لحظة تأمل ..
لقيت إحدى منشوراتي في الآونة الأخيرة ، إعجابا واستحسانا كبيرين من طرف أصدقائي وزملائي الفيسبوكيين ، والرواد الذين يتقاسمونها معي .. ويتعلق الأمر بالبوست الذي وضعته بعد تركيب صور وأشرطة لأنواع الحيوانات البرية التي غزت بشكل مفاجيء ، عددا من المدن عبر العالم ، بعد إنزواء الناس قسرا في بيوتهم واحجامهم عن الخروج والتجول للأسباب المعروفة .. فشاهدنا ظهور الكونكر في مدن أستراليا ، وتجول أسراب القردة في شوارع ومدن بدول جنوب شرق آسيا .. وثعالب وذئاب في مدن بدول أوربا ، ودببة في كندا والأيايل في مدن أنجلترا .. وأسراب الخنازير في ضواحي عاصمتنا و في شوارع مدينة جبلية .. وقد عنونت هذا البوست ب : ..الطبيعة تسترجع حقوقها .. وكتبت العبارة باللغة الفرنسية .. la nature reprend ses droits “. تماهيت كثيرا مع تعليقات الرواد وتثمينهم لفكرة البوست ومضمونه .. وتفاعلهم معه بإعجاب .. وأنا مستلقي على ظهري في مضجعي أداعب هاتفي النقال .. تأملت كثيرا هذه الظاهرة التي لم تقتصر على أسراب الحيوانات التي ظهرت في المدن العصرية فسيحة الشوارع والأنيقة العمران فحسب .. ولكن أيضا على نمو نباتات وأعشاب في الساحات العمومية ، في جنبات الشوارع وفي الممرات التي كان يستعملها عادة الراجلون .. بل أن من هذه النباتات من أينعت وأزهرت وأطلعتنا على أشكال جميلة من زهورها .. ذات الألوان والأنواع المختلفة .. إنها استراحة الطبيعة وعودة الحياة إليها ، وإنطلاق نموها في دورة هادئة عادية بعيدة عن تدخل الإنسان .. تذكرت بهذه المناسبة أسراب القطط التي أصبحت تجوب شوارع حينا وتظهر جماعات وأفرادا ، وهي تبحث عن ما تقتات به .. و تندس تحت السيارات المركونة في الشوارع منذ بداية سريان الحجر الصحي ، كلما أحست بحركات أو سمعت أصواتا في محيطها .. قطط تأخذ مسافة الأمان وتبتعد عنا حتى ونحن نضع طعاما لها في تلك الأواني الخاصة بها ، الموضوعة بجوار أسوار المنازل .. مينوش قط أبيض ضخم نسبيا مقارنة مع باقي القطط ، لا يختلط معها الا ناذرا ، يدخل بكل طمأنينة إلى منازلنا ويتخذ أمكنة خاصة به في حدائقها ، ليستريح أو ينام بعدما يأتي على الطعام الذي يجده في أواني موضوعة بأركان هذه الحدائق .. أطلقت عليه إبنتي هذا الإسم فأصبح معروفا به بين الجيران .. قط أبيض لاشية فيه ، يغطي جسمه فرو طويل ، عيناه صفراوتين واسعتين تتناسب وحجمه . يسترخي في درج مدخل المنزل ولا يتوجس من مرورنا بجانبه . بل يدعنا نداعبه ونحن نمرر أيدينا على ظهره ورأسه وهو يموء بصوت هاديء ويغمض عينيه تعبيرا منه عن قبوله لهذه الإلتفاتة الإنسانية .. لا يدخل إلى منزلنا ولم نمنحه هذه الفرصة ، بل يكتفي بتواجده في مكانه المفضل لديه قريبا من الباب ينظر إلى الشارع في هيأة الحارس أو المراقب وهو يبسط أطرافه العليا أمامه . وأنا اتأمل هذه البوسطات ومضامينها وأشاهد تلك الأسراب من الحيوانات وتنوعها ، وكيف يتمكن صيادو اللقطات والمشاهد المثيرة من رصدها ونقلها لنا نحن القابعين وراء شاشات آلاتنا الذكية .. وأتذكر مينوش القط الأبيض الكبير الهاديء .. أحسست بمغص في معدتي ، ربما جراء ما أخذت من طعام في وجبة العشاء ، أو أكون أكثرت من الأكل ، او لقلة الحركة وتنقلي في مساحة ضيقة في المنزل ، أو نتيجة كثرة الإسترخاء على ظهري في مضجعي . كلها أسباب قد تؤثر على عملية الهضم فتسوء ، وتصاب معدتي بهذا المغص الحارق الذي ينتابها بين الفينة والأخرى . فأحس بها عند اشتداده كما لو أنه يحاول إقتلاعها من مكانها ليطوح بها خارج بطني .. نزلت إلى الطابق الأرضي أبحث في صيدلية البيت علني أجد عقارا أو محلولا أشربه لدرء هذه الأوجاع والتخفيف منها .. فالوقت ليلا والخروج للبحث عن صيدلية محظور بقوة قانون حظر التجول إلى حدود السادسة صباحا .. وأنا في البهو آثار انتباهي سماع صوت قريب مني ، فتحت الباب وأطللت برأسي إلى الشارع .. سكون تام وهدوء يملؤه نسيم عذب رقيق يحيي الكائنات التي يهب عليها .. وسماء صافية اللون ، زرقتها شفافة لا تحجبها غيوم أو ضباب .. تتلألؤ نجومها في مشهد بديع .. ساعدني على رؤيتها و تأملها .. انطفاء الإنارة العمومية بالشارع … فمصدر الصوت نتج عن نطات مينوش إلى الحديقة وإرتطام أطرافه بأصيص غير مثبت جيدا .. آه هذا أنت .. من أحدث هذا الصوت .. لا عليك .. وبسرعة يقفز إلى مكانه المعتاد . تركت باب المدخل مفتوحا لنستفيد من دخول هذا النسيم العليل إلى بهو المنزل .. إستفاق إثره طائر الكناري الأبيض في قفصه وبدأ يتحرك على أرجوحته لما رآني ، يهز جناحيه ويصدر أصواتا خفيفة ، ربما يريدني أن أتواصل معه ، أوأحمله على سبابتي كما العادة .. حررته من القفص ووضعته على أصبعي وبدأت أمرر سبابة اليد الأخرى على ريشه الناعم الأبيض .. فهو يبدو ككرة ثلج صغيرة برجلين ومنقار وعينين حمراء اللون . يشع من عينيه الصغيرتين المدورتين بريق غريب .. وهو يزقزق ويغرد بتلك الألحان الجميلة التي يتحفنا بها كلما حملناه في أكف أيدينا وعلى أصابعنا .. لا أظن أنه يفكر في الفرار ولا يحب أن يطير بعيدا عن قفصه ، فهو طائر القفص ويعيش فيه ، راضيا بقسمة حياته التي هو عليها ، نطعمه ونسقيه وننظف قفصه ، ونهتم به ونتواصل معه . فيجازينا بأصواته العذبة وبشذوه الأخاذ .. وفي لحظات التماهي مع الطائر ومع حركاته ، أنزلت القفص أرضا وبدأت أنظر إلى إمكانية تنظيفه ، والطائر بجواره .. وفي غفلة مني إنقض عليه مينوش وقفز به إلى خارج الحديقة ، تبعته أركد وراءه بسرعة وأصيح : مينوش لا .. مينوش توقف ! إلا أنني لم ألحق به ، ولم أعثر عليه . كأنما تبخر في الطبيعة .. لا شيء ! جلت بعيناي في الشارع يمنة ويسرة وتحت بعض السيارات وانا أنادي علية .. لا شيء ! خطفه وهرب به بعيدا عني ليفترسه بتأن … رجعت إلى البهو فأخذت أتأمل القفص الفارغ .. وأنا أحس بصوتي يختنق وتتوقف الكلمات في منتصفه .. كلمات أردت أن أعبر بها عن الحادث وعن خيانة مينوش للعشرة وللطعام والملح .. كما نقول .. لم نلحظ فيه إهتماما بالطائر قبل هذه الليلة ، بل كان عادة ما
ينظر إليه ويشيح برأسه عنه إلى جهة أخرى .. لكنه غدر بنا وأخذه وهرب …! تذكرت تلك الصورة التي تقاسمناها على الفيسبوك و الواتساب .. تظهر قطا أبيضا يحمل قطعة كرتون كتب عليها : “لا تنسونا نحن القطط ضعوا لنا الطعام أمام أبواب منازلكم ” فقلت في نفسي نطعمكم فتغدروا بنا وتخونوا العشرة ..! تأثرت كثيرا جراء هذه الواقعة ، وتألمت لفراق الطائر الأبيض المغرد بهذه السرعة . وأنا أسترجع تلك الحركات التي كان يقوم بها على أرجوحته وهو يهز جناحيه مرحبا بي .. رأيته فجأة وسط سرب من أمثاله ، يحلقون عاليا في السماء وأصداء تغاريدهم تصلني كما لو أنهم في فضاء غرفتي .. يبتعد عنهم طائرنا كما لو أنه يتنافس معهم في سباق مثير ، فيتبعونه في تموجات وحركات إنسيابية في الهواء ، يرسمون بها ذلك القلب الذي نتقاسمه في صفحاتنا الفيسبوكية . فأعجبت به وبذكائه وقيادته لأقرانه ، وأنا أشير له بيدي فرحا به ، وهو ينظر إلي بعينيه الحمراوتين المشعتين ، ويهز جناحيه ليرد على اشارتي ، دون أن يبرح سربه …
ولأول مرة أستيقظ على سماع أذان الظهر …