطعات في منظومات القيم الخاصة بأفرادها وخضوعها المؤثّر تحت حكم الدولة العثمانية الفاسد واستبداد الأمراء والأعيان المحليين فيه، والقصيدة فضلاً عن ذلك, هي تنبيه وإلفات نظر القارئ إلى مزاج الرواية المحزن ليتهيأ لصراعات تميزت بطبيعة انفعالية وتدميرية تهين الآخر ولا تنطوي على الأخلاق في ظل ذلك الحكم المتخلف وإن لم يشر إليها الكاتب بشكل صريح .
كل هذه الصراعات جعلها الكاتب بمثابة القياس بكل تفاصيل الوجود (= الواقع) الذي لم يصنعه بالنصوص السردية لغرض المتعة أو الإثارة أو الغموض كما في روايات أجاثا كرستي, بل للتنبيه بدلالاته وللمقارنة بين مشاهد ذلك الوجود وبين ما يجري في الواقع العراقي أو العربي ,
إذ أن الحكم الفاسد والمتخلف الذي تحكّم بحياة ومصائر تلك العوائل الأرمينية التي عاشت تحت قياسات (=معايير) غير منطقية أو أخلاقية, وتمثّله في سلوك جنوده وضباطه وهم يمارسون الكراهية والانتهاكات لحقوق الفرد بالاعتداءات التي اتسمت بمنطق التكفير والتدمير والسادية وخاصة في عملية حرق النساء الأرمينيات في الكاتدرائية, بعد تكديس الرجال والنساء فيها بالضرب بالسياط من أجل أعمال السخرة ومن بينهم كارين وهو بعمر خمس سنوات برفقة أبويه, فإن ذلك لا شك ينجم عنه الضرر الكبير، ليس في حياة الأسر والأفراد الآخرين حسب, بل وفي محو أسس الهيكل الثقافي المجتمعي الذي يؤدي حتماً إلى محو الهوية الثقافية بالكامل بما فيها الأمم القريبة والبعيدة الخاضعة لحكم السلطنة العثمانية وإن كانت بأنماط سياسية أخرى .
وقد سلّط الكاتب الضوء على تلك الممارسات بحكايات صادمة ومروّعة , ترويها شخصيات الرواية المختلفة عن أفراد استبدوا على نحو إرهابي وسادي وفي طليعتهم عصمان بيك ونائبه دلماف بيك, فتجسّد التحرّش الحيواني لدى الأول مع آنوش والخادمات. أما الثاني فقد تجسّد انتهاكه للأعراف حتى مع سيده عندما استولى على دار زمان العائد له بما فيه الخادمة حنين والطباخة رضية .
أما أهم مظاهر العنف والقتل السادي فتجسّد في موضوعة الوشاية التي تناقلتها الوصائف عن الشيخ داود أنه كان يتسلل خفية وتحت حراسة من عبيده ليقضي وقتاً مع احدى شقيقات المير بدر المهنا مما جعل الأخير يقدم على خنق جاريته رمانة التي كانت محبوبة الشيخ داود ثأراً لتلك الواقعة وألقاها بالبحر, ثم أبحر بقاربه الكبير مع شقيقتيه زينة وفرح المتجه صوب البصرة بعد أن أشبعهما ضرباً بالسوط , وربط أيديهما وأرجلهما بمرساة القارب ورماهما في شط العرب (ص87 ).
في قراءة غير سطحية لهذه المأساة التي تمّت بالقتل بلا مشاعر خوف أو قرف إنساني ودليل شرعي, تعمّد الكاتب أن يقحم قارئه في واقع تبلور بالاضطراب والألم والشك تحت حكم جاهل وفاسد أسس لعادات قبلية لا ترتكز على الجدال والرأي الحكيم والمسند بالقيم أو الأخلاق في حلّ المنازعات .
وفي هذا إيحاء له ليتذكر ما فعلته داعش التي جاءت كقرين عاشق لوسائل القتل البربري وصور الفساد المدمر التي أسسته الدولة العثمانية, ليقارن إلى أي مدى تتطابق تلك الصور بالصور التي بين يديه الآن, وفي هذا تنبيه صريح يدفعه إلى مناهضة الحكم الذي يأتي بها والثورة عليه قبل أن يتمادى بأفعاله, لأن مصيره سيغدو كمصير أبطال الرواية إن لم يفعل ذلك.
ووسط تلك الأحداث والأجواء الخانقة بالرعب والمؤامرات, لم يسلم المير بدر المهنا من القتل. ففي عام 1769 , وهو تأريخ غير حقيقي بل افتراضي , تمّ الحكم عليه بالشنق , ثم ألقت السلطات العثمانية جثته في نهر العشار وأرسلت رأسه الى بغداد ثمناً لتسوية سياسية بين دولة السلطان ودولة فارس (ص124).
تقصّد الكاتب بهاتين الحكايتين أن ترمزان إلى سمة ذلك الوجود الغابر الذي تأرجح بين الفساد والعنف المحتوم تحت زمام الحكم العثماني الذي لم يتوصل الى الأفكار التي تدعو الى الإصلاح, وبين اخفاقات العامة الذين تحتّم عليهم الخنوع لتلك السلطة الغاشمة لنفس السبب, رغم ديانتهما كانت من أسمى ثقافات الفرد .
لذلك أراد الكاتب أن يحطم هذا الجدار العازل بين أفكار المناهضة والثورة وبين الخنوع , لكي لا يدفع الفرد حياته في مقابل لا شيء , لذلك لجأ الى الحكايات التنبيهية ليوجه ضربته من خلال تحريك الوعي والجرأة على التغيير لدى القاريء.
ولم يكتفِ الكاتب بهذه التنبيهات التي أراد بها للقارئ أن يستقرئ ما يجري بالرواية لمعرفة الرسائل التي تبعثها إليه, ففي جانب ذكرياتها عن الطفولة في البصرة وسيرتها الذاتية في الخارج, تمسكت نور خضر خان بهويتها العراقية ولم تستبدلها بالهوية الثقافية البريطانية على الرغم من أن مكوثها هناك كان منذ الطفولة .
وهذا يقود إلى التنبيه إلى دور الأم والأب في التربية الاجتماعية أثناء الغربة , الذي كان يتركز على البقاء بالسلوك التربوي العراقي, وهذه هي سمة الذات الوطنية التي أورثها الأبوان لابنتهما نور خضر خان , وهي الهوية الثقافية التي شكّلت في نفسها صراعاً على البقاء بها وعدم التخلي عنها وعن ذكرياتها الطفولية رغم تودد أقرانها في المدارس التعليمية و الجامعة حينما قالت : ” لم استجب للعديد من الزملاء الذين كانوا يتوددون لي في مراحل مختلفة من حياتي ” (ص33).
في النظر خارج النص الروائي , يمكن أن نؤول إن طموح الكاتب المعاصر جابر خليفة جابر عند كتابته عن السلوك الاجتماعي وعن روح التراث البصري القديم, كان يعمد الى التأثير بالقارئ العراقي وتكليفه بشكل خاص, ليقيس الجوهر التاريخي لآثار البصرة المتميّزة التي تُنبه على ذلك وخاصة في مباني الشناشيل, بطريقة التأمل والاستبطان للوصول الى مقارنة بين الحياة بالأمس وبين تقييم الحياة اليوم . وهذا ما فعله مستعيناً بقدرة اللغة التي خلقت تفاصيل ذلك الوجود الذي لم يره وكانت مشاعر الكاتب هي الدفة التي قادته إلى تكوين ذلك العالم المفترض ليكون النقد على استبداده ودور المال الفاسد في حياة وسلوك الفرد من ناحية, وهذا يفسر أن جوهر الكاتب نفسه كان منصهراً بأحاسيسه في التراث البصري الذي تحوّل جيلاً بعد جيل إلى ختم في قلوب الكتاب والفنانين البصريين على الإطلاق من ناحية أخرى، لذلك تميزوا بثقافة هذه الصروح التي تناول منها كاتبنا ” دار زمان ” إنموذجاً في الكتابة ليرفع سقفه الأدبي بين أقرانه, وبهذا اقترن من حيث القياس بتميّز الشاعر الإسباني لوركا في حبه العنيف وأحاسيسه الرقيقة إزاء إرث العرب الذي تركوه في الأندلس وأسسوا به تراثاً خالداً بثقافات إنسانية متنوعة وخاصة في مملكة غرناطة التي ولد بها الشاعر وفخر بتسميتها “مملكة “.
وروايته ليست عملية كتابة بين غلافين فحسب كما يراها البعض, بل هي عملية مبالاة لتنوير المجتمع وتحقيق في جزء التأريخ المهمل من البعد الفاصل بين الماضي والحاضر للتراث البصري – العراقي, فضلاً عن كونها عملية مخاض إنساني تبلور عن انطباعات يومية وتواصل وذكريات من الروائي نفسه الذي حدّق في كل يوم إلى معالم البصرة القديمة في حاضر يخالف ماضيها الذي خُتم بحتمية الخراب المنوط بالحروب والجهل والحقد والحسد الذي تعرّضت له تلك المعالم .
بهذه الرؤية العميقة تم إنتاج الرواية, فجعلها الوسيلة والسبيل الى التنبيه بالإيحاء على ضرورة تدوين التأريخ الخاص بالموروث الخاطئ لإعادة كتابته لتنبعث إلى الحياة جذوره العميقة التي سحقتها أعقاب التأريخ من ناحية; وقد استفاض الكاتب في ذلك التنبيه للمجتمع ليحذر ألّا يقع فريسة بين براثن أي حكم بتلك السمات فيختلط تأريخه بين الحقيقي والمزيّف من ناحية أخرى .
والجدير بالذكر إن الكاتب لم يدعُ إلى التصحيح بالرواية وخاصة في واقعتي القتل ليكون مجاوراً مع التنبيه , وهي ليست غفلة, كما يبدو , عن التصحيح (=إصلاح ) , بل نفي وتجنّب وإهمال لأن الاستراتيجية العثمانية الراسخة في أذهان الشعوب هي استراتيجية صنع المجازر والخراب المتأصلة في العقل اللاوعي لحكام السلطنة, وهو نفسه الذي تناوله الروائي في تعامل السلطنة مع الأرمن في دار زمان بطريقة الإخضاع الجسدي وليس الفكري, لذلك لا يوجد ما يدل على إنسانية النظام العثماني التي أضاعها في سياسته في كل مكان .
والروائي, حتماً , نما من الناحية المعرفية بهذا الرأي عن العثمانيين فلم يذكر مثالاً واحداً عن طبيعة التصحيح من قبل أيِّ عثماني في تلك الحوادث, بل بدت مشاهد قتل المير بدر المهنا وعصمان بيك في محلة نظران وتكالب الكلاب فوقهما وهي تنهش بهما , وحرق النساء في الكاتدرائية وسحل حسنو على الأرض من قبل جنود السلطنة, صوراً دامية للوحشية الموروثة التي أبت أن تتصحح .
بهذه الخصائص المميّزة في التعبير عن الأحداث التي تعرّضت لها شخصيات الرواية, فضلاً عن سوء المعاملة, جعل منها رواية لا تتجاور في بنيتها الروائية مع أيِّ رواية بصريّة معاصرة إلا بشيء من أريج المقامة الحريرية, من خلال النصوص الخيالية التي كتبتها آنوش وجمعتها نور خضر خان في هيكل ملفات نصوص بمعايير زمنية مختلفة. والكاتب تعمّد الإشارة إليها وانجذاب آنوش إليها لتساعدها في رحلة كتابة السرد الأدبي ( ص183).
الخاتمة
تعتبر رواية نور خضر خان قراءة عن وجود غير مرئي في التأريخ الغابر, اعتمدت على مدونات شخصياتها التي أفصحت عن هيمنة قوى ليست أقل وحشية من وحشية القرون الوسطى في التعامل الإنساني معها. والشخصيات كانت تبحث عبثاً عن أمل لبلوغ حياة أفضل وما كان منها إلا الخضوع والتخلي عنه .
والكاتب في النص الروائي لم يعمد الى التوثيق, لأن التأريخ نفسه أبى أن يوثقهم إلا أنه صنع شبيهاً لواقعهم بعاطفة ومشاعر واقعية وقفز إليهم ليعيد تدوين تأريخهم ولو بشكل غير منتظم في بادئ الأمر, ولكنها الطريقة الوحيدة التي يعيد بها كتابته. وفي النص الروائي دعوات للقارئ للبحث عن تأريخ أي موروث شعبي لأجيال غابرة بنفسه أولاً ويتأمله بالقيم والمبادئ وأن لا يجرؤ على التعامل به إلا إذا ارتبط بتلك المبادئ والقيم ، فمنهم من يرى الموروث حجة للزهو والتفاخر وهو بمقدار ما يراه صياغة لسانية تعرقل سير الحياة والإنسانية وتحتاج الى إعادة كتابة تأريخه. على هذا الخيط من الحقيقة والزيف اندثرت واقعية دار زمان وآلت الى مقبرة (=مزارلك ) كما استخلصها الكاتب بسبب التجاوز على القوانين الإنسانية وتدهور الهوية الثقافية بلجام الحكم العثماني, كما اندثرت في عهد مضى وهو لنا قريب مدينة الموصل بلجام داعش المجرم .
أما الرواية فقد ألِقت بهذا الجوهر وبالروائي جابر خليفة جابر الذي يدفع القارئ بها الى الأنسنة ونبذ الهمجية والكراهية العمياء, ومن حسن الحظ أن نجد كاتباً يبحث عن جذر العشب الأصفر ليرى كيف آل الى الانحدار والذبول والموت و خرير الماء ينساب في تربته وأمام عينيه لتحذوا حذوه صناعة السرد.

18 ايلول 22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top