( سحمر ) قاع الدم الأول ( 2 )


كانت السعادة تزغرد في عيوننا الملونة ونحن نتسلق الصخور لنصعد نحوالقرية .
فنتوقف قليلاً لنقطع بعض الأعشاب البرية لنقتات بها .وكلما صادفتنا فسحة نركض باتجاهها لنستريح .
كانت ريما تسرق من يدي التفاح البري فألاحقها وأضحك .
فتزحلقْتُ ذات يوم بمادة لزجة سوداء تميل إلى اللون الأخضر , ووقعتُ فتلطخت ملابسي بالسواد,
وتلوثت يداي وقدمايَ. لفتتني تلك البقعة السوداء .
لأنني سبق ورأيت عند الضفة الأخرى للنهر مساحات واسعة تحتوي مثل تلك المادة ..كنت في البداية أعتقد أنها صخور ذات أصل بركاني . لكن تحسس لزوجتها أثناء وقوعي ورائحتها التي تشبه النفط أثارت شكوكي , ولمعت في ذهني أحاديث أبي وهو يروي لناعندما كنا أطفالاً .
أنه كان يعمل بالإجرة لدى الفرنسين أثناء انتدابهم على لبنان بحفر آبار الحمَّر (وهي مادة تستخرج من النفط _وأغلب الظن أن اسم سحمر كان أصلها أحمر لأن السين كانت في اللغات القديمة تقابل الألف ) _
وفجأة أوقفوهم عن العمل ,وأغلقوا تلك الآبار.وتم التعتيم على أخبارها ..
لاأحد يعلم إلى أي يوم موعود تُرِكَتْ..
قلت لريما : (ابصقي بوجهي إن لم يكن هذا نفطاً ) . قالت ريما : ( بَلَّشْ ماكس ستبنكي اكتشافاته ) . عملتُ على قشط القليل من تلك المادة وجمعتها في علبة ” سردين ” فارغة ورحت أشمها وأقول: أنفي لايخطئ .وناولتُ العلبة لريما وقلت : يجب أن نحلل هذه المادة.
قالت : ( فيكِ تحلي عني ).لكنَّ حدسي كان يقول لي : إنها نفط
اصطحبتها معي أثناء زيارتي لدمشق إلى مختبر يعمل فيه صديق لي . ضحك من سذاجتي قائلاً الفرنسيون بكل معداتهم لم يعلنوا أنه نفط تريدين أن أفعل ذلك بمختبري هذا .قلت لا : اريد تحليلاً ظاهرياً وأريد رأيك.لكنه أحال الموضوع لصديق آخر خريج علوم جيولوجيا .اجتمع رأياهما على أنه نفط ،لأنه كان يعطي مادة قابلة للإشتعال.وقد أتقنت الحلم في أن يكون محتوى العلبة نفطاً .
عدت إلى القرية وقررت أن أطرح ذلك الموضوع كلما توفرت الفرصة لطرحه .كانت المرة الأولى في ندوة احتفالية في نادي النهضة الذي أسسه فيما مضى الحزب السوري القومي في سحمر . والمرة الثانية في لقاء تلفزيوني على قناة المنار. لم يكن أحد يعير الموضوع اهتماما .
حتى أعلن النائب ” عاصم قانصوه” ( وكان دكتوراً في هندسة النفط ) على التلفاز أن “سحمر ويحمر والقرى المجاورة كلها قرى نفطية .
ولكن يبدو أن هناك من لايريد لتلك القرى أن تنهض وتزدهر .وهناك من يطمع بكنوزها . فهي ليست غنية بالنفط وحسب ،بل ربما بالذهب .أذكر أن جد أبي السيد ” محمد وهبة ” كان يحدثنا عن زوجته التي وجدت وهي تحفر في الأرض جرة من التبر ..حين عاد من الحقل فوجدها تطلي الحيطان بمادة شديدة اللمعان . وحين تفحص المادة قال لها : ماذا فعلتِ أيتها الغشيمة ؟
هذا تبر خام ..والله لولا خشيتي من الله لطلقتك . ..
هذا هو حال كنوز سحمر تلاشت أخبار الذهب والنفط بالتدريج حتى توارت . لكن الحلم باستخراجه سيظل يكمن في نفسي . فكما جاء اليوم الذي صُنِفت فيه سحمر قرية سياحية ,
سيأتي اليوم الذي تُصَنَف فيه قرية نفطية . وكما شاعت اخبار أبطالها ونضالهم ضد العدو على كل الجبهات ،سيأتي اليوم الذي يردد العالم ذكرها ..
حين يسرق أمراء الطوائف نفطها الذي خزنوه ليوم تحقيق أطماعهم. وسيفور من باطن الأرض الحمَّر الأحمر القاني. سيفور دم يوسف وعلي الخشن سيفور دم مالك وأحمد شهلا سيفور دم رضا الشاعر سيفور دم أبو ميلاد وأم ميلادوواجب ومايا اليوسف . سيفور دم لبنان منعم .
سيفور دم شهداء المجازر المتتالية التي تعرضت لها تلك القرية الصابرة الصامدة .
سيفور دم كل الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن أرض الوطن وكرامة أبنائه
يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top