مقاربة سيكولوجية .. الجزء الثاني :
*** ما اللاسواء النفسي ؟ ما مظاهره وتجلياته ؟ ما طبيعة إوالياته وأساليب علاج ظواهره ؟ يمثل اللاسواء النفسي الظاهرة النفسية التي تشكو من التداخل والتمازج بين مكوناتها ومحدَداتها { شعور ، تفكير ، لاشعور ، سلوك .. } ؛ والتي توضع تحت المجهر العلمي في حقل السيكولوجيا ليتناولها علماء النفس بمناهج متفاوتة نظرياً وإجرائياً { منهج الاستبطان / م. التحليل النفسي / م. التجريبي / منهج تحليل الحالة .. } . تختص اللاسوية النفسية بخصائص معينة تمثل عائقاً ابستمولوجياً في مقاربة حقلها وتناولها بالبحث العلمي ؛ على اعتبار أنها خفية ومركبة ويصعب تطويعها للدراسة العلمية ، وأنها واقعة إنسانية زمانية لا حادثة مادية مكانية{ ملاحظة / تجريب / تكرار .. }.. يتناول الطب العقلي وع. النفس المرضي وع. النفس الإكلينيكي ( انظر ” المعجم السيكولوجي الصغير ” في نهاية التدوينة : رقم “1” ـ “2” ـ “3” ) الظاهرة المرضية بالدراسة . يجمع أخصائيو العلوم الثلاثة المذكورة آنفاً على أن اللاسواء النفسي ( المرض النفسي / العقلي _ العصاب / الذهان ) تتحدَد مظاهره وعلاماته ( أعراضه ) من خلال التمييز والتصنيف ( النوزولوجيا ) لمنظومة من الاضطرابات في الشخصية الإنسانية تدرس علمياً وعملياً ، وتتمثَل في شقين متقابلين ومتفاعلين : شق الذهان ( بضمَ الذال )أو الأمراض العقلية وشق العصاب (بضمَ العين ) أو الأمراض النفسية ( انظر المعجم : رقم “4” / “5” ) :
أ / _ يتناول الطب الإكلينيكي اضطراب الذهان من خلال التشخيص والتحليل والعلاج لأنه اضطراب في السلوكيات والانفعالات والتصورات الذهنية التي نحصرها فيما يلي :
* اضطراب الهوس أو المانيا الذي ينشأ من جراء تنبيه في الدماغ المتوسط ( التهاب ، تسمَم ، وراثة ، ميكروب .. ) . يتميَز هذا النمط من اللاسواء النفسي بثلاث خصائص / علامات : الفوضى اللغوية { السيلان اللفظي / غزارة الأفكار / غياب الربط بين الكلمات .. } ؛ والفوضى الحركية { الإفراط في الحركة من خلال القفز والرقص والصراخ والاعتداء .. } ؛ والفوضى الوجدانية { بكاء / ضحك / لامبالاة / التعبير بعنف عن الأحاسيس .. }. وعليه ، فالهوس كمظهر للاسواء النفسي يشكَل خطرا على صاحبه وغيره في آن : وعلاجه ضروريَ وملحَ ..
* اضطراب الاكتئاب / السوداء أو الميلوكوليا ، هو الآخر ينشأ بسبب الإصابة في الدماغ المتوسط من جراء علة وراثية أو منع أو نهي ؛ وتتحدد علاماته وأعراضه في التوهم المرضي لصاحبه والنقد الذاتي بإفراط ، والشعور بالحزن من جراء مركب الذنب ، والنفور من الحياة ، والخوف من الناس ، ومحاكمة الذات والاعتداء عليها { بتر الأعضاء التناسلية / قتل الأطفال أو النساء .. } .. ومن ثمة ، فالاكتئاب فيه ما هو بسيط يؤدَي بصاحبه إلى التراخي والخمول والشعور باليأس وتعذيب الذات بشكل خاطئ ؛ وما هو حادَ يعزل صاحبه عن المجتمع ويقوده إلى التفكير في الانتحار ..
* اضطراب الهذيان / إنه عبارة عن إنشاء تصور ( فكرة ) لا وجود لها في الواقع البتَة ، تصور يصدم العقل والواقع معاً ، إدراك بدون موضوع ، تصور العدم على أنه موجود وهو غير موجود .. يتمثل هذا الاضطراب _ كمظهر من مظاهر اللاسواء النفسي _ أولاً ، في قطب الأهلاس ( الهلوسة ) مثل الأهلاس السمعية كسماع أصوات غريبة ، والأهلاس المرئية كرؤية أشباح موحشة ، والأهلاس الذوقية كتذوق مرارة الحديد ، والأهلاس الشمية كشم رائحة الكبريت أو البيض الكريه ، والأهلاس اللَمسية كالإحساس بوخز الإبر أو هتك العرض .. وثانيا ، في قطب الهذيان الخيلائي / جنون العظمة أو البارانويا الذي ينشأ بسبب الكبت الجنسي أو الخوف من الفشل أو تأنيب الضمير أو الشعور بالنقص والدونية .. تتمظهر علاماته وأعراضه في سلوك الكبرياء { تعظيم الذات / تقمَص شخصيات العباقرة والعظماء / مطالبة الغير بالتقدير والتقديس .. } ؛ وفي سلوك الشعور بسوء الظن { الكذب باستمرار / الشعور بالاعتداء والاضطهاد من جهة الآخر .. } . إن صاحبه يتصرَف تصرَفا لافتا للنظر مثل ممارسة الخداع وتأويل سلوك الناس بشكل خاطئ واستعمال الكذب المضلَل ورفع دعاوي وشكاوي بالناس الأبرياء ..
* اضطراب الفصام أو السكيزوفرينيا ( انفصام الشخصية ) هو مرض مجهول الأسباب المباشرة ، فأسبابه غير عضوية بل نفسية واجتماعية تتحدَد في الكبت الجنسي أو التصدَع العائلي أو الجرح الانفعالي ؛ ومن ثمة ، سمي ” جنون المراهقة ” لأن أغلب ضحاياه من فئة اليافعين . أما أعراضه وعلامات ظهوره فتتمثَل في البرود العاطفي والبرود الاجتماعي ( إحداث القطيعة مع المجتمع ) وتعطَل وظيفة التفكير والاستهام العميق واللامبالاة والتخشب السلوكي .. إن اضطراب الفصام غامض وشديد التعقيد في حدوثه وعلاجه وتناقض في أعراضه وعسير في تفسيره وإخضاعه للممارسة السريرية ..
ب / يتناول الطب الإكلينيكي اضطراب العصاب بالتشخيص وتحديد العلامات والتجليات وتحديد وسائل العلاج .. أسوق في هذا المضمار خمسة نماذج من اضطراب العصاب ( المرض النفسي ) :
1} _ الهستيريا / اضطراب نفسي يرجع علة ظهوره أطباء اليونان ( أبوقراط / جالينوس .. ) وأطباء العرب ( أبو زكرياء الرازي .. ) إلى الرحم ، رحم المرأة ( الكبت الجنسي ) ؛ لكن علماء الطب النفسي الحديث ( شاركو / بيير جانيه / جوزيف برورير / س . فرويد .. ) توصلوا بالدراسة العلمية والخبرة السريرية بأن الهستيريا تصيب الجنسين معاً وليست حكرا على النساء فقط .. تتحدَد أعراض اضطراب الهستيريا في نسق من الأعراض الغريبة غرابة المرض ذاته : الشلل المفاجئ بدون علة عضوية ( نصفي أو جزئي ) / فقدان الكلام الجزئي أو الكلَي / الضرارة أو العمى / فقدان الذاكرة ( نسيان المصاب لأسمه أو عنوان بيته أو أقاربه .. ) / السرنمة أو التجوال النومي اللاشعوري ( التجول بلا شعور داخل البيت أو خارجه في الشوارع أو المقابر .. ) / ازدواجية الشخصية ( يحيا المضطرب حياتين مختلفتين : حياة واعية يتحكم فيا عقله وحياة لاواعية تخرج عن سيطرة عقله ويتحكم فيها العقل الباطن .. ) ..
2} _ المخاوف المرضية ( الرهاب أو الخواف أو الفوبيا ) / إنه خوف غير عادي من الأفكار أو الحيوانات أو الأماكن أو الأشياء .. أشكاله كثيرة ومتغايرة منها : الخوف من الحيوانات أو الزوفوبيا ( صراصير ، فئران ، حيات .. ) / الخوف من الجراثيم أو النوزوفوبيا ( فيروس كورونا كمثال .. ) / الخوف من الأماكن المغلقة أو الضيَقة أو الكلوستوفوبيا ( دور السينما ، المسارح ، المصاعد ، السيارات .. ) / الخوف من الأماكن العامة أ, المفتوحة أو الأكارافوبيا ( ساحات عمومية ، مهرجانات ، ملاعب رياضية .. ) / الخوف من الماء أو الإدروفوبيا ( شلالات ، مسابح .. ) / الخوف من الظلام الدامس أو النوكتوفوبيا / الخوف من الأفكار أو الإيديوفوبيا ..
3} _ القلق أو الضجر ( الحصر ) / إنه إحساس بخطر مقبل مع رعب نفساني واضطراب جسماني ، خوف من خطر غير مؤكَد الوقوع ؛ يختلف القلق المرضي عن الخوف المرضي في أن الأول ردَ فعل إزاء خطر معدوم والثاني ردَ فعل إزاء خطر موجود .. أسباب نشوئه لاشعورية مكبوتة مدفونة في غياهب العقل الباطن لا يفطن إلى وجودها الشخص اللاسوي .. أما أعراض ظهوره فمنها ما هو جسماني { فقدان الشهية / المغص المعدي / خفقان القلب / كثرة التبول / تجفف الفم / التعرَق ..} ، وما هو نفساني { الخوف الشديد / توقَع الخطر والأذى / شرود الذهن / شعور الرعب .. } ..ذهب س. فرويد في تفسيره للمرض بأنه صراع بين قوتين متناقضتين داخل الجهاز النفسي : قوة ” الهو” الغريزية وقوة ” الأنا الفوقي” الخلقية ( الصراع بين النزعة الحيوانية والنزعة الأخلاقية ) ، حيث ينعكس هذا النزاع على الأنا فيحدث في داخلها اضطراباً وقلقا مرضياً …
4} _ الوسواس / إنه عبارة عن فكرة تسلطية تلازم المصاب كظله ولا يستطيع التخلَص منها وإن حاول جاهدا ( غسل اليدين / ترتيب الملابس في الدولاب .. ) .. تتحدَد أشكال الوسواس فيما هو فكري ( طرح تساؤلات ذات طبيعة غيبة أو تجريدية .. ) وسلوكي ( تكرار الأفعال بدون أسباب موضوعية معقولة .. ) . إنه نظام قسري / قهري يرغم صاحبه على التنفيذ الفوري { السرقة المرضية أو الكليبتومانيا كمثال } ؛ ولتفسير ظهوره مال المختصون بالأمراض النفسية إلى إرجاعه إلى وجود العقد النفسية في شخصية المصاب ( عقد الإثم والنقص ..) ، أو إلى العناد في م. الطفولة أوسلوك القسوة والتسلط في تربية الأحداث ..
5} _ الانحرافات الجنسية / أسبابها نشوئها تتحدَد في سوء التوافق الجنسي مع الآخر ، وفي تأخر النمو الطبيعي ، أو في سوء التربية الجنسية .. تتبدَى مظاهر الانحراف الجنسي في سلوكيات غير عادية عند بعض الأشخاص { مصَ الإبهام / قضم الأظافر / قضاء وقت أطول في الحمَام / ممارسة العادة السرية بإفراط / الإفراط في المجاملات والمغازلات .. } .. أما أعراض الشذوذ الجنسي فتتجلَى في الانقلاب الجنسي { تصرَف الرجل ناعم البشرة ، ضيَق الكتفين ، ناعم الصوت ، شديد البياض .. كالنساء / في مقابل المرأة مفتولة العضلات ، خشنة الصوت ، المرتدية للباس الرجال باستمرار .. كالرجال .. } ؛ وفي سلوكيات الاستعراض الجنسي والفضول الجنسي والشبقية والجنسية المثلية والسادية والماسوشية ومضاجعة الكبار للقاصرين ومضاجعة اليافعين لكبار السن ومضاجعة الحيوانان والموتى وزنا المحارم …
* كيف يتأتَى علاج هذه السلوكيات المرضية / المضطربة ؟ وبالتالي ، أتوجد تقنية علاجية واحدة في مقاربة العصاب والذهان بالمداواة ؟ *
إن مقاربة هذه الاضطرابات بالعلاج لا تتوقف على تقنية دون الأخرى ؛ بل لابد من استحضار تقنيات تتفاوت بتفاوت مجالاتها وأدواتها ؛ منها : * العلاج البيولوجي الذي يعتمد على المواد الكيماوية ( العقاقير ) والصدمات الكهربائية والتخدير العصبي .. هذا الأسلوب في العلاج هو السائد في المجتمعات النامية خصوصا ( المغرب غير مسثتنى ) .. * العلاج النفسي ( س. فرويد ) يعتمد في التشخيص على استحضار رواسب الطفولة المبكرة وجروحها البعيدة والعميقة والمدفونة في مقبرة اللاوعي بغاية مساعدة طالب العلاج على تجاوزها ؛ ويستعمل س. فرويد في هذا النطاق آليات سيكولوجية مثل التنويم والإيحاء والتحويل والتحويل المضاد وتفسير الحلم وتأويل رموز الأفعال العارضة .. * العلاج الاجتماعي الذي يرجع علة المرض إلى المجتمع ، ويروم علاج الاضطرابات السلوكية داخل المجتمع ( أسرة /مدرسة / مكان العمل .. ) بهدف إدماج المضطرب في بيئته ومحيطه من أجل التأقلم وتبديد علامات المرض .. *** المحصلة / تحسن الإشارة إلى أن هذه الاضطرابات العصابية والذهانية في العقل والسلوك لا ينفرد بها الشخص غير السوي وحده ، بل توجد بشكل خفيف عند الشخص السوي { فالسوي غير سوي ، وغير السوي سوي } من زاوية . وآلية التمييز بين السواء النفسي واللاسواء تفتقر إلى المعيار الموضوعي ، على اعتبار أن الحقيقة قاسم مشترك بين السوي وغير السوي على حدَ سواء { الجنون فنون / العباقرة شواذ / الحقيقة تخرج من أفواه الصبية والمجانين / أفلاطون .. } من زاوية ثانية .. *** الملحق الإضافي / القاموس النفسي الصغير .. 1) الطب النفسي : إنه دراسة / علم وعلاج في آن للأمراض النفسية والعقلية ، يعتمد في ممارسته النظرية والسريرية على معطيات بيولوجية ( تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ / مراقبة الغدد الصماء / العلاج الكيميائي / القياس النفسي / التحليل النفسي .. ) ..
2) علم النفس المرضي : فرع من فروع علم النفس ، يتولَى تصنيف الأمراض النفسية ( العصاب ) والأمراض العقلية ( الذهان ) الخفيفة والعنيفة من خلال تحديد مجالاتها وأعراضها دون علاجها وتسوية معضلاتها ..
3) علم النفس الإكلينيكي : علم سريري للاضطرابات النفسية والعقلية يقدم لها العلاج الفوري ، أي تطبيق مبادئ ع. ن. المرضي . يدرس السلوكيات المرضية على ضوء القياس والتحليل والملاحظة والتاريخ الاجتماعي ..
4) الذهان : اختلال شامل يمسَ الشخصية قاطبة ، إنه المرض العقلي ذو الأسباب البيولوجية والنفسية والاجتماعية ، يصيب الشخصية ككل ويحدث فيها اضطراباً عاماً في العقل والوجدان والعلائق الاجتماعية .. والتخلص منه يقتضي إدخال المصاب إلى المستشفى .. وصاحبه يعيش على هامش المجتمع ..
5) العصاب : اضطراب وظيفي في الشخصية ، علله غير عضوية وإنما نفسية نتيجة الخبرات المؤلمة أو الصدمات الانفعالية أو سوء التوافق .. يختلف العصاب كمرض نفسي عن المرض العصبي كاضطراب جسمي / عضوي يصيب الجهاز العصبي ..
انتهى الجزء الثاني / انتهت التدوينة …
انتهى الجزء الثاني / انتهت التدوينة …