في اكتناه المجهول واللانهائي [جدلية العلاقة بين الإبداع والنقد]

لا أريد أن أتحدث عن نقد الشعر تحديدا، بل عن نقد الإبداع عموما؛
الشعر، القصة، الرواية، المسرح، وحتى السيرة. الكتابة الإبداعية،
هي، بالضرورة، اختلاق واختراق، هي مغايرة ومغامرة. ما لم نتمثلها بهذا المعنى،
وفي هذا الأفق، فهي لن تكون سوى تكرار واستعادة لأشكال وأنماط أخرى سابقة عليها. ما يعني، أن مفهوم ومعنى الإبداع، ينتفي ويتلاشى، ما يترتب عنه تلاشي مفهوم الكتابة ذاته، لأن الصدى، ليس هو الصوت، بل محاكاة الصوت، واسترجاع له. وهنا، لا بد أن أعود إلى مفهوم النقد ذاته، ما الذي أعنيه بالنقد؟ النقد، في أصله تقويم، أو سعي لترميم ما بدا في النص من انحراف أو انزلاق، وهو كشف عن “الأصيل” فيه، في مقابل “الدخيل”، أي ما ليس منه. وهذا، مفهوم فسد، لم يعد يصلح أن ننظر به إلى الإبداع، لأن الإبداع، هو انفراد، هو ذات تكتب كينونتها باللغة، بالصور والإيقاعات، بالسرد، بالحوار، بالتداعيات والاسترجاع، بالحلم، والاستيهام، بتشويش العلائق بين الدوال، بوضع اللغة خارج هويتها الإعلامية الإخبارية، لأن الوجود باللغة، هو وجود بالتجربة الفردية، بما أقوله أنا، رغم تقاطعي مع الأغيار، لأن التقاطع، هو نوع من إجبار الغير على أن تكتنفه الأنا، وأن تعيد تفكيره وقراءته، باختراقه، ليس بدفي ما يقوله هو، بل بما أقوله أنا، من خلال هذا التصادي الذي هو انسلاخ من الأغيار وخروج منهم، بإحضارهم، وباستجوابهم واستنطاقهم، للكشف عن نواياهم، أو ما كانوا يتكتمون عليه من أسرار، في ماضيهم وحتى في حاضرهم. النقد، إذن، وفق هذا المنظور، هو معرفة بالأغيار، في سياق الذات، ما تحتمله هذه الذات، وما تتمرأى به من وجودات، باعتبارها كينونة، هي، دائما، في طور الانبثاق، وليست كينونة اكتملت، و انغلقت على ذاتها. ما يحتم، على اللغة التي بها نقرأ النص الإبداعي، أن تكون لغة، في ما هي تقرأ، تتخلق، وتنبثق، وتختلق. النقد، هنا، سيصبح، بدوره، إبداعا، وكينونة تحايث كينونة النص الشعري، أو القصصي، أو الروائي، أو المسرحي، أو السيري، أي أن يكون النقد صوتا، وليس صدى. بهذا المعنى، يمكن أن يكون النقد توليدا للمفاهيم، لأنه نقد يؤسس، يقرأ نصا يؤسس، ما سيطور النقد، حتما، وسيطور الكتابات الإبداعية، بدورها. فبقدر ما النقد يستلهم النص الإبداعي ليحدث مفاهيم ورؤى جديدة وطرقا جديدة في القراءة، بقدر ما يكشف عن “الأصيل” في هذا الإبداع، ليس بمعناه التأصيلي الذي هو ماض يطفو على الحاضر، بل باعتباره تأسيسا، أفقا، اختلاقا، توليدا، وانبثاقا. الحداثة، إذن، هي هذا الاختلاق المزدوج، وهي تأصيل بمعنى التأسيس، وليست استعادة لماض مضى، أو لماض استغرقته ماضويته. لأن الحداثة، بالمعنى الذي ذهبت إليه في ما كتبته، دائما، هي نفسها، هذه الكينوتة التي لا تفتأ تنبثق وتتخلق، هي تخلق لا نهائي، لأنها ليست اكتمالا، بل هي نقص، يبتهج بنقصانه، وكل اكتمال فيها، يضمر نقصانه في اكتماله، أو كما قال الجرجاني، فهي شدة اكتمال في شدة نقصان. ما لم ننظر إلى الإبداع بهذا المعنى، والنقد بهذا المعنى، أي باعتباره إبداعا، أيضا، فإن قراءتنا لما يطرأ من كتابات في الشعر، وفي القصة، وفي الرواية، وفي المسرح، وفي السيرة، ستكون قراءة تأتي من اكتمال، لتقرأ النقصان، والمكتمل، لا يمكنه أن يقتنع بالناقص، لأن الاكتمال، بناء تم، انتهى، وأغلق الباب خلفه، بل دخل ظلمة ماضيه، أو قبره، صار شيئا حدث، ولم يعد يقبل الحدوث، أعني أن كينونته، هي ما كان، وليس ما يكون. هل، بهذا المعنى، عندنا فعلا إبداع، نصا ونقدا؟ هذه بين معضلات اللحظة التي نحن فيها، إما أن نجابهها ونواجهها بجرأة ووضوح، ونشير إلى خلل الاكتمال والانغلاق الذي يسود ما نكتبه، ونبحث عن الشقوق الممكنة لتوسيع مساحات الضوء فيها، وإما نبقى مستلبين بألفة ما نكتبه، ونعتبر النقد، هو الإطراء والإغراء، ونستمر في تكريس الماضي، بما نظنه إحداثا، واختلاقا أو انتهاكا، ونكتفي بالنظر في مرآتنا، باعتبار ما نراه، وليس باعتبار ما يتخفى خلف المرآة من قصور في النظر، وفي اكتناه المجهول واللانهائي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top