مابعد الابدية

 

قصة واقعية ..

فيما كنت أسير في الطريق المرصوف لحديقة مجاورة، تعثرت بعصا متدلية انزلقت من يد رجل طاعن في السن إلى منتصف الممر، كان يجلس على أحد الكراسي الخشبية وقد بدا ساهياً تماماً .
تمايلت يمنة وشمالاً .. ترنحت محاولا عدم الوقوع على الأرض، لأسقط بعد عدة التواءات في حجر هذا الرجل الذي صرخ مرعوباً وهو يتراجع فاتحاً ذراعيه في حركة ترحيب غير ملائمة فتحدرجنا سوية على الأرض.

هممت بلومه وأنا مستلقيا بطولي الكامل على الأرض شاتماً بصوت خفيض حظي العاثر، نافضاً عن ثيابي الغبار ومتفحصاً سحجة طويلة في منطقة الكوع تسببت بحرقة مزعجة .. غير مصدق أن وقوعي قد تم مباغتة وبهذه البساطة.
انشغلت بمناولته نظارته التي تدحرجت إلى حوض زهور محاد، وهممت بالانحناء لالتقاطها شاعراً بألم في الخاصرة، لألحظ ضفدعاً صغيراً رمادياً يقفز مبتعداً ليختفي بين شتلات الورود القصيرة .
أما الرجل العجوز فقد كان بتلمس الأرض منادياً بما يشبه الاستنجاد .. نظارتي نظارتي .. وبعد أن ساعدته على الوقوف ناولته إياها .. وحين وضعها تأملني ملياً مردداً عبارات الاعتذار.
ساعدته في المكوث مجدداً على الكرسي، وسألته إن كان قد أصيب بأي مكروه لم يجبني وانشغل بتفحص جسده وأطرافه ثم أخرج منديلاً معطراً من حقيبته القماشية وأعطاني إياها طالباً مني تعقيم السحجة .. وقام بتنفيض الغبار العالق على سترته القطنية ..

طلبت منه الوقوف ومحاولة السير .. فسار معي عشرة أمتار .. سألني عن أسمي وعملي .. طالباً بأن نمضي معاً دورة كاملة في الحديقة متكئاً على كتفي، ولم أجد مفراً من الموافقة.
أشار إلى بناء مطل على الحديقة قال أنه يسكن هناك .. وعلمت أن زوجته قد توفيت منذ سنوات، وأن أولاده الثلاثة قد سافروا إلى بلاد بعيدة، وأنه يزور الحديقة لتمضية بعض الوقت مع صديق تخلف في ذاك اليوم لوعكة صحية أصابته.

وبعد أن أنهينا الدورة طلب الجلوس على ذات الكرسي حيث وقعنا سوية .
شعرت بتعاطف مع هذا الرجل فجلست بجانبه، لأنصت إلى حديث عجوز داهمه الملل لكنه ملك فيضاً من القصص والحكايا.
أجابني بأنه في العقد الثامن من العمر، وأنه تعرض لنوبة قلبية منذ شهرين وأنه فارق الحياة للحظات ومن ثم عادت روحه للالتقاء بجسده مباشرة، وعندما لاحظ ابتسامتي أخذت نبرته طبقة جدية .. ضغط على ساعدي بقوة وتابع رواية ما حدث بالتفصيل .. أن روحه قد طارت إلى مكان بعيد وأنها في الطريق إلى أعلى كانت تلتقي بأرواح أخرى تسلك طريقاً متوازياً، واستمر تحليقه حتى وصلت إلى شبكة عملاقة تمتد إلى ما لا نهاية، وتفصل المكان الفسيح اللا محدود إلى قسمين .. لاحظ تسلل الأرواح المرافقة بين ثقوب الشبكة العملاقة .. لكن الشبكة اهتزت بقوة لدى محاولة الانسياب منها مانعة إياه من الدخول وسمع صوتاً من الجهة المقابلة يطالبه بالعودة لأن حياته لم تنتهي بعد، شاعراً بقوة خفية تجذبه للجهة التي أنى منها .. ليجد نفسه بعد حين محلقاً حيث سقف غرفة العمليات يراقب الأطباء يعرضون جسده لضربات متتالية من الكهرباء. قال أن هذا كل ما يذكره.

أخبره الأطباء بعد ذلك أن قلبه قد توقف قرابة دقيقتين وأنهم بقوا يحاولون تحريضه على الحركة من جديد إلى أن عاد للنبض مجدداً.

بل قال أنه سمع أصواتهم يحثون بعضهم لمعاودة المحاولة .

ولما سألته إن كان قد شاهد شيئاً غريباً خلف تلك الشبكة التي حالت دون دخوله إلى الجهة المقابلة، وماذا يذكر في تلك اللحظة .. فقال لم أبصر سوى النور .. نور قوي فقط. وصوت يأمرني بالعودة .

سألته مازحاً إن كان الأمر باللغة العربية .. قال واثقاً بأن الأمر لم ينتقل عبر صوت عادي وأنه يجهل إن كان سمعه أو أنه فهمه بحاسة أخرى لا يعرفها .

سبق لي وأن اطلعت على قصص مشابهة لما مر بها منير تروي لتجارب أشخاص مختلفين تعرضوا لموت سريري دام دقائق معدودة، لكنها مع هذا الرجل كانت أكثر تفصيلاً .. سألته عدة أسئلة أخرى لكني لم أحصل على تفاصيل مهمة. ولما سالني ما تفسيري لذلك لم أنجح في إعطاء أي تبرير.

أمضيت برفقته ساعة كاملة أستمع فيها عن أخباره وتجاربه الصحية .. أولاده الذي هرعوا إليه طالبين منه الالتحاق بهم حيث هم في ديار الاغتراب .. وأن هناك سيدة مقيمة معه في البيت تعني بصحته وأنها ترافقه في بعض الأنشطة اليومية ضمن السوق .. قال أنه يعجز عن مغادرة الحي ويفضل الخروج من بيته في رحلته الأخيرة.
قلت له مازحاً:
لا أظن أنك ستدخل الشبكة مجدداً . سبق وأن حظر عليك الدخول إليها، إنه أمر من فوق .. قلت ذلك وأنا اشير إلى أعلى .
تحدثنا بعدها عن القناعات الدينية وشكل الفردوس والجحيم، ليقول أنه بات أكيداً من أن أن ما شاهده يختلف عن قناعاته السابقة، وأن الأرواح كانت تصدر جلبة أثناء حركتها، لكنها كانت تنتقل بسرعة كبيرة ..
سألته هل تظن أنها الأبدية .. فأجاب أنها الأبدية .. بل زعم أن هناك ما بعد الأبدية .. قالها ساهياً ومن ثم حمل العصا وعدل من جلسته قبل أن يودعني متوجهاً إلى منزله .

وضعت سماعات الموسقى وخفضت الصوت إلى أدنى مستوى .. وأمضيت ساعة أخرى ماشياً أتأمل السماء والنجوم التي باتت تتلألأ متسائلاً هل شكلت شبكة عجز منير عن اجتيازها .. وتساءلت عن نوع الإدراك الذي تحلى به منير .. فبفرض وجود الروح، هل يمكن أن تتمتع بذات الحواس التي نعرفها، هل يمكن أن يكون هناك أكثر منها .. حواس نجهلها تماماً، فهو سمع صوتاً يأمره بمغادرة المكان والعودة من حيث أتى، وشاهد أطباءاً تزاحموا في غرفة العمليات منهمكين في إعادته للحياة .. إذا هناك حواس ما .. انتقلت بعدها للتفكير بما عناه بعبارة ما بعد الأبدية، هذه الكلمة التي تعني الاستمرار إلى ما لا نهاية ,, فهل هناك ما هو ابعد من تلك النقطة الزمنية المطلقة .

ثم غرقت في عدة تساؤلات .. هل كان منير صادقاً في روايته، أم أن ما حكاه لا يعدو مجرد تهيؤات وأحلام راودته بتأثير الألم أو الحمى أو حالة نفسية نتجت عن تهديد جدي لحياته.

طفقت أفكر في جميع الفرضيات التي آمن بها الانسان منذ بدايات وجوده، فرضيات وصلتنا عبر البرديات والتماثيل واللوحات والنقوش .. استعدت في ذهني جميع الأساطير التي قرأت عنها والتي تصور الحياة الآخرى .. وصلت إلى دانتي وملحمة الجحيم .
وقصة محاكمة الموتى التي شاهدتها مصورة على عدة لوحات في المعابد المصرية .. ونظريات هندية تقول بانعتاق الروح من الجسد، وسلوكها طريقاً في الفضاء عبر جسم غريب لتتحد من جديد مع جسد وليد .

عدت إلى البيت شاعراً برغبة في البحث مجدداً عن مصطلح ما بعد الأبدية وما عساه يكون !!

اتصلت بصديقتي إيفا وهي صيدلانية مهتمة بالروحانيات وتملك ثقافة طييبة، كانت قد أخبرتني قبل فترة عن تجربة مماثلة لسيدة في عائلتهم غادرت الحياة لتعود إليها مجدداً، وما أذكره من روايتها أنها قصدت مكاناً بعيداً لكنها لم تدخله لأن مدقق الأسماء هناك لم يجد أسمها موجوداً .. فعادت أدراجها إلى جسدها وهي ما تزال على قيد الحياة وأن عمرها اليوم خمسين سنة .

رد علي زوجها نبيل وهو صديق قديم وبعد تبادلنا للتحيات، أخبرته مازحاً بأنني لا أريد التحدث إليه، بل مع زوجته لأستشيرها في قضية الحياة ما بعد الموت، فضحك عالياً قائلاً في هذه الحالة سأعطيك إياها حالاً.

وفي بيتهم رويت لـ إبفا ما قاله منير فبدت منصته بكل حواسها، أما زوجها فلم يبد ذات الحماسة في إكمال القصة، فتركنا في غرفة الجلوس طالباً مني أن أناديه حالما ننتهي من نقاشاتنا.

سالت إيفا .. هل يمكن الاعتماد على أن الروح تملك بعض الحواس .. تستطيع السماع والمشاهدة، وفهم لغات أخرى ..

هل يمكن تصديق هذه الرواية إيفا ؟ أم أنها أقرب لهلوسة مريض ؟

وبعد أن أخذت نفساً عميقاً .. صبت فنجاناً مركزاً من القهوة يناسب الموضوع الذي أردنا النقاش فيه .

بادرتها بسؤال آخر :

– ما هو احتمال أن نعيش حياة أخرى غير التي نعيشها اليوم .. أغمضت عيني وتابعت جملتي مغلق العينين .. هل يمكن أن تجتمعين مرة أخرى مع نبيل ؟
فتحت عيني ثانية وقلت باسماً و بصوت خفيص لادراكي بأنه قادر على متابعة ما يدور من حديث:
– أو أن تجتمعي مع بطل تجربة عاطفية سابقة في حياة جديدة، وفي قصة حب أخرى هل يمكن أن تكونا زوجان . هل يمكن أن ترزقا بذات الأولاد ؟
ابتسمت لسؤالي ولأنها لم تملك إجابت طلبت مني أن أمضي في شرح فرضيتي .

وتركت لأفكاري بأن تعبر عن ذاتها في سباق محموم مع ما أنطق به .
– هل الحب قادر على اختراق الزمان .. هل يعتبر قدرة مستمرة تدخل في تكويننا كأحد مفردات هذا الكون ؟ هل للحب طاقة مستمرة تمهد الطريق لأن نعيش حيوات أخرى .

وسمعت منها ضحكة عذبة . وأشارت بيدي أن أمضي .
– الواقع أني افكر باحتمالات كثيرة .. سأقحمك في فرضيتي كي تبدو الصورة أوضح .. لنفرض أن تجربة الحب التي مررت بها في حياة سابقة وأنا لا أحصرها بشخص معين .. قد حملت الكثير من العطاء .. من التفاني والإخلاص، أنا أعتبرها هنا الدافع أو القوة التي تتمتعين بحياة أخرى . بمعنى أن الحب هو الطاقة التي جعلك تعيشين حياة جديدة .. لاحظي أنا لا أتحدث عن مكافأة من جهة ما أو أي نوع من الحساب، أحصرها بطاقة كونية .
قاطعتني قائلة :
– ألا تجد أن ذلك صعب عملياً .. كيف يمكن أن أنتقل إلى جسد آخر وبالتالي إلى مسرح زماني ومكاني مختلف .. إننا لا نخرج من مفهوم المكافأة الذي استثنيته بفرضيتك كنتاح لحب صادق .. ثم ماذا عن أؤلئك الذين شابت حياتهم خيانات وغاب الإخلاص فيما بينهم .. هل يحرمون من فرصة حياة أخرى ؟
صمتت إيفا قليلاً ثم تابعت:
– صحيح أنك لم تحصره بين زوجين، لكن لماذا تحصر الطاقة المنتجة للحياة الأخرى في الحب ولماذا الحب دوناً عن سواه ؟.
أخذت رشفة من فنجان القهوة وتأملت صورة جدارية أسعفتني بعض مفرداتها في اختيار الإجابة .. كانت لوحة لقارب يسبح في بحر هادئ يمضي باتجاه قرص الشمس البرتقالي الغاطس في الأفق تصور لحظة المغيب، ومن حوله كانت أسماك تتقافز مرافقة بعض تلك الأسماك بدت مبتسمة وأخرى واجمة .

قلت :
– الحب عاطفة سامية تقوم على العطاء، تستهلك جل طاقة المتحابين، تقوم على اتحاد بين قطبين، أؤمن بأن هذين القطبين يسبحان في الكون يبحثان عن بعضهما البعض دون إدراك منهما، وفي لحظة معينة يلتقيان ويقوم الاتحاد بينهما، وفي اتحادهما طاقة كونية .

سألتني وهي تضع فنجان قهوتها على الطاولة:
– أنت تركز على الطاقة الكونية، لأنك تختصر الانسان بمفردة كونية متناهية الصغر .. لا تؤمن بالروح وتعتبرها طاقة انطفأت مع توقف الدماغ عن العمل، في مثل هذه الحالة تبدو قصة صديقك منير اقرب للهلوسة، فرحلته التي رويتها قبل قليل لن تكون ذات معنى.
هززت برأسي وتابعت سرد نظريتي :
– إذا افترضنا أن الكون يقوم على الطاقة، فهو بدأ بانفجار كبير وتوسع ليشكل المجرات والنجوم والكواكب .. هذا احتاج لمليارات من السنين توسع ضمن مساحات واسعة جداً .. سأركز على الطاقة الموجودة بالإنسان .. من لحظة بداية تشكل خليته الأولى مروراً برحلة حياته وصولاً إلى حالة الفناء، ينشغل بمصارعة المرض و ملايين الجراثيم والفيروسات التي تعيش في جوفه، يحتاج الطاقة في حركته وفكره يستمدها من الأوكسجين الذي يتنفسه، ومن الغذاء الذي يتناوله .. في لحظة الموت فإنه يتحلل إلى عناصر تدخل في دورة حياة الأرض من جديد. قد تبدو فرضيتي غريبة حين نحاول الإجابة على سؤالين .. كم تستغرق هذه العناصر لتشكيل كائن جديد؟ والسؤال الآخر هل سيكون هذا الكائن بشكل إنسان أم كائن جديد غير بشري؟

عدلت إيفا من جلستها وقالت :
– أنت تفترض أن الانسان يقوم على الطاقة وأنه يفقد كل طاقته حين الوفاة، فمن أين ستقوم الطاقة من جديد حتى يعاود الحياة بعد ذلك.
وبعد لحظة تفكير أجبت :
– عندما يتحول الانسان إلى تراب، فهو يدخل من جديد في تشكيل العناصر المكونة للأرض، وهذه العناصر تعيد إنتاج كائنات حية من جديد، كما فعلت عند بداية تشكل الحياة على الأرض، فهذا الكوكب قادر على إنتاج الحياة انطلاقاً من العناصر التي يتضمنها شرط أن تتوفر الظروف المناسبة لهذا الانتاج، كجزء من دورة الحياة والتطور .. ولأكون دقيقاً أكثر، إن الحياة التي نشأت على الأرض اعتمدت على عناصر أدى اجتماعها إلى تشكل جميع الكائنات، سأركز معك على الطاقة الناتجة عن الحب .

ويبدو أن تفسيري لم يحل دون مقاطعتي بطرحها لسؤال منطقي :

– بهذه الفرضية يا صديقي من المحتمل أن الجسد المنحل في التراب قد ينتج كائناً جديداً قد يكون نباتاً أو حيواناً أيضاً.
ابتسمت قائلاً:
– بالضبط .. الحب يخرج منا طاقة قصوى وهي لا تختفي كلياً، البعض يسميها روح أما أنا فأفترضها عنصراً رئيسياً لصنع كائنات جديدة ستلتقي من جديد في حياة أخرى، حياة قد تنشأ بعد سنين طويلة، وبدقة أكثر .. افترضت أن الإخلاص في الحب هو التوهج الذي لا يفنى، ينتقل في القصص والحكايات كما في ذرات جسدنا .. طاقة نحتفظ بها بعد الفناء . عنصراً أساسياً لإعادة تشكل الحياة، وفي حال لم يعش الانسان حباً من هذا النوع فإنه لن يعاود إنتاج إنسان آخر .
أفترض أن هذه الطاقة تجذب المتحابين .. تتحين الفرصة لاتحادهما وربما تصنعها!

ضحكت إيفا وقالت :

– نظريتك غريبة جداً بشير، تذكرني بنوع جديد من التقمص، صحيح أن التقمص يقوم على الفضائل التي نقوم بها اثناء حياتنا، إلا انك هنا تحصرها بالحب وتعتبره الطاقة الأهم، ألا تعتبر تلك الفضائل طاقة ايضاً، ثم لماذا تقتصر على طاقة الحب فتفترض بقائها، لكنك بالمقابل تهمل طاقات أخرى يفترض أننا صرفناها في حياتنا، اين تذهب هل تختفي كلياً ؟

بدت لي إيفا محاورة من الطراز الرفيع وهو ما أعطى أفكاري جرعة من التحدي أحتاجها كي تتبلور أكثر فتبدو اقرب إلى قناعة تتولد في تلك اللحظة.
أخذت نفساً عميقاً وتابعت :
– الحب يجمع بين كائنين يصهرهما سوية ليشكلا في فترات التوهج جسداً واحداً، قد تنعتينه بأنه يقوم على نوع من أنواع الأنانية .. لكنه في المحصلة اتحاد بين طاقتين وعطائين، صحيح ان الحب الأسري .. التفاني لأجل الآخرين يحتاج منا إلى طاقة أيضاً، لكن لا شيء يماثل الحب العاطفي في إخراج الطاقة من ذاتنا، ويجعلنا في حالة الاتحاد بمن نحب. هذه الأحاسيس هي طاقة مركزة .. الحب أيضاً يحمل الكثير من الأشكال، بعضه يستمر والآخر يضمر ويختفي، لذلك اقتصرت في فرضيتي على الحب الدائم المتولد بين عاشقين نطلق عليهما مجازاً بالعاشقين الأزليين .. ستجدين أنه حب نادر قد لا نعيشه إلا مرة واحدة في حياتنا، الحياة الجديدة تعطينا الفرصة لأن نعيشه ثانية، مع ذات الشخص أو حتى مع شخص آخر وقادر على إنتاج الطاقة.

صمت للحظة ومن ثم ختمت :
– ليس بالضرورة أن نولد على ذات الجنس من جديد، المهم أن هذا النوع من الحب دافع كي نعيشه مرة أخرى .
في هذه اللحظة دخل علينا نبيل يحمل صينية حوت ثلاثة أكواب من العصير، قدم لي واحداً وتوازع مع إيفا الكوبين الآخرين .. وانشغلت إيفا بنقل فناجين القهوة إلى المطبخ.
سالني نبيل :
– لقد سمعت أطرافاً من حديثكما .. يخطر في بالي سؤال، هل تظن أن الحياة الأبدية ستكون خارج كوكب الأرض، ألا يحتمل أن تكون في كوكب آخر .. أو مجرة أخرى .. في مكان آخر من هذا الكون؟

شربت الرشفة الأولى من كوب عصير البرتقال مثنياً على طعمه وأجبت:
– أغلب الظن أنها تبقى هنا، صحيح أننا عناصر كونية في انتمائنا، لكننا ندخل في تركيبة كوكبنا هذا، نحن حزء منه منذ تمتع بكينونته الخاصة، خرجنا من رحمه لنتلائم مع الظروف التي أتاحها لنا .
قاطعني قائلاً :
– لكن الروح تسافر كما سردت في قصتك .. كما في الكثير من القصص الأخرى؟
أجبت :
– ليس لدي من تفسير سوى أنها تهيؤات .. قد أبدو لك نبيل مغرقاً في المادية، لكني أفسر الروح على أنها طاقة .

دخلت إيفا إلى الصالون من جديد وقالت وهي تجلس على ذات الكرسي :
– لنفرض أن الطاقة التي ينتجها الحب تبقى موجودة، وسأعيد معك افتراضك أنها تشكل أحد العناصر الضرورية لخلق حياة جديدة. كيف تقوم بذلك .. هل من عملية فيزيائية محددة؟
وضعت كوب العصير على طاولة صغيرة كانت بجانبي، وتابعت :

– نعم هو العنصر المحفز على أن نولد من جديد بصورة إنسان وأن نتمتع بفرصة أخرى لأن نعيشه مرة أخرى .
لم تدعني أكمل إجابتي فقالت مشككة :
– سأمضي معك .. إذا كان الهنود يسعون لحالة النيرفانا والسمو الكامل .. فما الفائدة من أن نعيش حيوات متعددة هل لكي نصل إلى الحب السامي أيضاً.
كان سؤالها يضيء على ناحية لم افكر بها لكني وجدت نفسي أجيب:
– لا تقوم فرضيتي على أنه محفز للقيام بالفضائل إيفا أو البحث عم حب سام، هذه الفرضية تفسر الطاقة التي تنتج عن الحب بطريقة فيزيائية .. على اعتبارها شرط من شروط إنتاج الحياة، أو أنها تشكل أحد الظروف التي تتيح لنا التشكل من جديد .. تحديداً على شكل إنسان .
صمت قليلاُ ومن ثم تابعت :
– ليس لدي أي إثبات علمي، أحاول تفسير ذلك منطقياً منطلقاً من فهم للتطور الكوني والخصوصية التي يتمتع بها البشر.

وبعد لحظة صمت سالتهما :
– هل تجدان في هذه الفرضية شيئاً من الواقعية ؟

هز نبيل رأسه وقال :
– هي كباقي النظريات لا شيء يؤكدها، ولا شيء ينفيها.

أما إيفا فقالت معقبة :
– أجدها تحمل حافزاً لقيام حب صادق، يحتاجها بعض البشر لتشكيل قناعة أنهم لن يفنون تماماً .. كحاجة أزلية أنتجت كل الديانات التي عرفناها.. تعطينا الأمل أن هناك حياة أخرى ستمكنهم من الإحساس بحب جديد .. لكنك لم تخرج عن المألوف بشير .. كل ما في الأمر أنك قدمت شكلاً جديداً لحاجة بشرية إلى الخلود، ويبقى هناك نقطة جوهرية وغامضة .. هل سنبقى على إنتاج أنفسنا إلى ما لا نهاية ؟ ماذا لو تعرض هذا الحب لخيانة؟ إلى موت أحد الطرفين .. إلى تعثر لسبب ما !! فالإنسان يميل إلى الحب الصادق، لكنه يعجز كثيراً في إيجاد الشريك المناسب لإنتاج هذه الطاقة التي تحدثت عنها .. أجد أن فرضيتك معقولة لكنها ما زالت تحوي ثغرات كثيرة .. ولكونك لم تتطرق للسماء والمعجزات فلن تخاطب سوى العشاق .

سألني نبيل :
– هل تفكر في إنشاء عقيدة جديدة ؟
فأجبت نافياً :
– لا لا إنها مجرد أفكار لن تأخذنا إلى قناعات ثابتة، لكن يمكن فهمها بالمنطق .. الحب طاقة لا تفنى .. تضاف إلى طاقات كثيرة وتشكل ظرفاً لاعادة إنتاج حياة جديدة .. لا أطمح بأكثر من الوصول إلى إجابات والخروج من الصندوق الذي أوجدنا به أنفسنا حين تفكيرنا بالموت وإمكانية وجود حياة أخرى انطلاقاً من نظرية كونية ومن أقدم المعتقدات البشرية .

خرجت من بيتهما ماشياً ورأسي مزدحم بعشرات الأسئلة ..

إذا كان الحب أسمى ما يجمع كائنين ببعضهما، والجنس هو تتويج لهذا الحب .. فهل يعتبر البرود الذي ينشأ بين المتحابين نهاية لتلك الطاقة .. وهل من طريقة لبقاء هذا الطقس الرئيسي متوهجاً.
طافت أفكاري تلتقط قراءات كثيرة عن عقائداً قديمة أدخلت الجنس في طقوسها كعنصر سام، تذكرت عشتار التي اعتبرت إله الحب الأنثوي المرتبط بكل أنواع العطاء .. الحب قبل أن يناله الدنس بتصويره على أنه غريزة حيوانية .

وصلت إلى البيت شاعراً بالسعادة .. فالحب هو أجمل المشاعر الإنسانية ولد وعاش مع الانسان منذ بداياته وكان جوهرياً في الديانات القديمة .. هو بلا شك يستحق لأن يكون الحافز الأهم لإنتاج إنسان راق ومتفان، وإذا كانت الحياة تقوم على الصدف .. لكن الطاقة التي ينتجها الحب تجعل من حدوثه محتماً، فلماذا لا يكون بما يحويه من عطاء هو جوهر الحياة ؟
أسئلة أخرى قفزت إلى رأسي كما يفعل لاعبوا السيرك ..
إذا كان الحب عاطفة إنسانية .. وهو أحد عناصر استمرار السلالة البشرية، ما احتمالات أن نجتمع مع من أحببناهم في حياة أخرى .. أي منهم سنصادف ؟
ما هي الأبدية .. وما هو شكلها الكوني ؟
أي دور للحاجة في تكوين القناعات ؟
وكم نتشابه مع القدماء الذين أخذو معهم ما يحبون إلى الحياة الأخرى ؟
وكم نحتاج للرومانسية في حياتنا ؟

ألم يقل جلال الدين الرومي
الناس موتى أما أهل الحب فأحياء .

تم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top