شعرية النص الزجلي: بنيات الخطاب و رمزية المتخيل

للأديب الناقد محمد علوط
البيضاء، يونيو 2019
*******

في ديوانه الزجلي (جبان كولوبان) (كلمات للنشر و الطباعة و التوزيع، ط1، 2017)، يقدم المبدع الشاعر عبداللطيف البطل، متناً زجليا من سبعة و عشرين قصيدة يكتسب في مجمل تكوينه طابع التجانس و التناغم كنسق له فرادة و تميز و إضافة إبداعية شيقة إلى منجز المتن الزجلي المغربي بشكل عام. وهذا الديوان الثاني بعد الأول (عاش امع هباش) (كلمات للنشر و الطباعة و التوزيع، ط1، 2016) يشكلان سيرورة متنامية الصوغ العضوي : أولاً على مستوى جماليات تَشَكّلِ أنساق القول الزجلي من حيث المعجم، و بناء الجملة الزجلية، و مستويات الإيقاع؛ و ثانياً على مستوى بلاغة المتخيل الإبداعي، و بناء الصورة الشعرية و الرمز، و تشاكل كلا المستويين بسؤال الهوية الشعرية الزجلية، و علاقة هذه التجربة الزجلية بالمرجعيات الرافدة لها مثل سؤال الذات، و سؤال الواقع، و سؤال المصير الإنساني في بعده الفردي و الجماعي.
و في هذه الدراسة نحاول استكناه كل هذه الأبعاد مع طموح للدفع بأفق القراءة نحو إغناء الدرس النقدي حول الكتابة الزجلية بمرتكزات تصبو إلى خلق ضائقة نقدية توصل ل “بويطيقا النّص الزجلي” التي تنهل من كل مكتسبات النظرية الشعرية و مناهجها، و هو مطمح خصي ثري و مشروع، و جسر بناء لتأصيل الوعي بمفهوم الكتابة الزجلية.
استعارات الأنا الشّعري :
لعل أعمق الخصيصات الجمالية لتشكل الأنا الشعري في القصيدة الزجلية : هو هذا الولع لدى كل زجال بهاجس البحث عن صورة لانعكاس صوته في مرايا القول الشعري الدارج، أو تحديداً هاجس خلق استعارة لهويته في سجل الكلام اللغوي الدارج  العامية).
و هذا الهاجس يكتسب صبغة ملحاحة تصل حدَّ التّوتر و اختلاف المواقف و النظر بين الزجالين أنفسهم، و في ملتي و اعتقادي فإن خصومات الزجالين حول الهوية الشعرية أمر لا يجب أن يعتمده الناقد كمدخل للقراءة لأن “نص الخصومات الزجلية” ليس نصاً مقدساً، و بلغة نقدية صرفة ليس نصاً تأسيسياً، خاصة حين يتخذ طابع سلطة إملائية، تنزاح عن المهمة الأساسية للنقد المتمثلة في الانطلاق من موضوعية النصوص لا من ذاتية الشخوص، و الانطلاق من الوعي النظري التجريدي لا من الملاحظات الجزئية و الانطباعات التعميمية أو الحسابات و المواقف الانفعالية.
و مصدر الاهمية في هذا الموضوع هو أن شعراء الفصيح (~) حين يتعلق الأمر بالهوية الشعرية لا يعقدون سيرورة السؤال فأمامهم ذاكرة شعرية تمتد من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. و مسبوقون بالعديد من أسماء الشعر العربي و بإمكان أي واحد منهم تمثل هويته وصوته الشعري انطلاقا من قراءته لهذه “الذاكرة الشعرية و أصواتها” إما من موقع المماثلة أو موقع الاختلاف.
و على خلاف ذلك فإن شعراء الزجل يسعون إلى الكتابة ب (لغة دارجة) علاقتهم بها مباشرة و تلقائية و غير خاضعة لوساطة أباء روحيين، إذ لا يوجد في ذاكرة الشعر الزجلي امرؤ القيس أو أبو تمام أو المتنبي، و إنما مجرد ذاكرة لسجلات القول الزجلي : ذاكرة رحبة تمتد من الكلام اليومي الدارج في البيوت و الأحياء و الشوارع و المجالس، و في الحكايات و مسرود القول من الحكايات الشعبية إلى السير الشعبية و الخرافة و في النصوص المغناة من الموشح إلى الملحون و أشعار السماع و نصوص الفنون الشعبية من العيطة إلى الغناء الأندلسي و باقي الأشكال التراثية الغنائية، دون أن ننسى الحكم و الأمثال، و أشكال من فنون القول الدارج المرتبط بإحياء الطقوس و العادات و التقاليد ذات الصبغة الدينية و الاجتماعية و الأنثروبولوجيا، و ختاما بفنون الفرجة الشعبية من الحلقة التقليدية إلى التمثيل و المسرح.

هذه المقايسة بالغة الأهمية، فهي التي تجعل من سؤال الهوية الشعرية في الزجل يكاد يكون محور الارتكاز في التأسيس و التأصيل للإبداعية الزجلية. ولهذا نحن في هذه الدراسة لم ننطلق أساساً من هذا العنوان/ المحور “استعارات الأنا الشعري” من اختيار اعتباطي، بل : أولا لأن الأمر يتعلق بإشكال جوهري في القصيدة الزجلية، و ثانيا لأن “جبان كولوبان” يطرح هذا التساؤل الجمالي و الاستطيقي بحدة بالغة، بل إن سؤال الهوية الشعرية يكتسح ثلاثة أرباع الديوان، كما يتبين من الوقوف عند القصائد التالية : (ياك غير أنا؛ هضرة و اقوال؛ برهان الساكن؛ اخبال لهبال؛ الحلم المغبون؛ اعلا طرف الساني…).
يقول الشاعر في نص قصيدة (ياك غير أنا) :
[لاَشْ اعْلِيكْ، آشْ انْكُونْ؟
يَاكْ أَنَا غِيرْ مَنْ تَمَّ
مُوجَة فَابْحَرْ مَجْنوُنْ
(…)
مَجْدُوبْ مَا نَعْرَفْ اشْكُونْ
اكْسَانِي بَسْوَالَفْ الْهَمَّة
لاَشْ اعْلِيكْ، آشْ انْكوُنْ
يَاكْ أَنَا غِيرْ مَنْ تَمَّ
غِيرْ اعْوِيفْيَة افْكَانوُنْ
جَامْعَة لَحْبَابْ وَ اللّمَّة
شَمْعَة حَاضْيَة لَعْيُونْ
تَمْسَحْ فَاكْحُلْ الظَّلْمَة]
ـ (ص32 – 33) ـ
استعارة صورة المجنون و المجدوب لرمزية الهوية الشعرية لها أهمية كبرى في النص أعلاه، و لها أيضا دلالات كبرى سنقف عندها. لكن يجب بالطبع أن نضيف لهما استعارة “البوهالي” كما استعارة “الكٌناوي” الواردتين في قصيدة “برهان الساكن” في المقطع التالي :
[وَاشْ أَنَا احْصَادْ الْيَالِي؟
جَامَعْ الَحَبْ
ابْلاَ اتْبَنْ
وَ لاَّ غِيرْ اكٌنَاوِي بُوهَالِي
تَابَعْ بُرْهَانْ
السَّاكَنْ …]
ـ (ص 78-79) ـ
المجنون، المجدوب، البوهالي، الكٌناوي شخوص رمزية من التراث العربي معربه و مزجوله ارتبط لديها فن القول بفن الحكمة، أي اعتماد لغة ذات حمولة رمزية مضاعفة، تخلع عن الكلام قشرة المألوف و المعتاد لتصوغ منه الرمز الخفي و الحكمة المصقولة جوهراً و دُرَراً. و هذا ما يجعلنا نستخلص أن لجوء شعراء الزجل إلى استعارة صورة المجدوب و المجنون و البوهالي و الكٌناوي هو اختيار ليس عفو الخاطر، بل اختيار استطيقي و استراتيجي يهدف في العمق إلى إبراز أن الزجال و هو يستعير “أصوات الحكمة و الرؤيا من خلال رمزية صوت المجدوب و المجنون و البوهالي و الكٌناوي” لا يسعى لإعادة اجترار هذه النماذج و الرموز و تنميطها و إعادة إنتاج هوياتها بالتكرار، بل الغاية الأساس هي النظر إليها كوساطات رمزية أو بلغة النقد المعاصر ك “مجازات للكينونة المتكلمة” (الفصل الثالث من كتابنا (شعرية القصيدة المغربية الحديثة)، ط1، مؤسسة منتدى الكتاب بفاس). أصوات الغاية من استحضارها و تمثلها في النص الشعري الزجلي هي الكشف عمّا هو شعري في القصيدة الزجلية و التأسيس له.
و تمثيلاً لهذا الأمر في ديوان عبداللطيف البطل نقرأ السياقات التالية :
[ فَالشُّوفَة شَمْسْ
شَارْقَة تَلْمِيحْ
فَالْكَلْمَة هَمْسْ
فَالْمَعْنَى تَوْضِيحْ
فَالصُّورَة غَرْسْ
بُرْهَانْ اصْحِيحْ
وَانَا تَايَهْ امْفَلّسْ
شَبْعَانْ ارْدِيحْ ] ـ (ص 41)

[ يَاكْ اهْنَا طَاحْ الرْ يَالْ
يَاكْ اهْنَا انْلَعْبُو اعْلِيهْ
يَاكْ اهْنَا اشْرَقْ لَخْيَالْ
وَ الشَّمْسْ غَرْبَتْ فِيهْ ] ـ (ص 45)

[ اخْتَرْ الكٌوُلْ فَازْجَالِي
ؤُ فَاطْرِيقْ الْمَعْنَى
يَتْمَعَّنْ
نَحْلَة وَ اتْمَصْمَصْ فَاقْوَالِي
مَنْ ارْحِيقْ وَرْدْ
اِيجَنَّنْ
لَعْسَلْ اكْثِيرْ فَادْخَالِي
ؤُ مَصْرَانْ السَّنْتِيرْ
اِيدَنْدَنْ
وَاشْ كَايَنْ اهْبِيلْ ابْحَالِي؟
لَلْمَعْنَى
كٌالَسْ امْرَزَّنْ ] ـ (ص77)
على شاكلة نصوص القول الحِكَمِي و الأمثال المحبوكة الترميز وذلك البعد الإشاري في لغة المتصوفة الذي يمنح للغة وجهاً طاهراً و وجهاً محتجباً (العبارة / الإشارة) نتبين في مزجول النصوص السابقة اختياراً جمالياً في الكتابة يسعى للتأصيل لشعرية الزجل.

فاللغة في النصوص أعلاه هي لُغة ميتا زجلية (لغة تساءل و تقرأ ذاتها و تؤسس لوعي بهويتها) سواء من خلال طرح سؤال الشكل و المعنى [ اخترالكٌول فزجالي / ؤ فطريق المعنى/ يتمعن / نحلة / و اتمصمص فاقوالي / من ارحيق ورد / ايجنن ]، أو من خلال ربط سؤال الشكل و المعنى ذاته بمحاكات القول الحكمي في أزجال (المجدوب / البوهالي / المجنون …). كما هو الشان في قول الشاعر : [ لعسل اكثير فادخالي / ؤ مصران السّنتيرْ / ايدَنْدنْ / واشْ كايْن اهْبيلْ ابْحالي؟ / للمَعْنى / كٌالسْ امرزن؟ ].

في نفس السياق التأصيلي لشعرية الزجل يستوقفنا الاستشهاد الذي ذكرناه سابقاً : [ ياكْ اهنا طاحْ الرّيالْ / ياكْ اهنا انْلعبُو اعليه / ياكْ اهنا اشرق لخيال / و الشّمسْ غربَتْ فِيهْ ]، لقد ابدع الشاعر في البناء الرمزي لهذا التناص الذي يستحضر شذرة من المردّدات الغنائية الشعبية الدارجة ليصوغ تقابلاً مرآوياً ميتا زجليّاً ينسخ قيمة رمزية مادية و هي (الريال) / المال بقيمة رمزية أسمى و هي (الخيال) / الإبداع، و نسخ الدلالة الأيقونية لمفهوم (اللعب) بالدلالة الأيقونية (الشمس)، حيث تصير رمزية الضوء و الاستنارة معادلا موضوعيا لمفهوم (الحكمة) الخلاقة التي تنحتها لغة الزجل من لغة الدارج اليومي و لغة الموروث الذاكراتي.

لا يفوتني هنا أن أشير إلى كون نحث الهوية الشعرية الزجلية بقدر ما استلهم رمزية القول الحكمي للمجدوب و المجنون و البوهالي و الكٌناوي، فإنه في الآن ذاته يستلهم البعد الرؤيوي الإشاري العرفاني لشعر التصوف [ كما هو الحال في أزجال و توشيحات الشيخ محمد الحراق، و الشيخ و الشاعر الششتري شاعر مكناسة و تلميذ ابن سبعين، و الصوفي أبو مدين الغوث و آخرين كُثرٍ يضيق المجال لذكرهم جميعاً ]. فشاعرنا عبداللطيف البطل في الصوغ التالي : [فَالشُّوفَة شَمْس / شَارْقَة تَلْمِيحْ / فَالْكَلْمَة هَمْسْ / فَالْمَعْنَى تَوْضِيح / فَالصُّورَة غَرْسْ / بُرْهَانْ اصْحِيحْ / وَانَا تَايَهْ امْفَلّسْ / شَبْعَانْ ارْدِيحْ ]، نراه يتوسل في التعبير برمزية المعجم الصوفي الإشاري : العبارة و الإشارة / الظهور و الإحتجاب / الظلمة و النور / التجرد و الانسلاخ عن الظاهر مقابل الإرتقاء الجذبي الاصطفائي.
في كتابة “الرمز الشعري عند الصوفية” يرى الدكتور عاطف جودت نصر أن الرموز الشعرية الصوفية تنبع من تيار تخييلي نَشِطٍ و صور حسية متراكمة و أبنية استعارية ترتقي بالحسي إلى مستوى التأمل الميتافيزيقي، يقول : ” إن الشعر بوصفه نمطاً فنباً من أنماط التعبير يتكون من تيارين جوهريين، تيار تأملي تمثله الأفكار، و تيار وجداني يمثله الشعور، بيد أننا نلاحظ أن هذه الثنائية تختفي تماماً في كل شعر يتسم بطابع الإبداع و الرؤية الشعرية الملهمة، حيث تبدو الأفكار النابعة من التأمل الخالص مشربة بالعاطفة، و على هذا النحو يعتبر الشعر الميتافيزيقي على حد ما بقول هاربر ريد فهما عاطفِيّـًا للفكر. إنه، كما وصفه دانتي، فكر متحول إلى مجازات و تخيلات” (عاطف جودت نصر، (الرمز الشعري عند الصوفية)، ص322، دار الاندلس، ط3، 1983).

أتينا على ذكر هذا الاستشهاد لتصله بحديثنا السابق حول استلهام الكتابة الزجلية عند عبداللطيف البطل (شأنه في ذلك شأن زجالين معاربة آخرين) لنسق البعد الرؤيوي الإشاري الصوفي في تأصيل هوية شعرية الزجل، و ذلك لأن من شأن هذا المستند : أولا الارتقاء باللغة الزجلية من مستوى التعبيرية المباشرة إلى توسل مجازات الرمز و بلاغة الصور الاستعارية، و ثانياً لأن هذا المستند نفسه يمنح لغة الزجل الدارج (العامي) كثافة استطيقية ميتافيزيقية تعمل في بناء المعنى على توحيد الفكر و العاطفة في عنفوان دلالي مُتضامٍ و مُتشاكلٍ و بديع الصّوْغِ و التأثير على تلقي القارئ و صناعة ذائقةٍ شعريةٍ زجليّةٍ مؤسِّسَةٍ لجماليات القول الزجلي و خصوصيته و فرادته.

و قد تجسدت مظاهر هذا النزوع الجمالي في الكثير من سياقات ديوان (جبان كولوبان) حيث لا يمكن قراءة القصائد الواردة فيه دون الانتباه إلى اعتماد الشاعر أنساق التعبير بالرمز و الصورة الاستعارية ناسجاً بلاغةً في الكتابة الزجلية تَصْهَرُ في بوْتقةٍ تعبيرية متشاكلة بين الفكر التأملي و الشعوري الوجداني كما هو وارد في الاستشهاد التالي و هو من قصيدة “الحلم المغبون” :
[ كُنْتْ الْسَانْ الْبِيبْ ؤُ مَاضِي
كُنْتْ ادْوَايَة لَقْلُمْ مَجْنُونْ
رَقَّصْتْ لَطْيَارْ ابْتَغْرَادِي
ؤُ حَيَّرْتْ الْوَحْشْ الْمَسْكُونْ
كُنْتْ حَاضِي وَ ارْجَعْتْ مَحْضِي
كُنْتْ ضَوْ فَاظْلاَمْ الْكُونْ
كُنْتْ جَمْرَة زَانْدَة تَكٌدِي
وَ اطْفِيتْ افْصَمْتِي مَسْجُونْ
غَابَتْ لَقْوَافِي فَانْشَادِي
وَ اسْكَنْتْ فَازْجَالِي مَغْبُونْ
حَبْسْ اكْبيرْ وَاكَلْ جَلْدِي
وَاخَدْ مَنِّي بَارَدْ وَ اسْخُونْ ]. (ص 93)

سينتبه القارئ حتماً إلى التّواشُجِ البيِّنِ بين ما هو فكري تأملي متمثل في رفض الذات الشاعرة للواقع و الثورة عليه و اعتبار الوجود ظلاما و سجنا حيث تُفتقد قيم الحرية و الكرامة الإنسانية (إن الشاعر يعبر عن جو اغترابي يتحول فيه الواقع و الوجود إلى سجن و منفى) و بين ما هو شعوري وجداني تجسده مختلف الصور الرمزية ذات الحمولة النفسية الدالة على المحنة و المعاناة و المكابدة [ السجن : (ارجعت محضي)؛ الانطفاء و فقدان الحياة (اطفيت افصمتي)…]

و حينما يعبر الشاعر عن جو اغترابي فهذا يعني أنه يتناول تجربة الاغتراب الوجودي التي هي تجربة وجودية ميتافيزيقية كونية، لأنه مثلما نجدها في تمثلات التعبير الزجلي هنا، نجدها في منطوق الشعر الصوفي، و أيضاً في المتن الشعري الانساني بشكل عام. و بالتالي فإن مستوى التعبير هنا يرفع السقف الجمالي للغة الشعر الزجلي إلى مستوى الانخراط في الاسئلة الكبرى للإبداع خارج الحدود الوهمية التي يصنعها البعض بين الشعر الزجلي و غير الزجلي، و سنعود لتعميق هذه الخصيصية الجوهرية في حديث لاحق عن بلاغة القصيدة و اشتغال المتخيل الشعري.

أنساق القول الزجلي :
أخطأ البلاغيون العرب القدامى و أيضاً نقاد الأدب المعاصرين في اعتبار “السجع” مجرد حلية بلاغية و ضرباً من ضروب المحسنات البديعية، و هو خطأ هائل و ذلك لأنه في الأصل “بنية أسلوبية” تشكل النسق المرتكز في أجناس أدبية مثل الخطابة و المقامات إلى جانب كونه الظاهرة الأسلوبية و الإيقاعية الأشد صوغاً للجملة التعبيرية في القرآن الكريم، و كذلك الشأن في اللسان الدارج حيث نجد السجع يخترق بنية الجملة في الأمثال الشعبية و إنشادات ترانيم المهد ولغة الحكايات الشعبية ، و المسرود الشفوي من السير الشعبية، و لغة الأذكار و التوسل و التراتيل شعراً و نثراً.

و أخطأ الدارسون أيضاً في اعتبار السجع مخصوص بالنثر دون الشعر رغم عدم أصحية ذلك إلى أن جاء من المتأخرين من انتبه إلى عدم اقتصار الظاهرة السجعية على النثر و حضورها بشكل كبير في التعبير الشعري و استدركوا الأمر و أشاروا إلى المسجوع النثري و المسجوع الشعري.

و نحن هنا ننطلق من قناعة مؤكدة إلى كون أنساق بناء الجملة الزجلية سواءً عند الشاعر عبداللطيف البطل أو غيره تنهل من القيم التعبيرية للتشاكلات الصوتية و التركيبية و الإيقاعية لبنية السجع و بالأخص من حيث تشغيل جماليات الاتساق اللغوي، و المقابلة و التسوية والتصريح و التشطير و التناظر أو ما سماه البلاغيون العرب “سجع الازدواج” إلى جانب أعمال الرصف البلاغي متمثلا في الجناس و الطباق.
نعطي مثالا هنا من ديوان (و على رقبتي) للزجال عبدالعزيز غالي حيث ينشد:
[ الكلمة دم الكلمة ذبح
الكلمة قوس الكلمة رُمح
الكلمة سلخ الكلمة جرح
الكلمة ذم الكلمة مدح
الكلمة بكى الكلمة فرح
الكلمة غنى الكلمة قرح ] (ص 48).

يُظهر المقطع أعلاه، اعتماد الشاعر على مبدأ التناظر في تواتر الجمل الإسمية [المبتدأ/الخبر] و هو تناظر يتم على مستوى السطر الشعري و على مستوى البنية المقطعية كاملةً؛ و إلى جانب التناظر نلاحظ الحضور الفاعل للاتساق اللغوي متمثلا في تواتر الإسنادات المجازية (الكلمة دمْ / الكلمة ذَبّْحْ) و تعالُقِ الاتساق بالتناظر في بنية نصية تُوَشـِّي بلاغتها بأنماط متعددة من الجناس (قرح، ذبح، فرح، جُرح، مدح، رمح) و الظباق (قوس/رمح ، ذم/مدح ، بكى/فرح ، غنى/قرح).

بنفس القيم الجمالية ذاتها تنحو الجملة الزجلية إلى التشكل في ديوان (جبان كولوبان) لا تشذ عن المبدأ الذي أتينا على ذكره من كون نسق التعبير السجعي هو النسق الرافد و اللاواعي لبنية الجملة الزجلية، نقرأ للشاعر هاتين القطعتين من قصيدة (الداندان) :
خَفْتْ مَنْ الْخُوفْ
وَ الْخُوفْ خَايَفْ مَنِّي
بَالرَّعْدَة مَلْفُوفْ
ؤُ بَتْرَابْ الْخَلْعَة امْحَنِّي
قَفْقَافْ مَعْرُوفْ
ؤُ نَاضَغْ الْفَزْعَة ابْسَنِّي
(…)
خَفْتْ مَنْ الْخُوفْ
وَ الْخُوفْ شَارَبْ دَمِّي
وَاشْ أنَا اخْرُوفْ
ؤُ ابْنَعْثْ الْخُوفْ امْسَمِّي
وَلاّ أنَا حَتْرُوفْ
زَامَتْ الْكٌلْبْ ابْكٌدْمِي] (ص 51ـ ص55)
البنية التناظرية حاضرة بقوة في بناء الجملة الزجلية سواءً أخدت شكل سجع الازدواج :
[ خفت من الخوف / و الخوف خايف مني
خفت من الخوف / و الخوف شارب دمي ]
[ واش أنا اخروف / و ابنعت الخوف امسمِّي
ولاّ أنا حتروف / زامت الكٌلب ابكٌدمي ]
و جماليات التناظر تُشغِّلُ بلاغة المقابلة و التسوية بين السطر الزجلي و مرادفه، و بين جملة أولى ذات وظيفة إخبارية و جملة ثانية ذات وظيفة وصفية، تعتمد المجاز العقلي تارةً و تارةً الاستعارة.
و بنية التناظر في اللغة الزجلية لعبداللطيف البطل تتآلف في صَوْغٍ من البلاغة التجنيسية ذات وظيفة إيقاعية تنسج موسيقى الإنشاد الزجلي في تردد تغمية التكرار الصوتِي و الكلميِّ و الجمليِّ: أي أن التناظر يصير في النهاية مِدْمَاكًا لبناء نَسَقِ الجملة، و في نفس الوقت صرحا مشيِّدا لجانب من موسيقى و إيقاع اللغة صوتيا و تركيبيا، و هذا مثال ثان على تواشج بنية التناظر في تكوين الجملة الشعرية بتشكل مستوى الإيقاع و نغمية الإنشاد :
[ مَلّي كَانْ الْوَقْتْ
سَالَمْ
كَانْ لَبْحَرْ خَالَعْ قُومَانْ
ــــــــــ
جَامَعْ لَسْرَارْ
ؤُ كَاتَمْ
شَارَبْ الْكُونْ ؤُ عَطْشَانْ
ــــــــــ
امْبَرَّدْ ابْحَرْ
الصْمَايَمْ
ؤُ افْعَزْ الْيَالِي دَفْيَانْ
ــــــــــ
ؤُ مَلّي الْوَقْتْ
اتْزَاحَمْ
خَرْجُو مَنْ لَبْحَرْ قُومَانْ
ــــــــــ
بَاعُو ؤُ اشْرَاوْ
فَابْنَادَمْ
ؤُ صَاكٌو عَزْبَاتْ ؤُ شُبَّانْ
ــــــــــ
الْحُرَّة
رَجْعَاتْ خَادَمْ
وَ اتْكَسْرُو للَطّيرْ الجَّنْحَانْ
ــــــــــ
اهْجَرْ الْبَازْ
لَمْرَاسَمْ
ؤُ بَرْزُو فَالْخَرْبَة غِرْ بَانْ
ــــــــــ
لَبْكَمْ
ادْوَى وَ اتْكَلّمْ
ثَارْ امْنَ الْخُوفْ حَيْرَانْ
ــــــــــ
فِينَكْ
يَا الْحَسْ الْحَالَمْ؟
ؤُ فِينَكْ يَا … دَمْ الْإنْسَانْ؟ ] (ص 57 ـ ص61)

اعتمد الشاعر تناظرا قائما على تبادل الأدوار بيت جملة مقفاة بحرف الميم و جملة مقفاة بحرف النون (وهما من الحروف المهموسة الانسيابية الصوت)، حيث يُضارع في المساوات بين الجمل الفعلية و الجمل الاسمية.
يعتمد النص أيضاً بناءً مقطعيا تناظريا تستعيد فيه الجملة الالية الإنشادية الايقاعية لسجع الازدواج، وما يحبل به من مقابلة و تسوية كما هو الحال في قوله :
[ الْحُرَّة رَجْعَاتْ خَادَمْ / وَ اتْكَسْرُو للَطّيرْ الجَّنْحَانْ ]
[اهْجَرْ الْبَازْ لَمْرَاسَمْ / ؤُ بَرْزُو فَالْخَرْبَة غِرْ بَانْ ]

إلى جانب الدينامية الحيوية لبلاعة الجناس حاصة الجناس غير التام ( سالم / كاتم / اتزاحم / بنادم / خادم / مراسم / حالم ) و بلاغة الطباق (شارب / عطشان؛ البرد / الصمايم؛ البر / البحر؛ باعوا / شراو؛ الحرة / الخادم؛ المرسم / الخربة؛ الأبكم / و المتكلم ).
و يستخلص من هذا أن الشاعر عبداللطيف البطل، بخصوص بناء الجملة الزجلية ـ شأنه في ذلك شأن المميزين من الزجالين المغاربة ـ عرف كيف يرهف السَّمْعَ إلى منظومة الإنشاد و الإيقاع من خارج جماليات الجملة الشعرية في الفصيح التي ارتهنت إلى إيقاع البحور القائم على نحوية الميزان الصرفي، هذا الإرهاف الذي يتمتع بحرية في التقاط نغمية الايقاعات التركيبية الكمِّية
التقاط استفاد عند الشاعر من مختلف روافد الايقاع في الكلام المرسل المسجوع و ما ينطوي عليه هذا الايقاع من بلاغة أسلوبية خاصة تخترق جسد اللغة الزجلية، و تعيد تأسيس شعريتها إن على مستوى بناء الجملة أو على مستوى البنية العامة للنص / القصيدة.
بناء الجملة الزجلية :
يجب أولا الوقوف على ما أسميه : الناظم الجوهري للتشاكلات النصية في الكتابة الزجلية عند المبدع عبداللطيف البطل من خلال ديوانيه «عاش امع هباش» و «جبان كولوبان». و بمصطلح علماء تحليل الخطاب فهي: (Les istopies formelles du texte). يراجع في هذا الصدد كتاب “بلاغة الخطاب و علم النص” لصلاح فضل، 1996.
إننا بصدد لغة تحتكم إلى ناظِمٍ نصِّي جوهري يمكن وصفه مبدئيا ب بنية المفارقة التي تندرج مبدئيا ضمن نسق عام وهو بلاغة الطباق و ذلك لأن المعنى الشعري في هذه التجربة يسمح لنا بان نقرأ كل قصيدة من مجمل قصائد الشاعر بما هي تجسيد لتقابل ضدي بين [الواقع] و [الحلم]. فكل هذه التجربة في دلالاتها التعبيرية تعتمد رؤيا طباقية تكتنز بالمفارقات القائمة على إدانة واقع مرفوض و الحلم بواقع بديل : واقع مُتَغَيـَّأ و مأمول و مشتهى و محلوم به ينهض كإبدال رؤيوي لواقع الكينونة المتكلمة التي هي : [كينونة ملغاة، منفية و مصادرة].
إن هذا المبدأ الناظم، أي بنية المفارقة المؤسسة لبلاغة الطباق في لغة الشاعر/الزجال هو التشاكل المؤسس (l’istopie fondamentale) : أي بنية نصية كلية ناظمة لمجموع التشاكلات الفرعية الأخرى التي سنأتي على ذكرها، سواء أخدت تجسيدا تركيبيا اي ك Syntaxe أو تجسيدا بلاغيا ك figure rhétorique.
و للإستدلال على هذا الإجراء، دعونا نتمثله على مستوى لغة القصائد، و سأقدم نموذجين و هما: قصيدة جبان كولوبان و قصيدة الحس الحالم.
نقرأ من الأولى :
جبان كولوبان
المال ايجيب المال
يا مولا جبان
و علاش قلت الشي محگورة
ــــــــــ
جبان كولوبان
اهجم الموج علجبال
ؤ هدم البنيان
طار الفروج ؤ غرقت النسورة
ــــــــــ
جبان كولوبان
اختر الما و اتقال
ؤ نشفو ويدان
و اسقات الموت قرية و ادشورة
ــــــــــ
جبان كولوبان
المحال ضيق الحال
و الصبر اتهان
ودن لغراب فرسام مهجورة
ــــــــــ
جبان كولوبان
فالشوف الضو اخيال
و اتسدو بيبان
لبسات العين امراية مكسورة
في المقطع الأول تتجسد المفارقة بين واقع الفقر و واقع الثراء بكل ما تكتنز المفارقة من إحالة إجتماعية على الصراع الطبقي [المال و قلة الشيء]
في المقطع الثاني تستعيد المفارقة ترميزات الصراع الإجتماعي الطبقي من خلال تضاديات المكان الأسفل و الأعلى كترميز لتفسخ القيم : السمو و الحضيض مقابل العز و الهوان [طار الفروج ؤ غرقت النسورة].
و في المقطع الثالث يستلهم الشاعر من رمزية الماء نسق المفارقة من خلال التعارض بين الجفاف/ الموت و الخصوبة/ الحياة [نشفو ويدان/ و اسقات الموت قرية و ادشورة].
و المقطع ما قبل الأخير يستحضر الشاعر تيمة الحال/ الرديف الرمزي للواقع و يعارضه بالمحال حيث الموت التراجيدي لكل معاني الحياة و الكينونة [المحال ضيق الحال/ ودن لغراب فارسام مهجورة].
و المقطع الأخير يدفع بتراجيدية نسق المفارقة إلى حدوده المأساوية المطلقة من خلال التعارض الضدي بين(النور و العتمة) كمعادلين رمزيين لتضاديات (الحقيقة و الشك المطلق أو اللايقين [فالشوف الضو اخيال/ و اتسدو بيبان/ لبسات العين امرايا مكسورة].
بنية المفارقة مثلما هي قائمة في وعي الشاعر كرؤيا ناحتة للمعنى و الدلالة، فإنها تنكتب كاغة قائمة على بلاغة الطباق، و تتجسد مفارقتها إن على مستوى التركيب في بناء الجملة، أو على مستوى بلاغة التعبير بتجدر اللغة في سجلات من الإستعارة الطباقية (لبسات العين امرايا مكسورة) : و هو أقوى الإستعارات المفارقة في هذه القصيدة.
في القصيدة الثانية نقرأ :
ملي كان الوقت
سالم
كان لبحر خالع قومان
ــــــــــ
جامع لسرار
ؤ كاتم
شارب الكون ؤ عطشان
ــــــــــ
امبرد ابحر
الصمايم
ؤ افعز الليالي دفيان
ــــــــــ
ؤ ملي الوقت
اتزاحم
خرجو من لبحر عديان
ــــــــــ
باعو و اشراو
فابنادم
ؤ صاگو عزبات ؤ شبان
ــــــــــ
الحرة رجعت
خادم
و اتكسرو للطير الجنحان
ملي كان الوقت
سالم
كانت الغابة اجنان
ــــــــــ
صالحة الزريعت
ابنادم
ؤ جامعة امن الزاد اطنان
ــــــــــ
كان الخير
اللي حاكم
و الشر تالف فالنسيان.
لغة القصيدة قائمة على التعارض بين واقعين مفارقين : واقع حلمي تتطابق فيه الكينونة مع ذاتها، و يصالح فيه الواقع كائناته يجسده الإستهلال [ملي كان الوقت سالم] و واقع نقيض انتفى فيه الحلم و انتفى فيه الإنسان و يتحول الواقع إلى أسر و سجن و تسيدت فيه قوى الشر تنفي و تبيد قيم الخير. و هو الواقع الذي يجسده الإستهلال الضدي [ ؤ ملي الوقت اتزاحم].
على مستوى التركيب اللغوي لا يحتاج الشاعر لإحداث إبدال على مستوى الجملة حيث تحل مفردة/ أو نعت اتزاحم بدل سالم محدثا على مستوى النص إشتغالا مضاعفا ل : (طباق القافية).
ثم تتناسل تشاكلات الجملة من خلال ما يسمى عند علماء البديع ب (الترصيع) أي تواتر إيرادات الأسلوب الطباقي:
جامع لسرار/ ؤ كاتم
شارب الكون/ ؤ عطشان
امبر ابحر/ الصمايم
افعز الليالي/ دفيان
باعو و اشراو
الحرة/ رجعات خادم
اتكسر للطير/ الجنحان
كان الخير اللي حاكم/ و الشر تالف فالنسيان.
النسق الثاني من تشاكلات الجملة الزجلية في نصوص عبداللطيف البطل هو ما أسميه ب : «أسلبة المسكوكات اللغوية العامية». [في الكلام الدارج : كانحس بالجوع هو كلام عادي ، لكن اقتلني الهيمري فهو مسكوك لغوي].
المسكوكات اللغوية العامية رافقت تجربة الكتابة الزجلية عند مبدعنا منذ الأول (عاش امع هباش) : الذي يحفل بكم وافر من المسكوك اللغوي يستدرجه الشاعر إلى بنية الجملة و يعيد أسلبته فيها : و هي نوع من المعارضة الأسلوبية تارة تأخذ شكل معارضة تبجيلية و تارة تأخذ شكل محاكاة ساخرة (باروديا/ Parodieا).
من هذه الأمثلة في الديوان الأول :
( ادعيتك للاه/ ازيانت الگعدة/ اشحال خايب فالنظرة/ اشتف هايتف/ الصگع غير اصگع/ كل اكلام اتقطع حسو/ ؤ قرقبات اسوارت الرباح/ حب ؤ اتبن/ طاح الريال و العب التخمام/ اضرب الطر/ ربات لكتاف/ الصربة امصافة/ لمطامر خارفة/ دارو افلحكاية شلا ايدين/ واقف احديدة/ ثلاثة ؤ ضامة/ المسكين حالتو حالة/ عاجبو راسو فلمرايا/ ما كاين اعلى من اتسلم/ على حد الشوف/ ايحك فالدبرة/ حسي مسي… إلخ).
و من الأمثلة في الديوان الثاني :
( الوقت اتبدل/ ارشاو لعظام/ اتقطع الحس/ مول الطولة و التجريدة/ مول الحركة و التبوريدة/ اكثر لغوات/ ايدير الملحة فالطعام/ ايزوق فلكلام/ غاداوي ابلا مايخمم/ لا سر لا ملحة/ الهم يا ولد الهم/ آش كيسوى/ لعقل مخطوف/ افلعبار ايشيط/ من الواد الهيه/ الليف ما ينگط/ ساوينا وترات/ ياك اهنا طاح الريال/ وعدي يا وعدي/ اليوم اتقاضى جهدي… إلخ)
كما ذكرنا سابقا يستحضر الشاعر هذه المسكوكات في سياق معارضة أسلوبية تؤتت نسق بناء الجملة الزجلية، و هي معارضة أسلوبية ذات مستوى أول يمكن القول بأنه ذو مقصدية تعضيدية لنوايا القول الزجلي، و بالتالي فإنها تخلو من حس المفار قة و السخرية le paradoxe et l’ironie.
و من أمثلة هذا المستوى الأول نذكر السياق التالي :
داويت بالحلم و ابريت
و الگيت راحتي افلهبال
وا ت امعاك آش الگيت؟
ياك غير هضرة و اقوال
المسكوك الوارد في النص أعلاه، و الذي هو (الگيت راحتي افلهبال) هو مسكوك ذو دلالة تحقيرية، لأنه مرتبط بتجقير الشخص الذي يتصيد الانتفاع السهل دون بذل الجهد المطلوب و الكدح في طلب المنفعة، لكن سياق الأسلبة لدى الشاعر أخد دلالة تبجيلية في سياق توظيفي بمعنى مغاير، حيث الشاعر يضع (لهبال) مرادفا للجنون الخلاق و الحكمة الإبداعية، و الكلمة الملتزمة بقيم ترتقي على مقاس صغار الهمم. و هكذا يغنم الشاعر من التزامه بالإبداع و ضوء كلمة الشعر و لغة الحلم الذي تداوي علل الذات و الواقع السمو و الارتقاء عن صغار النفوس و الهمم و أيضا عن المتاجرين بالأوهام و الشعارات المزيفة و الكلام المداهن ذو البريق الخداع.
أما سياق الأسلبة التي تندرج ضمن مقصديات المعارضة الساخرة، حيث يستحضر المسكوك بدلالات قدحية و وفق مبدأ الباروديا بكل ما يحفها من معنى السخرية و النقد اللاذع، فيمكن إيراد استدلال لها من قصيدة «شاط لعبار» :
إنها قصيدة في هجاء مثالب زمن الهزيمة و السقوط و خدلان الأحلام و تمزق الذات و انحلال القيم و لهذا اختار لها الشاعر عنوانا هو في الآن ذاته مسكوك لغوي حيث (شاط لعبار) تعبير سالب عن انتقاء الحقيقة و سيادة الوعي الشقي.
كل المسكوكات العامية الواردة في هذا النص : [شاط لعبار/ زررنا لفقيه/ ساوينا وترات/ الوقت اعيات/ عير كور و اعطيه/ من الواد الهيه/ اتلف الميزان افلعبار ايشيط]، لها نبرة هجائية تهكمية لواقع يحل فيه النقيض في نقيضه، فلا تتبين الرؤى في المرايا المنكسرة، و طبعا هذا المستوى من التوظيف يعيدنا إلى المبدأ الناظم للغة الزجل عند الشاعر و الذي هو أساسا بنية المفارقة و بلاغة الطباق لزمن متسيب بين حدود السلب و الإيجاب.
بقي أن نمر إلى التشاكل الثالث من أنساق بناء الجملة الزجلية للمبدع عبداللطيف البطل. و هذا النسق قبل أن أسميه أشير إلى كونه وارد الحضور بوفرة في الديوان الأول (عاش امع هباش) و امتد كخصيصة لغوية متواترة الحضور في الديوان الثاني (جبان كولوبان).
من أمثلته في الديوان الأول السياقات الزجلية التالية :
[كون اسبع ؤ كولني/ اللهم الموت ؤ لا ارفاگت من والا/ فطبايع الناس معدن اثمين ذهب ؤ فضة/ ما اينوض الدجاجة ااعلى بيضة/ العين اتشوف و اليد اعديمة/گطران ابلادي/ اضرب لمقس ابلا تخميمة/ علگو الحجام كبش الفيدا…إلخ].
طبعا صار واضحا أن الأمر يتعلق هذه المرة باستدراج الشاعر إلى بنية الجملة الزجلية المنطوق المثلي و الحكمي و الذي سنسميه المرة ببنية الاستدلال الحكمي، ومن نماذجه في ديوان «جبان كولوبان» إيرادات الشاعر التالية :
[راه ؤ راه
غيطة و اطبل
الغوت اوراه
و الفضيحة سبقات

ما ايجي لحكام
ابتعواج الطگية

اشحال ايگدك
من صرخة و ابراح
لعمات لبصيرة

لحباب كمشة براد
ؤ صينية
الدكة فابريق و العركة
فاشواري].
لا أرغب هنا بالإطالة و ذلك لغرض التركيز على أربعة أمثال من المنطوق العامي و هي على التوالي : راه راه و الغوت اوراه؛ لحكام ما يجي بتعراك الشاشية؛ و اشحال ايقدك من الحمد لله آ اللي بايت جيعان …
يجب الاشارة إلى أن الشاعر لا يورد المثل أو الحكمة إلا كاشتغال تناصي، و هذه خصيصة متواترة عند كل الزجالين المغاربة، بل إن من البعض منهم من استطاع تجاوز مستوى الاشتغال التناصي على الحكمة و المثل إلى درجة نحث القول المثلي و الحكمي غير المسبوق، و أعترف أن عبداللطيف البطل واحد منهم.
هذا، سأوضح أمرا بالغ الأهمية : إن عبداللطيف البطل، شأنه في هذا الصنيع كشأن بعض الزجالين المغاربة يتقن صناعة نسق الجملة الزجلية القائمة على بنية الاستدلال الحكمي و أول صانع ماهر لهذا الفن هو دون منازع أحمد الطيب لعلج، ولا أستطيع أن أضع تصنيفا طبقيا بعده، فهذا أمر يحتاج إلى دراسة نصية واسعة لا داعي الإلمام بها لكن، حسب قراءتي لديواني عبداللطيف البطل، فإنه اشتغل على زهاء خمسة و ثلاثين مثلا شعبيا.
لكن الذي يهمني أكثر هو السياقات التي يبرع فيها و هو ينحت منطوقه الحكمي الخاص في مسار كتابته الزجلية، و هنا فإن الرجوع إلى قصيدة مثل «عيطو لحميدة» يبدو أمرا ضروريا، لأنها من بين نصوص أخرى شاهدة على هذا النزوع نحو نحت أوجه الجملة الزجلية الحكمية الخاصة بما يصدر عن ابداعية الشاعر الخالصة كما هو الحال في السياق التالي:
[الطنز ايبرگم
باللسان اللي ما يفهم
و اللسان اللي ما يحشم
و اللي غا داوي ابلا ما ايخمم
و اللي ناض للشطحة امحزم
ابلا سر، ابلا ملحة، ابلا دم
باغي يشتف
باغي ينتف
باغي ينزف
باغي يردم
باغي ايصيكك بالبن الضاوية
باغي يتبورد باعمارة خاوية].
علينا الإشارة أن قراءة بناء الجملة في ديوان (جبان كولوبان) لا يجب فصل مقاربتها عن اعتماد الشاعر في كل نصوصه على لغة انشاد زجلي محكي، فالشاعر في لغته الزجلية يتماهى مع صورة الشاعر / الراوي، و القصيدة مهما تلونت صيغها الإنشادية فهي مصبوبة في قالب حكائي، و هذا المستوى من القراءة لنا عودة إليه في دراسة لاحقة حول : ” الأسلوب و الإيقاع و الرمز في زجل عبداللطيف البطل” هذا الشاعر الذي يتميز بنبوغ إبداعي جدير بالمحبة.
بنية الإيقاع الزجلي
يجب القول بأن مجمل قصائد الزجل الشعبي تعتمد بالأساس قيما إيقاعية ترتبط ب«الأسلوب الغنائي» أو الغنائية بشكل عام ( le lyrique) التي تتماس مع بنية الإنشاد.
إن البنية اللاصرفية للكلام العامي تجعل امكانات الإيقاع تنزاح بالضرورة عن الاستخدام الكلي لكل امكانات العروض التقليدي الذي يرتبط بالكلام المعرب. لهذا من الطبيعي أن لا نجد مؤامة ممكنة بين لغة الزجل و تفعيلة بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن)، إن لغة الزجل عند البعض، إذا استطاعت ان تتحرر من الايقاعية الخببية فإنها تنفتح، في حدود معينة، على تفعيلتي المتقارب و المتدارك مع ما يلحق بهما من خبن و زحافات.
إن فكرة البحث عن «رسم إملائي» لكتابة الزجل خطيا فكرة لست من مناصريها لأنه من المتشاكل الإيقاعي المتاح دون عناء يكون موضع تضارب و هو قراءة لغة الزجل قراءة خببية.
نقرأ من ديوان عبداللطيف البطل :
جَبَانْ/ كولـو/ بان
١ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥
فعل/ فعْلنْ/ فَعْ
اه جم ل/ موج عل/ لج بال
١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥
فعلن/ فعلن/ فعلن
ؤ هد دم/ ال بن/ يان
١ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥
فعولن / فعلن / فع
طار إل / فروج / ؤ غرقت/ ان سو / ره
١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥
فعلن / فعلن / فعولن /فعلن / فع
التشاكل الإيقاعي الخببي لا غبار عليه، ففي المقطع أعلاه تحضر تفعيلة (فع لن) ثمان مرات و زحافها (فع) ثلاث مرات، فيما ينفتح الإنشاد الإيقاعي ثلاث مرات على تفعيلة المتقارب (فعولن).
و هذا النمط الإيقاعي هو السائد عند عبداللطيف البطل كما عند غيره من الزجالين، و إذ يدرك الزجالون بمحض دائقتهم الإنشادية بضيق أفق الإيقاع الخببي الذي يتشاكل مع نظم الزجل المخبون :
(مت فع لن / مت فع لن / مت فع لن )
١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥
فإنهم يتحررون كلية من هندسة النظام التفعيلي و النزوع نحو نسق جناس القافية (أو القافية المجنسة). و قد لاحظت هذا الصنيع حاضرا بقوة عند عبداللطيف البطل و عزيز غالي و بنسعد و بلعطار و مراد القادري على سبيل المثال لا للحصر، و هناك انزياح إلى نمط الموزونات الصوتية، وهذا نمط لن أخوض في سياقته الآن لأنه يتطلب دراسة مستقلة.
من الأمثلة الدالة و المعبرة عن نسق «تجنيس القافية» الاشتغال الذي يظهره مثلا عبداللطيف البطل في قصيدته «شطحة و ازديح و الحلمة ميزان» :
في قصيدته «شطحة و ازديح» يلجأ الشاعر إلى مزج تجنيس القافية بضرب من ضروب البديع يسميه البلاغيون «المقابلة» وهذا مثال له :
[فالشوفة شمس
شارقة تلميح
فاللمة همس
فالمعنى توضيح
فالصورة غرس
برهان اصحيح
وانا تايه امفلس
شبعان ارديح].
حافظ الشاعر على نسق الإيقاع الخببي:
[ فل/ كل/ مهمس
١ ٥ ١ ٥ ١ ٥
فل/ مع/ نى/ تو/ ضيح
١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ١ ٥ ]
لكن نغمية الإنشاد تنجذب إلى تشاكلات جناس القافية
شمس/ همس / غرس / امفلس
تلميح / توضيح / اصحيح / ارديح
و إلى تواتر اسلوب المقابلة بين كل سطرين شعرين اضافة إلى كون المقابلة تنعدم في مبنى لغة استعارية تجعل دينامية الايقاع تتجدر في فيض حقل المعنى و ترميزاته و اتساع فضائه الدلالي.
يجب هذا الاعتراف بأن ديوان «جبان كولوبان» بالقياس مع ديوان «عاش امع هباش» يشكل نقلة نوعية في مسار الكتابة الزجلية لديه، سواء على مستوى اعادة صياغة الجملة الزجلية، أو خلق أنساق إيقاعية تعتمد إلى جانب جناس القافية نظاما بديعيا يستلهم روافده من المقابلة و الموازنة، و المساوقة، و المساوات، و الاشتراك، و المعادلة، و لتمثل هذه المفاهيم الإجرائية أحيل القارئ على المرجع الذي أعتمده و هو « المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع » لأبي القاسم السجلماسي. تحقيق و تقديم علال الغازي، مكتبة المعارف 1980
هل يجب التوقف عند هذا الحد بخصوص البنية الإيقاعية ؟ أكيد لا.
إلى جانب ما أشرنا إليه في سياق سابق دال على ارتباط النسق الإيقاعي التفعيلي لإعتماد التشاكل الخببي (من الخبب) [مزج تفعيلتي المتقارب و المتدارك (فاعلن – فعول) و ما يلحقهما من زحاف و خبن] كما هو الحال في المثال التالي :
هاذا عل لام
/0/0 /0/0
فعلن فعلن

إق رى وت رب بى
/0/0 /0/0 /0
فعلن فعلن فع

كٌم حه تام ره فس بو له
/0/0 /0/0 /0/0 /0
فعلن فعلن فعلن فع

مكـ سب قف طان
/0/0 /0/0
فعلن فعلن

لم حب به
/0/0 /0
فعلن فع

وم فر رش إس روج مغ زو له
/0/0 /0/0 /0/0 /0/0
فعلن فعلن فعلن فعلن

فإن موسيقى قصائده تنطوي على جماليات إيقاعية أخرى ذات وقع أشد تأثيرا، و سنسوغها كالتالي من خلال دراسة إستقرائية للقصائد التالية :
ارماد الرحبة
اعلى طرف الساني
اسلالم الفتوات
العين غرزت
ياك غير أنا (1)
ياك غير أنا (2)
هضرة و اقوال
جبان كولوبان
شطحة و ارديح
الحلمة ميزان
طاح الريال
الموازنات التكرارية :
حيث يلجأ الشاعر إلى النسق التكراري الكمي خالقا طقسا إنشاديا نغميا تراتيليا يحيلنا على إيقاعية الإنشاد في قصائد السماع و الأذكار و الأهازيح و المرددات الغنائية. و نستدل هنا بقصيدة (ياك غير أنا) التي يترادف فيها تكرار المطلع :
كيفاش انكون سكين
كيفاش انكون حجرة
كيفاش انكون الخوف
كيفاش انكون اقشور
كيفاش انكون لقلم

مثلما يترادف فيها ترديد اللازمة:
[لاش اعليك آش انكون
ياك أنا غير من تم ]

نفس هذا الإيقاع النغمي نجده في ترديد المطلع (جبان كولوبان) ثماني مرات (ص 37-39)، و يشابه ذلك النسق التكراري للازمة (وعدي يا وعدي) ثلاث مرات في قصيدة (شطحة و ارديح)، و لازمة (ياك اهنا طاح الريال / ياك اهنا نلعبو اعليه) أربع مرات في قصيدة (طاح الريال).
تجنيس القافية
أشير إلى أن قصائد الشاعر تعتمد نظام السطر الشعري و ليس نظام البيت الشعري، و لكن السطر الشعري يخضع لميزان إنشادي قائم على أن كل قصيدة مركبة وفق وحدات إيقاعية تصوغ فسيفساء النص إيقاعيا، و يحتل فيها تجنيس القافية دور الناظم الهرموني لسلمية الإنشاد، و من أمثلة ذلك قصيدة (الحلمة ميزان) :
الوقت اعيا (ت)
و الهم يحل (م)
الحلمة ميزا (ن)
ماليه اصرو (ف)

ساكن فاسكا (ت)
ؤ ساير ايخم (م)
فامضاوت اللسا (ن)
ؤ ترياش احرو (ف)

الشوفة خسرا (ت)
ؤ لعقل يتوح (م)
يرسم بلون (ن)
عينين الخو (ف)

اشحال من حصلا(ت)
سايرة اتهد (م)
ؤ حلم الإنسان (ن)
يجمع فاشقو (ف)
إن تجنيس القافية في الدراسات النقدية القديمة رتبه النقاد صمن ضرب من النظم البديعي أطلق عليه (لزوم ما لا يلزم) و في ذلك إحالة على (اللزوميات) لأبي العلاء المعري، لكن حين دققنا النظر وجدنا أن العديد من شعراء الموشحات و شعراء الملحون، و شعر الزجل الصوفي وقصائد العيطة كلها ضروب من القول الشعري اعتمدت في إيقاعها بشكل أساسي على تجنيس القافية.
و في متن الشعر الزجلي المغربي الراهن أرى شخصيا أن الزجال عبد اللطيف البطل هو أبلغ الشعراء تفننا في صوغ و سبك القصيدة:
أولا : وفق نظام الوحدات الإيقاعية المشكلة لفسيفساء ايقاع هارموني متناغم.
ثانيا : من خلال بناء النسيج الإيقاعي لهذه الوحدات قائما على ترديد اللازمة تجنيس القافية.
نسوق هنا مثالا آخر في هذا السياق لأجل وقوف القارئ على الدربة و الحنكة و الملكة التي يظهرها الشاعر بخصوص تجنيس القافية:
وعدي يا وعـ (دي)
الحاملني فالضبا (ب)
قابط باسناني لحـ (دي)
ؤ فيديا كوم اترا (ب)

فالشوفة شمـ (س)
شارقة تلميـ (ح)

فالكلمة همـ (س)
فالمعنى توضيـ (ح)

فالصور غر (س)
برهان اصحيـ (ح)

وانا تايه امفل (س)
شبعان ارديـ (ح)

وعدي يا وعـ (دي)
يا لمغرقني فالهـ (م)
اليوم اتقاض جهـ (دي)
و الفم ارجع ابكـ (م)

السواكن فيا تفر (س)
و الكٌلب اجريـ (ح)

لكلام تاه فالكٌـ (س)
و الصمت ايصيـ (ح)

المعنى غاي و انعـ (س)
و الهم قابط تسبيـ (ح)

تابع خطوات النمـ (س)
افكل شطحة و ازديـ (ح)

وعدي يا وعـ (دي)
يا لمكسي ابكد (به)
اوكح الدم افجلد (دي)
و ابقات غير الجد (به)

4. رمزيات المتخيل الزجلي
القراءاة اليقظة لديوان “عاش امع هباش” الذي هو النص الأول المؤسس للتجربة الزجلية لدى عبد اللطيف البطل تقودنا إلى تبصر أول بعد استطيقي يتعلق بنظام اشتغال الرمز و بلاغة المخيال المجازي.
بدرجة أولى كان هاجس الكتابة الزجلية في هذا الديوان مقترنا اقترانا جوهريا بالسعي إلى نحت هوية استطيقية زجلية للذات المبدعة، و هو ما أوضحناه بشكل مركز آنفا في مقاربتنا ل “إستعارات الإسم الرمزي” و استخلاصنا للبدائل الرمزية : [المجدوب و البوهالي و المجنون و الكٌناوي]
طبعا يتعلق الأمر بهويات رمزية مستمدة من المخيال النصي للثقافة الشعبية و (ذاكرة الأدب الشفاهي) من خلالها يقرأ المبدع سؤال الذات و سؤال الوجود و سؤال الكتابة بعلامات دالة فارقة تقرن اللغة الزجلية و متخيلها برمزية نظام القول الحكمي.
هكذا تتمظهر الكينونة المتكلمة و هي تستعير خطاب الحكمة و لسان الحكيم (Le sage). بكامل تمثلات هذا الخطاب سواء في مزجول الكلام (المجدوب، البوهالي، المجنون، الكٌناوي) أو في معرب الكلام [لقمان الحكيم في النص القرآني، و الذات الصوفية في الخطاب العرفاني الإشاري (الحكم العطائية، النسق التعبيري الحكمي الصوفي عند النفري و أبي الحكم الششتري، و أبي مدين الغوث أو الشيخ أحمد الحراق مثلا…)].
تقربنا قصيدة” نكسة” من هذا المناخ الحكمي الزجلي :
[ياك اللسان
خاصم لكلام
أوكال
بلي السكات أحسن

الهضرة بالعين
جامعة لقوام
فسبيب الغمزة
حبة واتبن

ؤ فكلام الصمت
حكمة و احكام
لعسل كثير
والنحل ايزنزن] ( ص30 ).
هناك ميثاق قراءة في النص أعلاه يتجسد في مخاطبة الشاعر للمتلقي من خلال استبطان المخزون الحكمي في ذاكرته [=الصمت حكمة، السكوت من ذهب ،اللبيب بالإشارة يفهم ،الحر بالغمزة والعبد بالدبزة، خير الكلام ما قل و دل ، ومثلما الناس طوب و احجر فإن الكلام حب و اتبن ، اي ما هو حكمة و ما هو لغو ، هذا إلى جانب الإشارة الحكمية المثلية في آخر النص : “اللي ابغا لعسل يصبر لقرص النحل”].
إننا بصدد متخيل شعري أكبر دعاماته تشغيل رمزيات الخطاب الحكمي في الثقافة الشعبية مهما تعددت مصادر النصية الجينيالوجية.
و هذا الصنيع يتواتر حضوره في اغلب نصوص ديوان ” عاش امع هباش ” و نلقى اثره ممتدا في الديوان الثاني “جبان كولوبان”.
نلحظ ذلك في نصوص مثل “هضرة و أقوال” و “ياك غير أنا” و” جبان كولوبان” و”شطحة وارديح” و “طاح الريال” و”شاط لعبار” و “عيطو لحميدة” و يكفي أن نقف عند قصيدة “ياك غير أنا” لنرى أن تعاقد القراءة في تشغيل رمزية المتخيل الحكمي ينهض على محاورة الشاعر في كتابته لنص حكمي سابق و قبلي وهو “الفياشية” لسيدي أحمد البهلول ذات الاختمار العميق للقول الصوفي الاشاري و التي لازمة مطلعها
[انا مالي فياش
اش اعليا مني
نقلق من رزقي لاش
و الخالق يرزقني]
و نص الزجال عبد اللطيف البطل “ياك غير انا” متواشح البناء في محاورة الابعاد الرمزية الحكمية لقصيدة “الفياشية” يستثمر الامكانات التعبيرية المتاحة فيه لصوغ متخيل زجلي حكمي يقرأ سؤال الذات و سؤال الوجود قراءة ثانية من خلال دينامية كتابة تنامية يأخذ فيها المعنى الشعري ابعادا جديدة ذات ارتباط بالتجربة الوجودية الخاصة للشاعر
[لاش عليك ، اش انكون
ياك انا غير من تما
موجة ف بحر مجنون
زعفانة من قي التخمة

لاش عليك ، آش نكون
ياك انا غير من تم
غير اعويفية افكانون
جامعة لحباب و اللمة
شمعة حاضية لعيون
تمسح فاكحل الظلمة

لاش عليك ، آش نكون
ياك انا غير من تم
اغدايا اصبر معجون
و اعشايا عرك الكلمة] (ص32-33).

هكذا يتوحد الشاعر بصوته الابداعي من خلال متخيل رمزي لهوية كلمة الحكيم ( ) الذي ليس خطاب التصوف الاشاري عند سيدي محمد البهلول في “الفياشية” سوى استعارة رمزية له ، احد المجازات الرمزية للكينونة الشعرية تنكتب في افق متخيل شعري مغاير تحكمه مقصديات و نوايا مرتهنة بالواقع الآني للشاعر و ذاتيته الخالصة.
بيد ان تفحص تلوينات هذا المتخيل الزجلي الرمزي في تجربة الكتابة عند عبد اللطيف البطل لا ينحصر فحسب في استرفاد هذه المرجعية ، بل ثمة مخيال يلتقي بنص رافد لعمق هذه الكتابة يتجسد في خطاب الراوي الشعبي/ تلك الصورة الايقونة التي تشكلت من داخل و من محيط الفرجة الحكواتية الشعبية ، و هي الصورة المضمرة ل “الاب الرمزي” على اعتبار ان فن الحكواتي تقليد و ممارسة ثقافية شفاهية طبعت حياة والد الشاعر في جوهر و جوده ، و حملت رواسب تأثيرها الابداعي للشاعر عبد اللطيف البطل.
في سياق سابق من هذه الدراسة ابرزنا كيف استفادت الكتابة الزجلية على مستوى الجملة و العبارة و البناء من نص السجع الذي ينظم علا سبيل المثال بلاغة الالقاء السردي لدى الحكواتيين و إذا نتمثل انعكاس هذا التأثير في الكتابة الزجلية لدى الشاعر تستوقفنا مجموع الخصيصات الفنية التي تحدث تواشجا اولا على مستوى الإيقاع بين الإلقاء السردي الحكواتي و الإنشاد الزجلي ، و على مستوى بناء المتخيل و خطابه : التشاكلات بين الزجلي و الحكائي ، والذي يترتب عنه : اولا : اعتماد الشاعر التلوينات السردية للغة الزجل، و هذا الأمر يتجلى بشكل قوي في قصيدة الشاعر “عاش امع هباش” التي صار يعرفها الآن جميع القراء و التي تنهض على تركيب قصصي حكائي سردي ل “سيرة حذاء موظف بسيط مقهور” (ص23).
و هو الشيء ذاته الذي نقف عليه في قصيدة “احكاية لفقيه” التي نورد نصها التالي :
[كان يا ما كان
فالزمان الماجي
كان الفقيه ڭالس
فاسريرو
ابنوطة واحروف يحكي
ويحاجي
ؤ بجمر الخوف
يسخن بنديرو

احكايت هاينة
و الغول الهمجي
زينت لريام و
شاغلة تفكيرو

صاح الغول
اللي اتبع مجاجي
يرڭد و ينام
ما نسمع شخيرو
كل من امعايا
سالم و ناجي
و الي يغزل انخبل
احريرو

ڭال الحق للهم
غير أجي
فوق اخبال لحرير
نطيرو
اصياح الغول
ما يخلع فروجي
لو كان شديد
ما يخون اعشيرو] ( ص 43 . 44).
نحن هنا بصدد مشكلات نصية بين الشعري الزجلي و المروي الحكائي ، و بصدد تضام قوي بين الالقاء السردي و الانشاد الزجلي ، تبتعد القصيدة في آن واحد عن الاسلوبين الغنائي و الخطابي لتتماهى بلسان بين “الراوي المنشد” .. و بالمثل فإن متخيل القصيدة ينهض على نظام رمزي لبناء المعنى : فيلجأ الشاعر إلى ذاكرة الثقافة الشعبية يقرأ رمزيا من خلال حكاية “هاينة و الغول” الواقع الاجتماعي و الثقافي الراهن الذي تحكمه قوى الشر هو القهر و الظلم و الاستبداد. .
و على هذا النمط من التوازيات النصية و الرمزية بين نص حكائي غائب ، نص القصيدة نبدأ نقتفي في الكتابة الشعرية الزجلية لعبد اللطيف البطل سجلات المتخيل الرمزي المشغلة في الأنساق التعبيرية الزجلية  كما هو الحال في قصيدة بين : “ارماد الرحبة” التي من خلال محكي فروسي بطولي تشرح واقع الهزيمة و السقوط في زمن انكسار القيم النبيلة و سيادة الوعي الاستسلامي الانهزامي).
هو متخيل رمزي يستعيد ذاكرة الحكي الشعبي ليس من اجل الاغتراب في الماضي بل لفضح مستويات الاغتراب السائد في بنية الواقع الراهن و الحاضر الآني ، و هو ما يؤشر عليه قول الشاعر: “كان يا ما كان/ فالزمان الماجي” اي الزمن الآتي ، مستقبل الحلم بواقع بديل ، وغد الرؤى التي تتبصر افق حياة جديدة و مغايرة .
حديثنا عن المتخيل يلزمنا بقراءة الصور المجازية لحضور العناصر الكونية ( الماء و النار و الهواء و التراب).انها مساحة للقراءة خصبة المعاني و التأويل الاحاطة بكل تشكلاتها يتطلب سياقا تخصيبيا واسع الامتداد.
نتوقف في ديوان (جبان كولوبان) عند بعد واحد يتجسد في حضور الاستعارة الضوئية المرتبطة بالمتخيل الرمزي للنار :
[كنت حاضي و ارجعت محضي
كنت ضو فاظلام الكون
كنت جمرة زاندة تڭدي
واطفيت فصمتي مسجون] (ص93).
يعود الشاعر الى أحد الانماط العليا في بناء أنساق المتخيل الرمزي المتمثلة في التقابل الضدي بين النور و الظلمة و بين النار و الرماد ، هو تقابل ضدي يستعيد ضمنيا الصراع الأزلي بين الخير و الشر . التوزيعات الزمنية ( ماضي/ حاضر ) : (كنت وارجعت) لا يجب النظر اليها “كرونولوجيا” لان الزمن هنا يأخذ شكل “الكرونوتوب” لتوحد الدلالة الزمنية بالدلالة المكانية ، مما يقع معه تصعد للكلام إلى مستوى التجريد الرمزي للحديث من داخل قراءة للوجود كمطلق ، وجود لا يكف يقوم على الصراع الدائم بين قوى الشر و قوى الخير ، بين الظلمة و النور كتمثيل رمزي للصدام العنيف بين الواقع و الحلم.
تتناسل في الديوان الصور المتعددة لمجازات و استعارات النار/النور/ الضوء :
[جمعي خيالك يا ذميمة
و خلي الدم إيحرك النفس
خلي افليلتنا نجيمة
نلگاو بها اكسوف الشمس] (ص 100).
استنارة النجوم تعارضها عتمة الليل و كسوف الشمس، و الظلال القاتمة الصور في العين تمحي من اجل شروق نهاري انبلاجي. يجب التأكيد على ارتباط التأويلية الرمزية لحضور استعارة الظلمة و النور بتأسيسات معنى الولادة المتجددة :[(يخرج الحي من الميت ) ، ( يخرج من الظلمات الى النور)] ، إنه التجسيد المطلق لرمزية الميلاد ،لاختبار الكينونة لذاتها بين تجاذب الموت و الحياة.
هذه الرمزية التي حين نترك الاستعارة النارية جانبا لقراءة اشتغال الاستعارة المائية نجد أنفسنا في جوهر السياق ذاته : أي كون الزجال الشاعر عبد اللطيف البطل يشتغل علي متخيل الرموز الكونية الأربعة : الماء ، النار ، الهواء و التراب دوما من خلال النسق المجازي التعبيري لدلالة الولادة المتجددة و معادلاتها الرمزية [(العقم/ الإنجاب)، (الجفاف/ الخصب)، (النار/ الرماد)، (الليل/ النهار…)] كلها تنسج في سيرورة الكتابة الزجلية نسقا متخيلا لتفويض زمن الاغتراب و النفي و الموت بأفق زمني آخر يستشرف الغد والآتي بنبوءة ميلادية تعيد الكائن إلى أصوله الجوهرية ، إلى فردوسه المفقود ، إلى اول الكلام و إلى اول المعنى قبل ميلاد العتمة بألف سنة ضوئية زجلية .

مراجع مساعدة
الدكتور صلاح فضل، (بلاعة الخطاب و علم النص)، مكتبة لبنان ناشرون، و الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، ط1، 1996.
أبو محمد القاسم السجلماسي، (المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع)، مكتبة التعارف، ط1، 1980.
عبدالعزيز غالي، (و على رقبتي حتى الحرف هو مولاها)، طابعة خاصة بالمغرب العربي، ط1، 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top