لم يكن والدي يرغب أن يبتعد عن حيّنا القديم حين تستدعي الضرورة أن ننتقل من منزلنا في حي الأمين ،
الذي سُمِيَ كذلك نسبة للسيد “محسن الأمين العاملي ” .
فقد كان والدي يشعر بعبق التاريخ ينتشر من البيوتات القديمة في ذلك الحي .
الذي حافظت شوارعه وأسواقه وبوّابات منازله على معالمها الجميلة رغم الدمارالذي ألحقه زلزال ألمَّ بها .
فأبناء دمشق المحبين كانوا في كل فترة تاريخية يَسْعُون إلى ترميمها .
باستثناء منطقة الخراب التي سُمِيَتْ كذلك بسبب الخراب الكبير الذي ألحقه بها الوالي العثماني حين رفضه أهلها.
كان حيّنا يتقاطع من الشرق مع ( حارة اليهود ) ومن الغرب مع ” حي الإصلاح ” ومن الجنوب مع شارع البدوي الذي يمتد من تقاطع باب الجابية، ومن السنانية وباب الصغير خارج دمشق القديمة والسويقة إلى منطقة الشاغور البراني ، وسمي كذلك نسبة إلى مقام وزاوية الشيخ أحمد البدوي الحسيني صاحب الطريقة الأحمدية البدوية،ا كان بدل السكن في هذا الشارع منخفضاً . لكنَّ والدي كان يرفض بإصرار أن ينقلنا إليه رغم ضيق ذات اليد . بل كان يمنعنا من المرور به . ( رغم أن من يقطعه يمكنه اختصار المسافة الطويلة التي يمكن ان يقطعها راكباً للوصول إلى سوق الحميدية التجاري الشهير ) .
لأن هذا الشارع كان يُعْرَف بالمرقص السوداني . او المحل العمومي ( الكرخانة ) التي كانت أبوابها مفتوحة على الدوام .و تصطف على عتباتها بنات الهوى اللواتي وصل صيتهن الآفاق , لمهارتهن بجلب الزبائن للتمتع بالرقص والغناء والعزف . بالإضافة لوجود بيوتات الدعارة ومَْدَرَسة لتعليم الرقص .وكانت الراقصة تضع الملاءة فوق ثياب الرقص والشرطة يحرسونها ويحافظون على امن العاملين في ذلك الشارع .بعد قبض الرشاوى من مديرات البيوت وزبائنهن . ويُرْوَى ان يزيد بن معاوية قد دخل دمشق من الباب الصغير ماراً بذاك الحي . فزغردت نساء الحي احتفالاً به .لما عُرِف عنه من حب المجون والخمر ومعاشرة النساء . بينما سمي الحي المجاور بحي الاصلاح حيث كان نساؤه يرمين بالثياب لستر سبايا أهل البيت . وقد انكمش شارع البدوي كثيراً بعد توسع دمشق .وبدأت مقابرها من الجهتين تتجه نحوه . ومابقي من بيوته مازالت أبوابها مفتوحة حتى الآن ،تؤكد أن ذاكرة التاريخ لاتنغلق أبداً .
يتبع ….