عيون المها بين الرصافة والجسر

 

.. تحدث الكثيرون عن العيون وعن لونها و رسمها وعن اهدابها
وتغزل أغلب الشعراء بنظراتها منهم من عبر عنها بلغة لا تحتاج إلى ترجمة ،
ومنهم من قال العيون الفصيحة والصريحة و قيل بلاغة العيون واخر كلام القلوب و انفاس الفؤاد و روح الروح حتى نتوقف عند مضرب الأمثال لذلك الجمال الخارق والصادق واجمل شيء من حواس الإنسان ، فتحدث الشاعر البدوي الذي ذكر كثيراً في كتب الأدب و التراث العربي ، وخاصة في حكايته الطريفة عندما وقف لأول مرة بين يدي الخليفة المتوكل العباسي ، مادحاً إياه
قائلاً:
انت كالكلب في حفظك للود و كالتيس في قراع الخطوبِ

انت كالدلو ، لا عدمناك دلواً من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ .
فيندهش الحاضرون في مجلس الخليفة من هذا الشاعر الذي يمدح الخليفة بأنه كالكلب في حفظه الود و كالتيس في مواجهة المصاعب و الأخطار ، و كالدلو الذي يحمل الماء و يجلبها .. كثير الذنوب .. اي غزيرة من قاع البئر .
و رغم كل ماقيل بحق المتوكل فإنه تمالك نفسه ولم يغضب من الشاعر ، حيث كان يعلم بفطرته و بلاغته و نبل مقصده و خشونة لفظه و تعبيره ، و كأنه يعلم بتأثير البادية عليه فهي مسكنه وملاذه الآمن ، ولذلك أتى بهذه التشبيهات و الصور و التراكيب ..
ثم يهب الخليفة للشاعر بدار جميلة واسعة ، وسط بستان فيه مالذ وطاب من الفواكه والخضر والأشجار المثمرة وعلى شواطئ دجلة يتخلله نسيم لطيف وهواء بغدادي عذب يغذي وينعش الروح .. بحيث يخرج الشاعر الى محلات بغداد يُـطالع الناس و مظاهر مدينتهم و حضارتهم و ترفهم ، و يـقيم الشاعر (علي ابن الجهم) مدة من الزمن على هذه الحال ، و العلماء يتعهدون مجالسته و محاضراته ثم يستدعيه الخليفة و ينشده الشاعر قصيدة جديدة … فتكون المفاجأة … قصيدة من ارق الشعر و اعذبه وأصبحت مضرباً للأمثال في جمال العيون …
فيقول مطلعها
عيون المها بين الرصافة و الجسر
جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
ويصيح المتوكل .. انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه ان يذوب رقة و لطافة.
ذلك الشاعر البدوي النشأة، البغدادي الإقامة .. علي ابن الجهم الذي عاش منتصف القرن الثالث الهجري و ذاعت شهرته بفضل قصيدته {عيون المها} التي يقول فيها ..
عيون المها بين الرصافة و الجسر جلبن الهوى من حيثُ ادري ولا ادري
اعدن لي الشوق القديم و لم اكن
سلوت ولكن زدن جمراً على جمرِ
سلمن، و اسلمن القلوب، كأنما تشك بأطراف المُـثـقـفـةِ السمرِ
وقلن لنا نحن الاهلة انما
تضئ لمن يسري بليل ولاتقري
فلا بذل ألا ماتزود ناظر
ولا وصل ألا بالخيال الذي يسري
احين أزحن القلب عن مستقره
والهبن ما بين الجوانح والصدر .
اوالى نهاية القصيدة. هنا يقدم لنا الخليفة درسا رائعا عن البداوة و التمدن فالقصيدة التي امتدح بها الخليفة ربما كانت بلغة مقيتة لا يرغبها الحكام لكن بسبب فطرة الشاعر و متلازمة البداوة نتجت عنه هذه الكلمات في القصيدة المذكورة و بعد تغير ” زمكانية ” الشاعر و النقلة النوعية التي حصل عليها كان للمدينة تاثير مباشر على نتائجه الشعري و الذي اصبح ارق بكثير و الين مما كان يقدمه سابقا ..هنا يذكرنا بكتاب الاخلاق..الضائع من الموارد الخلقية للعلامة الوردي و ما قالته الاستاذة( روث بندكت ) في كتابها المعروف (Patterns of Culure ) ان الصفات في اي مجتمع هي كالعناصر التي يتألف منها المركب الكيمياوي إذ هي تتفاعل و تترابط فيما بينها بحيث يظهر من جراء ذلك شيء جديد يختلف في صفاته عن صفات العناصر المكونة له .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top