اعجبني التمهيد الذي بدا به الموسيقار محمد عبد الوهاب رائعته هاته…حين كان الفن والغناء رسالة ..وحين كان الفنان الحقيقي ليس مجرد مغني ببغاء بل كان على دراية تامة بما يقول..كل كلمة ترن في الميزان الا واستنبط معناها واسشعر ابعادها …فكان غناء وابداعا….والا لما عاشت اغاني الفنانين الكبار الى هذا الزمن..فلا نمل من سماعها…
……………..الطلاسم………………
إيليا أبو ماضي وهو صاحب القصيدة.. شاعر عربي لبناني, يعتبر من أهم شعراء المهجر. نشأ أبو ماضي في عائلة بسيطة الحال وقضى طفولته في قريته, ثم سافر إلى الاسكندرية وبقي فيها عشر سنوات يساعد خاله في الأعمال التجارية ويتابع تعلمّه. اضطر للهجرة إلى الولايات المتحدة عام 1911م حيث استقر في سنسناتي وعمل فيها بالتجارة مع أخيه البكر مراد، ثم رحل إلى نيويورك واستقر فيها و شارك في تأسيس الرابطة القلمية في الولايات المتحدة. لم يعد إلى لبنان غير مرة واحدة إلا أنه قضى معظم حياته في المهجر وتوفي فيه.
يعتبر إيليا من الشعراء المهجريين الذين تفرغوا للأدب والصحافة، في الصحافة, عمل في “المجلة العربية” وفي جريدتي “الفتاة” و “مرآة الغرب”. وفي الأدب ترك مقالات عديدة في السياسة والوطنية. وبعض من مجموعاته الشعرية مثل : “تذكار الماضي” و “ديوان إيليا أبو ماضي” و”الجداول” وغيرها مما استمرت في النشر حتى بعد وفاة الشاعر عام 1957م.
“الطلاسم” (مفردها طلسم أي لغز) أو الأمور المبهمة. قصيدة طويلة ظهرت في ديوان “الجداول”, وهي تقع في واحد وسبعين مقطعاً, كتبت القصيدة بشكل عمودي لالتزامها بعمود الشعر. إنها قصيدة مفعمة بالحيوية والشك. تناول الشاعر في القصيدة عدة مواضيع مثل: شؤون الكون وخالقه, والإنسان ومصيره, فتطرق إلى البحر والدير والمقابر والقصور والأكواخ.. وكل قسم من هذه الأقسام يتكون من عدد من مقاطع تدور حول فكرة معينة أو مجموعة من الأفكار تتواتر وتتوالد لتنتهي إلى فكرة عامة وهي عدم اليقين فكرياً وفلسفياً. أما القصيدة بتفاصيلها ورؤاها فتمثل عدداً من الأسئلة الفلسفية حول الوجود وحول الحياة وكيف بدأت وإلى أين تسير وماذا ستكون النهاية ومن أين جاء البشر. وكان في كل بيت يفرغ عن حيرته وعجزه عن فهم سر الوجود. وقد طرح السؤال “لست أدري” عدة مرات في القصيدة.
الموضوع الأساسي هو (سر الوجود) الذي احتار فيه الفلاسفة والعلماء وكل البشر. وقد اشتملت القصيدة على تشكيكات حول العقائد الدينية..
أول ما يتبادر إلى الذهن هو عنوانها المثير ( الطلاسم) والذي يعني الأمور المبهمة أو اللغز كما ذكرت. يلي العنوان مقدمة القصيدة, القسم الأول (لا أعلم) وتتكون من خمسة مقاطع تدور حول عدم معرفة الشاعر من أين جاء إلى هذه الحياة, إلا أنه جاء على أية حال, وأن ليس لديه حرية الاختيار وسيبقى سائراً إن أراد هذا أم لم يرد, ولكن كيف حدث ذلك.. لا يعلم!
بينما يتساءل المقطع الثاني من مقدمة القصيدة حول فكرة تناسق الأرواح ويسأل نفسه هل كان موجوداً في عالم آخر من قبل أم أتى إلى هذا العالم فقط. ويتسأل أيضاً حول التسيير والتخيير وهل هو الذي يتحكم في نفسه أم أن عناك من يتحكم فيه؟ وهكذا تتناسل الأسئلة من أحشاء بعضها بعضاً على هيئة تفكر حوار، يختم في آخر المقطع بإجابة: لستُ أدري. إذ الجواب غير معروف بالنسبة للشاعر.
في المقطع الثالث يتسأل الشاعر عن( طريقه) ومدى مسافته.. لا يعلم هل هو يصعد أم يهبط إلى قاع الأرض. هل الطريق هو الذي يسير أم هو الشاعر نفسه يسير. هل هو والطريق يسيران أم يقفان والزمن هو الذي يمضي.. لا يعلم!
ثم تستمر القصيدة في القسم الثاني وهو بعنوان (البحر) في إعطاء احتمال إجابة، و هل ما قاله الآخرين كلها ادعاءات كاذبة وافتراءات؟ وهنا ضحكت الأمواج منه قائلة: لست أدري.. ثم في المقطع الخامس يقارن الشاعر حاله بحال البحر ويتحدث إليه ويقول له بأن كلاهما أسراء, لا يستطيعان أن يتحكمان في أمرهما. فحال الشاعر مثل حال البحر قوي جبار ولكنه ليس بيده الحيلة ليملك أمره. فالبحر يتمرد بأمواجه الهائجة على الطبيعة والشاعر يتمرد على حاله.. فمتى ينجوان سوياً من هذا الأسر والحزن؟ لا يدري..
ويأخذ المقطع الذي يليه(السحب والآفاق) في تصوير العلاقة بين السحب والبحر والشجر والثمر والمطر وعن علاقة البحر بما فيه من در وما يدور في أحشائه وجميعهم يجهلون ويقولون : لست أدري..
بالنسبة للقسم الثالث من الطلاسم الذي يحمل عنوان (في الدير) فيحكي الشاعر بأنه دخل الدير/ وهو مكان فيه قوم أدركوا سر الحياة. فإذا القوم من الحيرة مثله مدهوشون ومحتارون, غلبهم اليأس واستسلموا. ويتكرر السؤال “لست أدري” مرة أخرى مكتوب بالباب.
في المقطع الذي يليه وهو بعنوان (القبر) يتسأل الشاعر عن قيامة الموتى , هل هو رقاد طويل يلحقه صحو طويل ؟ هل ما قاله الناس صدق أم كذب لماذا لا يعرف أحدنا ساعة الرحيل؟ هل وراء ذلك حكمة ؟ لا يدري.
آخر مقطع من القصيدة وهو (صراع وعراك) فلسان الشاعر يقول: جئت إلى هذا الكون وسأمضي منه وأنا لا أعلم كيف ومتى جئت, فأنا بمجيئي إليه وذهابي منه لغز “طلسم”. والذي وجد هذا اللعز فهو أيضا لغز مجهول. لا تجادل العاقل, من قال أني لست أدري..فهنا نرى أن الشاعر يعلم شيء مهم جداً عن هذه الحياة وهو أن الحياة عبارة عن طلسم. استخدم الشاعر في القصيدة بعض من المحسنات البديعية لإظهار مشاعره وعواطفه , وللتأثير في النفس. فلم يستخدم الكثير منها ولم يبالغ مما أدى إلى إنتاج قصيدة ذو معنى و تعبير رائع. “أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسيرأم كلانا واقف والدهر يجري؟..”
فقد ذكر الشاعر أن الدرب”الطريق” يسير أي : يمشي ولكن الدرب لا يسير فالإنسان هو الذي يسير .. والدهر”الزمن” لا يجري إنما يمضي. فهنا نرى أن الشاعر يعطي صفات الإنسان للدرب والدهر.
“قد سألت البحر ….
ضحكت أمواجه مني وقالت:
لست أدري
في هذا المقطع أيضاً يصف أمواج البحر بأنها ضحكت.. ولكن أمواج البحر لا تضحك بل الإنسان يضحك.
“أنت يا بحر مثلي أيها الجبار لا تملك أمرك”
يشبه الشاعر نفسه بالبحر.. فصفة الجبار تعطى فقط لله عز وجل أي القوة والجبروت.
“قد سألت السحب في الآفاق هل تذكر رملك
وسألت الشجر المورق هل يعرف فضلك
وسألت الدر في الأعناق هل تذكر أصلك؟
وكأني خلتها قالت جميعاً .. لست أدري”
يسأل الشاعر الطبيعة ويتحدث معها وكأنها بشر. السحب< تذكر- الدر< تذكر. وأيضاً (قالت جميعاً) فالطبيعة لا تقول.
وأخيراً, أعجبتني قصيدة الطلاسم لما فيها من الاتصال والشغف بالطبيعة. وقد أثر أسلوب الشاعر بمصطلحاته واستخدامه المحسنات البديعية على القصيدة بجعلها أجمل وأقوى في المعنى. أكثر ما جذبني للقصيدة هو عنوانها, فقد كنت أملك فضولاً لقرائتها فقط لأعرف لماذا كتب العنوان “الطلاسم”.
منقول.