تذكرت ذلك المجتمع المنسي، مجتمع أفارقة دمشق، بعد مقتل المواطن الأميركي فلويد جورج والحديث الدائر عالمياً عن حقوق الزنوج في الولايات المتحدة. فأصحاب البشرة السمراء موجودين بيننا منذ زمن بعيد، مع عدم وجود أي سجل خاص بهم في دوائر الدولة. وقد تراوح التعامل المجتمعي معهم ما بين العطف الشديد والعنصرية المفرطة أو الإستعلاء.
لا شك أن بعض الناس تعاملوا معهم بحذر وخوف، وخوف الدمشقيين من الغرباء مشروع نتيجة تاريخهم الطويل المليئ بالدسائس والفتن. فرفضوا الزواج منهم ولم يشجعوا على إنصهارهم في المجتمع ووصل الأمر لدى البعض إلى إطلاق عبارات عنصرية ضدهم مثل “عبد أسود” و”حارة العبيد.” ولكن المؤسسات الدينية لم تُفرق يوماً بينهم وبين بقية الناس، لأن ذلك مُحرم لدى الاسلام والمسيحيين معاً. ولأن المجتمع الدمشقي مجتمع محافظ بغالبيته وللدين حضور قوي جداً في مفاصله وجِدت بيئة حاضنة لهؤلاء الأفارقة استمرت لسنوات.
كانت دمشق وعبر تاريخها الطويل مدينة مهاجرين مفتوحة لكل الناس، لم تُغلق أبوابها أمام أحد. فقد جاءها الناس بحثاً عن عِلم أو رزق أو وآمان وكان من بينهم طبعاً الزنوج وأصحاب البشرة الداكنة. الكثير منهم وصلوا دمشق في عهد المماليك وخلال الحكم المصري في القرن التاسع عشر ومع الأمير عبد القادر الجزائري. وعندما احتلت فرنسا بلادنا قبل مئة عام، اعتمدت على مجندين سنغال، جاءت بهم من مستعمراتها الإفريقية لضبط الأمن في سورية.
جميعهم كانوا من المُسلمين، ظناً من فرنسا أنهم أكثر قدرة على تفهم عادات وتقاليد هذا البلد المسلم. كُلّف هؤلاء بقمع المظاهرات واقتحام المنازل وتعذيب السجناء السوريين، وكان مرورهم من أي حي كافياً لإثارة الرعب والإشمئزاز في نفوس الأهالي. قتل الكثير منهم على الأراضي السورية، ولكن في أوقات السلم، تعامل معهم السوريون برفق وشفقة، معتبرينهم مُسلمين مأمورين على أفعالهم، وليسوا مخيرين.
لم ينسى أهالي دمشق أن مؤذن الرسول بلال الحبشي، أو “سيدنا بلال،” كان زنجياً وهو مدفون بينهم في الباب الصغير، وكذلك السلطان المملوكي قايتباء المحمودي الذي أشرف على ترميم إحدى مآذن الجامع الأموي، والتي ما زالت تحمل اسمه حتى اليوم. وفي سوق ساروجا حي كامل يُلقب بحيّ السوادن، لأن قاطنيه في عصر المماليك كانوا سودانيين، والبعض كان يُطلق عليه اسم “حيّ العبيد.”
والناس تتذكر الفنان ياسين بقوش، حامل وسام الإستحقاق السوري، وهو حفيد رجل أفريقي كان مسافراً إلى الحج عبر مدينة دمشق، ولكنه لم يسطتع إكمال المسير فأقام في دمشق مع عائلته تحت صفة “مقاطيع الحج.” وهناك أيضاً خليل السعداوي، أحد موظفي القصر الجمهوري في الأربعينيات الذي وصل إلى منصب مدير بروتوكول في السبعينيات، وهو أسمر من أصول أفريقية.
في شهر رمضان المبارك، كان أهالي دمشق يرسلون سكبة من طعامهم للأفارقة المقيمين بينهم، وفي العيدين يقدمون لهم ما تيسر من معونات. لم يمنعهم شخص من دخول المساجد ولا المدارس أو المقاهي، ولم يتعرض لهم أحد يوم جلاء القوات الفرنسية عن سورية سنة 1946. بل على العكس،
أمر رئيس الحكومة سعد الله الجابري بأن يعاملوا بالحسنى، وأن تساعد الدولة من يرغب منهم البقاء في دمشق على إيجاد مسكن أمن وعمل مُشرّف يكسبون منه رزقهم. الكثيرون منهم عملوا مع السودانيين في بيع الفستق الطيّب في سوق الخياطيين وغيره من أحياء دمشق.