لم يكن منزلنا في الشاغور مجرد مكان للعيش أوتجسيداً للمأوى بل تجسيداً للأحلام .
فكل زاوية فيه مستقر لحلم من أحلام يقظتي , وللعادات التي اكتسبتها من ذلك المستقر .
حيث اعتدتُ على سماع الكلمات البذيئة التي لم يعد وقعها مزعجاً بالنسبة لي .
لأنها كانت كثيرة التداول بين العوائل التي كانت متآلفة بالعيش ،فلا تشعر بالحرج أو التكلف لدى إطلاقها .
فتارة يتهادى إلى سمعي صوت ابن الجيران الفلسطيني يصرخ على أخته :
(ولِك حاج تْحُكِيْ ….فتجيبه بصلافة : إيش دخلك ؟ إذا حَكَّكْ مابتحكوشْ ).
وصوت أم حمود اليبرودية تسأل اختها عن سبب بكاء ابنها قائلة :
( أشْبو بارم بوزو ؟ فتجيبها بدو فجلة تخينة تفوت بطيزو ) .
أما أم هاني التي كانت تمتلك قاموساً للمصطلحات النابية ، وتستمتع بتردادها .
فقدكان ابنها الكبيريريد الميسورة لنفسه . لكنَّ الميسورة كانت تعشق الزعبي
لذا كان هاني يلاحقها لدى عودتها من الجامعة ويغني خلفها :
(وِلِحِقْها الزعبي حتى يوَصِلْها بإيدو عالبيت .
قالتلو : أوعا تلحقني الماما بالبيت ).
لكنَّ الميسورة كانت تتابع سيرها دون أن تعيره أيَّ اهتمام . فيقوم بتحريض أخاه الصغير ” زيزو ”
ويعلمه ان يلحقها ويدسَّ أصبعه بمؤخرتها .ويهرب . كان يكرر تلك العملية كلما لمح الميسورة قادمة .
حتى طفح كيل الميسورة وذهبت تشتكي لأم هاني فعلة ابنها وهي تهمس ..فتستغل أم هاني الموقف لتزيد من إحراج الميسورة وتصرخ في الحي بأعلى صوتها شاتمة ابنها : ( لك زيزو بعصتا للميسورة ؟) .فتحاول الميسورة إغلاق فمها ..لكن أم هاني تدفع يد الميسورة بعيداً عنها وتتابع :(لك ليييييش بعصتا؟ موعيب عليك تبعصها ؟ لك هَيْ حْرِيْمِه مابتنبعص. ,.والله لبعبص عيونك ) .
فتهرب الميسورة نادمة على شكواها متمتمة : (تفوووو عليكِ وعلى ابنك ).
إن تلك الأحداث رغم بشاعتها وقساوتها كانت تربطني بعلاقة وجدانية مع الماضي الذي يزداد توغلي فيه كلما تقدَمت بالسن ، كي أتمكن من تفسير الكثير من الانعكاسات النفسية التي ولَّدها بأفراد عائلتي . ففيه عشنا أجمل أيام طفولتنا وقصص حبنا البريئة . فحين أحببتُ ابن الجيران وقررتُ للمرة الأولى أن التقيه في الشارع . لاأدري لم َتوارد لذهني ان أضع شعراً مستعاراً أسود لم يكن يليق بي مطلقاً ؟ لكنني كنتُ أظنُّ أن شعري الأشقر مقززاً ،لأنه كان مجعداً ، ولم تكن تقنيات التمليس تتوفر في المنزل ببساطة .فكنتُ أشدُّ شعري بقوة إلى الخلف،وأُبْرِز جبيني العريض ،حتى أبدو مثل أفراد العصابات .لكنَّ شقيقي الأكبر لاحظ تصرفي الغريب ولاحقني ، فاضطررتُ أن ألغي لقاءنا الموعود . وعدتُّ خائبة مرتجفة ، وقررتُ أن أنهي العلاقة في مهدها .
وظلت ذكريات ذلك الحي راسخة في زوايا أرواحنا . لأن الحياة فيه لم تكن خالية من الصدق والبساطة .فعدم التكلف في العيش كان سيد الموقف لتشابه الظروف الاقتصادية لدى معظم سكانه ، حيث لامكان لأحد كي يتباهى بثراء فاحش أوسكن فاخر . لذا غادرنا الحي ونحن نتحسر على أصدقائنا وصديقاتنا . و كنَّتُ في أقسى درجات حزني حينما غادرناه إلى محطتنا الأخيرة في حي الميدان قبل عودتنا إلى بلدنا لبنان .
يتبع ….