كنّا صغاراً ( الحلقة 20 )

لم تكن حياتي الجامعية أقل وطأة من حياة الطفولة القاسية
فالتشرد والفقر الذي عشناه جعلنا ننحاز لكل حركة تجد ان مستقبل العالم
يجب أن ينتقل إلى أيدي الطبقات الكادحة والبروليتاريا .
ولذا قررنا أنا وإخوتي جميعاً أن نعمل إلى جانب الدراسة .من أصغرنا إلى أكبرنا .
فكان شقيقي الأكبر يعمل بمطبعة للكتب بالكاد خرجت حنجرته سالمة من تأثيرات الرصاص .
وعملت شقيقتي الكبرى بإحدى الصحف .
وتنقلْتُ أنا بين مجموعة أعمال لأوفق بين جلسات العملي في الكلية وبين العمل .
فعملت بداية كضاربة آلة كاتبة في مكتب هندسي .ثم مراسلة لمجموعة مجلات
وكتبت في الكثير من الدوريات والصحف اليومية .وتقاضيت أجراً على كتابتي
كان يعينني بعض الشيء في دراستي .كانت كلية الصيدلة كلية مقيتة وصغيرة .
مدرجاتها معتمة .لها ثلاثة تقاطعات أحدها يؤدي نحو المشرحة
كانت رائحة الفورمولين الكريهة تفوح من الجثث المحنطة بداخلها .
وكثيرا ماكان ينتابني الفضول لولوجها بعد ان أقف على رؤوس أصابعي واسترق النظر من الخارج .
حتى استجمعتُ شجاعتي ذات يوم ودخلت مع أصدقاء لي من طلاب كلية الطب .بعد أن استأذنتُ من مُدَرِّس التشريح . كان نبضي يتسارع وأنا اسير في الممر المليء بالمجسمات المحنطة .ولم يكن يدور بخلدي ان الأمر سيكون بتلك الرهبة وقد تساءلت كيف يمكن للأطباء ملامسة تلك الجثث ؟ فأيقنت أن العادة تسمح لهم بفعل ذلك . كان أكثر الطلاب يتضاحكون. لكن لم اتمالك نفسي , وبكيتُ حينما لمس أحدهم جثة طازجة لشاب . كنت اقول في سريرتي : هل يمكن أن اكون جثة هامدة قبل أن أكمل مهمتي في الحياة ؟ ام هل عليَّ أن أسَلِّم بلامعنائية الحياة وأنا التي كنتُ أجد دوماً أن سلطتها طاغية رغم ماأعاني من ألم وشقاء ؟ كنت ُ أضغط على منخري لكي لاتنفذ إليهما رائحة التعفن والفورميلين وفي كل ثانية التفت إلى المشرف على المشرحة وأقول كيف تسطيع ان تتحمل كل تلك المناظر .فيقول : إن الأمر يحتاج مهارة من نوع خاص وقد اكتسبتها من عشرتي لتلك الجثث . قلت بلهجة ساخرة : عشرتك ؟
قال: نعم بعض الموتى يتحركون وبعضهم يتحدثون ويفصحون عن رغباتهم . وانا أسمعهم ..
دبت القشعريرة في جسدي وبدأتُ أرتجف قال : أنا المسؤول الثاني هنا بعد عزرائيل .
طلبت أن أغادر المشرحة ومئات الأفكار والتساؤلات تتلاطم في جدار جمجمتي . كنت أعرف أنه يمازحني لكن تابعت الاستفسار عن إمكانية الحركة عند بعض الأموات فكان الرد : إن الجسد الميت يصدر أصواتاً كانت تثير الرعب لديه دون ان يجد لها تفسيراً. لكن العلم الحديث خلص الى ان مصدر هذه الأصوات يعود الى تضاعف الغازات والسوائل في هذا الجسد نتيجة لنشاط البكتيريا الذي يؤدي الى التعفن. وتجد هذه الغازات مخرجاً لها من خلال فم الانسان الميت في صورة تنهدات أو صفير.ويقال : بأن بعض خلايا الجلد تتابع عملها لعدة أيام بعد الوفاة . ويمكن للميت أن يتخلص من الفضلات. المهم أنه لامندوحة من الموت ذلك السر الذي يتلبس بنا ويغلف بغموضه صميم وجودنا . فلماذا لانتقبل بحريتنا ذلك التناهي ؟لمَ لانذعن مع “هيدجر “حين يقول : ” موتي هو أعلى إمكانية من إمكانياتي، وتلك هي إمكانية عجزي عن تحقيق أي وجود في العالم ” ؟
يتبع ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top