مجازات الصَّقْر

ازدراء الشِّعْر ازدراء للوُجود
بيانٌ في ما نُكِيله للشِّعْر من خِصَال تَنُوء بصَلَفِها
«الوَاقِفُ لَا يَعْرِفُ المَجَازَ» [النِّفَرِيّ]
‫اكْتُبْ «كَمَا لَوْ أنَّ اللهَ يَرَاكَ»‬ [ألِكْسَنْدَر بْلُوك]‬
‫[I]‬
لا يكون الشِّعر بنفس وتيرة الحياة، هو أكبر بكثير، لأنه بوتيرة الوجود كاملاً. ازدراؤه، هو رغبة في خوض العدم، دون معرفة بما في العدم من وجود. أن تكون شاعراً، يعني أن تعرف كيف الصَّقْرُ من أعلى قِمَم السَّحاب يَتعقَّب الظل، لا يرغب في أن تخرج الشمس، فجأة، من ريشه، مثل طَيْفِ ألوان لا أحد يكثرت بضوئها، أو هي الأرقام نفسها تتوالى، دون أن يكون رقم قبل الآخر، أو تالٍ عليه. بنفس وتيرة الغيم، يظل الصقر ينظر بصبر لِيَنْقَضَّ على الظِّلِّ، يُرْدِيه، ويكتفي من السَّماء بزرقتها اللازوردية التي تميل إلى السَّواد. الشَّاعِر، في هذا الفراغ، يختبر هاوِيتَه، يحفر فيها بإصرار لتصير أعمق مما يتصوره حفار قبور الفراعنة: لا أحد يحيا. لا أحدث يموت. الشَّاعِر، فقط، من داسَ الحياةَ بنعليه، اكتفى بالوجود الذي هو صِنْوُ الأَبَدِ.
‫[II]‬‬
نَزْدَرِي الشِّعْر، لأننا لا نعرف كيف الصُّقُور تَخْتَبِرُ سِرَّ الأعالي فِي كتابة سِيرَتِها. الشمس واللون، والظلال، والأرقام تِلْوَ بعضها، دون أوَّل أو تالٍ. اللُّوغارِيتْماتُ، والأشكال الهندسية المليئة بالألغاز، الفواصل والنقط، والحذف والإخفاء، كلها تتراءى في نفس المرآة، كأنها هِبَة إلهٍ، لم يقتنع باقتفاء الوَحْي، وحَوَّلَه إلى خيال، هو نفسه الظل الذي تتعقبه الصُّقور في مجازاتِها.
‫[III]‬‬
من يقرأ الشِّعْر، بمعنًى آخر، أو يكتبه، بغير هذا المعنى، أو حتَّى بدون معنى، سيكون، حتماً، خرج عن فطرة الصُّقورِ المُحَلِّقَة في الهاوية، لأن لُغَةَ الشَّاعِر، هي فُتورٌ، منه خرجت كل الآلهة تكتفي بنبيذها حتى لا ترى الوجودَ في يد الشَّاعِر نجمةً، من يَتَعَقَّبُها يأكله البياض، بل يشعر بما في الفراغ من رُعْبٍ ورَهْبَةٍ، بل من نَشْوَةٍ، هي النَّشْوَة ذاتها التي بها خلق الله الكونَ، قبل أن يصبح وحده الخالق، وينعم على الشَّاعِر، بنفس نِعَمِ الصَّقْر السَّابِح في مجازاته، يرى كل شيء، ولا أحد يراه، ما لم يَنْقَضَّ على الظِّلّ يُرْدِيه بِمخالِبِه التي هي نفسها مَخَالِبِ العَدَم.
‫[IV]‬‬
ليس من الشِّعْر جاء الخَلَلُ، بل من الذين اكْتَفَوْا بالنَّظَر إلى اللغة باعتبارها حِكايةً، ونَسَوْا، أو غاب عنهم أن الحكاية نفسَها، هي ابتداع شِعْرِيٌّ، وأن الشَّاعِرَ حين ابْتَدعَ المجازَ، كان يعرف أنه سَيَخْسِرُ الوضوح، وكان، برغبته، وبِقَصْدٍ منه، لا يُرِيدُ أن يكون ما يراه وما يكتبه، في متناول الجميع، مثل «كلام الله»، فهو عقيدة تبعث على الخوف والبكاء، وطلب الرحمة، والحُلُم بمكانٍ في نعيمِ ما بعد الحياة، لكن، لا أحد استطاع أن يعرف لماذا نحن هنا وعلينا أن نعود هناك، ما الذي سنفعله في مكان نجْهَلُه، ومن سيكون مِنَّا بنفس المعنى الذي به وُجِد قبل الغياب، هل سيحِقُّ لنا أن نُصافِحَ بعضنا ثانية، ونتبادَل الرَّسَائل، ونميمة الأرض، وما أشعلناه فيها من حُرُوب وضَغائِن وأمراض!؟
‫[V]‬‬
الشِّعْر، غيَّر ألوانَه وأرقامَه، غيَّر لغته، دخل في حوَارٍ مع «كلام الله»، الفرق أن الشَّاعِرَ تعلَّم الكتابةَ، والله لم يكتب. أوْحَى فَقَط، وهو صامِتٌ، لأنَّ «البقيَّة صَمْتٌ»، كما يقول هاملت.
أليس الشَّاعر، إذن، له شيء آخر لم يُوجَد قَبْلَه، هو ما خرج من الكهوف العميقة التي ما تزال الأصوات فيها بَلَوْنِ السَّدِيم، تتنادى، لم تَخْبُ، بل إنها، كلما اقْتَرَبْنَا من كهف، أو نزلنا ظلمتَه، وجدنا شاعِراً يتعقَّبُنا، لِيَدُلَّنا على الهاوية، يُمْسِك بأصابعنا لِتَتَلمَّس آثار العابرين من أسلافنا الأوائل، ممن حَفَرُوا في الصَّخْر أسماءَنا، وهم على دِرَايَة بمن نكون: شُعَراء آتين من البياض والسواد، من اللغة، ومن سيميائها، من الرسم والإشارة، ومن الأرقام والألوان، من الحواشي والإحالات، من هذا الفراغ العظيم في خيالاتنا التي ما فتئنا نملأها بفراغ الأمكنة، بالشُّقُوق والتَّصَدُّعات، لأن من اكتفوا بالمَلْءِ، كانوا مُخالِفِين لـ «شريعة» الشِّعْر، التي هي شريعة شَاعِر رأى أن الشِّعْر بحر لا يستقر على ماء، موجة يشربها الزَّبَدُ، وأخرى تَتْلُوها بما في مِلْحِها من بَرَدٍ، لتسقط في حَتْفٍ، هو بداية الموجةِ لا نهايتها، هو أوْجُها، من الرَّمادِ تأتي نغماتها، وهي خيال تَتشرَّبُه الرِّمال، لِيَنْبَعِثَ من رُسُوبِ ماءٍ، ظلامُه هو بداية الضوء والنَّهار.
‫[VI]‬‬
لا تَنْتَظِرُوا من الشِّعر أن يموت، أو ينتهي وتَتوقَّف أنفاسُه. فهو ليس بضاعة، إنه قِطَعُ البِلَّوْر التي لا نعرف قيمتها ما لم تنعكس عليها الشمس، آنذاك، نشرع في إدراك، كم هي المرايا ماكِرةٌ، لأنها لا تُخْبِرُنا بما فينا، ومن نكون، بل بما لم نَعُدْ نراه في أنفسنا، تكشف غموضنا، بقدر ما نتوهَّمُه من وضوح. الشِّعْر، فادح، بقدر ما في الموت من عظمةٍ وجلال، وبقدر ما تَنْتَحِيه الشمس من ظلال، هي ما نُخْفِي فيه رؤوسَنا حتَّى لا نَسْتَشِفَّ ما في الشمس من احتراق. مثل النَّعامَة، نُخْفِي رؤوسَنا في غير الشِّعْر، لِنُهاجِمَ الشِّعر بالقُصور، فيما الشِّعْر، ليس ما كان، ولا ما هو مُتَاح، الشِّعْر، في وضع الغُموض هذا، هو ما لا نَقْدِرُ على قراءته، أو تَعَلُّم أبْجَدِياتِه الجديدة التي هي غير ما تَكلَّم بها أسلافنا من الماضين.
إذا ما اقتنعْتَ أن الشِّعْر هو ما قَرَأْتَه عند الماضين، فابْقَ في زمن الماضين ولُغَتِهم، لا تدَّعِي الحداثة والتجديد. فأنت لا تُضِيف، أنت اسْتَغْرقَك ماضٍ، لا أنت عَرَفْتَ لغتَه، ولا اقْتَنَعْتَ أنها هي اللغة التي بها سَتَكْتُبُ سُرودَه التي باتت تُشْبِه بئراً، ماؤها غاضَ، وما بَقِيَ فيها هو صوت الماء، تَظُنُّ الصَّوْتَ الماءَ، لأنك اكْتَفَيْتَ بالسَّماعِ، ولم تَتَعَقَّب الماءَ في ظلمة البئر نفسها، في ما شابَها من ظلْمَةٍ وغَسَقٍ.
‫[VII]‬‬
الشِّعْر، ليس هو النَّاشِر أو تاجِرُ الكُتُب، ولا هو المدرسة والجامعة، ولا هو الإعلام، ولا هو الماضي عارِياً من مستقبله، الشِّعْر، هو الشَّاعر نفسه، الذَّات الشَّاعِرَة التي تكتب، تمحو وتُخفي، لا لِتُظْهِرَ، بل لتجعل النَّعْلَ نفسه، هو وسيلة التَّخَفِّي، لما في وَقْعِهِ من أثر لا يدلُّ على عابِرٍ. قَدَرُ الشِّعْر، منذ وُجِدَ، أن يكون يتيماً، له من يقرؤه، وله من يكتبه، وله من يُذِيعُه في الناس دون إسقاطه في شَرَكِ بُورْصَات القيم الثقافية التي بات الناشر فيها، وهو أكبر جاهل بالشِّعْر، يدَّعِي أن الشِّعْر بِضاعةً لا تسلك في الحَلْق، وحبَّذَا لو كان يشبه النبيذ في وَقْعِه على النفس، يُجافيها لتسقط في براتينه.
النَّاشِرُ حين يفكر بهذا المعنى، فهو يكون أوَّل من ازْدَرَى الشِّعْر، ومعه من حوَّلُوا الشِّعْر إلى ثروة تُكْتَسَب بالتَّسابُق، أو بالإطراء والمديح، شريطة أن يكون الشِّعْر هو «القصيدة»، هو ماضٍ علينا جَلْبُه من أعماق صحارينا التي عَلَتِ الأبراج والعمائِرُ الزُّجاجيةُ فوق رمالها، وصارت المدن، هي صحارى أخرى من زجاج، ومن صناديق من رُخامٍ، هي قبور تنقصها طقوس الدَّفْن، أو هي كامِنَةٌ فيها، لما فيها من عقول وخيالات، لم تكتشف ما كان الشِّعر يَقْتَفِيه من ظلال، وهو كامن في أعاليه، يترقَّب أنِينَنَا نحن، هذه المرة، هذا الذي توهَّمْنا أنه الفرح والنَّشْوَة، ونسينا أن النشوة هي مجازُ الصَّقْر، بل هي بداية الشِّعْر.
‫[VIII]‬‬
مَنْ مِنَّا أدْرَكَ ما فِي النَّشْوَة من سُمُوٍّ وانْسِيابٍ. الصَّقْر وحده، وهو يُطْلِقُ رِيشَهُ في الغياب، خَبِر المعنى الكامن في الشِّعْر الذي لم يعد يعبأ بالحياة، بل اختار الإقامة في الوجود، بل الإقامة في الأبد، في سراديب الأسلاف الشُّعراء الذين تركوا رسائلهم في الكهوف لنقرأها بإمعان المُتَبَصِّر بَشَرَكِ الرُّمُوز الإشاراتِ، رغم ما فيها من كثافة وغموض وإبْهامٍ. لا نحتاج إلى مصابيح أو فوانيس وشموع، لنقرأ ما كُتِبَ على الجدران، يكفي أن نكون واحداً ممن تَعقَّبَهُم الأسلاف البادِئونَ، لنقرأ ما حَفَرُوهُ من رسوم وخطوط وأجسام لبشر وحيوانات، هي ليست بنفس ما نرى به الإنسان والحيوان، في عُرْفِ الحياة التي نحن فيها، بل بما كان في الحَفْرِ ذاته من مجاز واستعارة. هؤلاء الأسلاف، هم من وَشْوَشُوا لأرسطو أنَّ الاستعارة لا نتعلَّمُها، بل نَخْلُقها ونبتكرها، نَأْتِي بها من العَدَمِ. أمَّا حين تصبح الاستعارة استعادة، فهي تموتُ، وتختفي في التراب، لا تصير زهرةً، بل تنزل إلى أسفل الظلمة، حيث تصير طَفْرَةَ طين يشربُها الغَسَق.
‫[IX]‬‬
الشِّعْرُ، اليومَ، هو غير الشِّعْر الذي تعمل الدُّوَل والمؤسسات ووسائل الإعلام ودور النشر على ترويجه، ولا وسائل التواصُل الاجتماعي، والوسائط الحديثة للتواصُل. كل هؤلاء استفحلت في خيالاتهم مَجازاتٌ هي نفسها التي يَتغنَّى بها العُمْيانُ، متى رَغِبُوا في مديح الظلمة، لأنهم، ببساطة، لا يحبون الشمس، فهي في عُرْفِهِم حرارة، وليست ضوءاً. الشمس، في بعض مثالبها، تُضْفِي على القَزَم ما يفوق طوله من ظِلٍّ، كَمْ من الشُّموس عَلَتْ أبداناً، هي في حقيقتها، لا تفتأ تَخْذَلُنا، كلما اقتربنا منها، ونحن ندوس ما انعكس على التُّرْبَة من ظل، هو ظلها الذي ليس بحجم خَطْوِها.
‫[X]‬‬
مَنْ، إذن، يزدري الشِّعْر، يَسْتَغْبِي الشُّعَراء، يَظنُّنا ما نزال غير مُدْرِكِين لما انْتَشَر في روما من دخان ورماد. هؤلاء، هم أنفسهم من لم يدركوا أنَّ الشِّعْر، هو الزهرة التي تنهض من رمادها، وأن الصَّقْرَ المُحَلِّقَ في الهاوية، هو نفسه الصَّقْر الذي يقيس نَبْضَ الوجود، بما في العدم من وجود.
الشِّعْر الذي يتعقَّب عاهَاتِنا وهزائِمَنا، يَزْدَرِينا، في ما نظن أنَّنا نَزْدَرِيهِ، الشِّعْر وهو يَلْتَبِسُ بكل الأجناس والأنواع، بكل اللغات والثقافات، بالماضي والحاضر والمستقبل، بالمَجرَّاتِ والأكْوانِ كلِّها، دون حَذَرٍ، ولا ارْتِيابٍ. الشِّعْر الذي لا يتنكَّر لإخفاقاته، بل هو نفسه يفضحها، ويأخذنا إلى الملحميّ والمأساويّ في وجودنا، إلى ما يَتَصَادَى في وجودنا من أصوات وحروف وكلمات، من بياض وسواد، ومن علامات ورموز وظلال. الشِّعْر الذي يضحك عندما نبكي، ويبكي عندما نضحك، الشِّعْر الذي عَلَّمْنا السِّحْرَ، ولم يكن النهر عنده فكرةً، بل جرَّةً منها طفح الماء يغسل سبخ الوجود. الشِّعْر الذي ازْدرَاهُ الدِّين، وبَقِيَ حيّاً، لأنه لم يبتكر صلوات لمن يكتبونه. كُلّ من حوَّل الشِّعْر إلى شرائع وقوانين وصلوات، غرق في مائه، لأن السِّباحَة في الدين، هي طقس يتكرر منذ قرون، ولا يجوز لأي كان أن يَسْتَبْدِلَه بغيره. في الشِّعْر، الشَّاعِر، هو النبي، وهو العرَّافُ، وهو الحادِي الذي يقود النَّجْمَةَ إلى ضَوْئِها، هو من يكتب رسالتَه، خيالاتُه تكفيه لِيُبْحِر بالسُّفُن نحو إيثاكا، ولِيُحَرِّر السَّهْمَ من الوَتَر. حتَّى الريح تبقى واقفةً في مُفْتَرَقِ الغيم، ما لم يُفْرِد الصَّقْر ريشه في مجازاته، وما لم يحفر مَهاوِيَ في هاويته. هو هذا الشَّاعِر. لا رسالةَ لَهُ، فالقوارير التي يرميها في البحر فارغة، ما فيها من هواء هو رسالة الشَّاعِر إلى البشرية، لأنَّ الهواء، هو نفسه الأنفاس التي نحملها بين جوانحنا، هو الإيقاع اليوميّ، الذي حتَّى حين ننام لا يَكُفُّ عن الخفقان والرقص والغناء، يُذَكِّرُنا بوجودنا، ويخبرنا بإيقاعات الطبيعة، بما في النهر من أصوات، وكذلك الشجر. لا يطلب الشَّاعِر أن يخرج من غَرَقِه، فهو في غَرَقِه يتعلَّم المجاز، في هاوية المجاز ذاته، هو نفسه الصَّقْر، وهو يتعقَّب الظِّلَّ.
أليس جوهر الظِّلّ عناصر في الطبيعة الْتَبَسَتْ ببعضها لِتَرْسُمَ هذا الأثرَ العابر، الذي بدونه لم تكن السُّفُن تُطْلِق أشرعتَها في الماء. الشراع لا يحمي البحَّارَة من الرِّيح، بل من انْطِواءِ الصَّقْر في ريشه، حيث لا يعود يرى الظِّلَّ، بل يحجبه، يُوارِيه، يطويه، يُعَتِّمُه، يُكِنُّه، ويترك الخليقة تحترق في عالم بلا ظِلّ، بل بلا شِعْرٍ، وهذا أوْجُ الغَرَقِ.
‫[XI]‬‬
الشِّعْر موجود في الحَكْيِ، في المسرح، في الرَّسْم والنحث، في السينما، في الرقص والمعمار، في المُدُن حين ترقى بالجمال، وتضعه ملء العين واليد واللسان، حين الألوان والظلال والأحجام تتنادَى، يتآخى فيها الأبديُّ بالفاني. الشِّعْر من هنا ينبثق، يَتَفَتَّقُ، ويُرْهِف بَصَرَنا، كما يغسل زُرْقَة السَّمَاء بزرقة البَحْرِ، يَمْنَحُنا الحقَّ في الرُّؤْيا، وفي التَّعْبير، في ابتكار مجازاتنا، في أن تكون لغتنا هي نحن، لا لغة نقترضها من الماضين، قد نلتقي بهم، لكننا، في اللحظة ذاتها، ننفصل عنهم، نتركهم خلفنا، إذا ما كانوا عاجزين على السير بنفس وتيرة مَشْيِنا، أو نُجاوِرُهم، في المشي، إذا ما كان لهم خطو لا يشبه خطونا، يُضاهِيهِ، ويُغْرِينا أنّ نَرْفَع من وتيرة رقصنا، وما في نفوسنا من شَجْوٍ وغناء.
‫[XII]‬‬
لا وُجُودَ لِكِتابٍ قَرَأَه الناس بِشَغَفٍ، لغتُه خَلَتْ مِنَ الشِّعْر، مِنْ نَفَس الشِّعْر، مِنْ خُدوشِه التي دلَّتْ، بلا تَعالٍ، على غموضه الشَّفَّافِ الذي يُشْبِهُ الشَّمْسَ حين نَنْظُر في ضَوْئِها، نورُها، في عيونِنا يَصِير ظُلْمَةً وسدِيماً، و ما اكْتَنَفَ لغتَه من لغاتٍ، اخْتَرقَها ليكون النصّ، لا الخِطاب، هو ما به تكون الكِتابةُ نسيجاً وحِياكةً، مثل أصابع إرَاتْشَنْ الأسطورية، التي بها كانت تَحُوك أثوابها الفائِقَة، التي كم تمنَّت الآلهة أنْ تَتَدثَّر بها، كلما باغتَتْها ريح، حفيفُها خرج من المَطْهَر.
الشِّعْر قَدَرٌ، بل هو نفسه الماء الذي منه كل شيء كان حَيّاً، «ذَابَتْ أجْزَاؤُهُ .. صَارَتْ ماءً». الأيُّونيون قبل سقراط، منهم من رأى الوُجودَ ماءً، وعينُه كانت على الشِّعْر، لأنه لم يقل هذا بلغة الأرقام، كما فعل فيتاغور، رغم إدْراكِه المُبَكِّر أنَّ العالَمَ يُغَنِّي، أو بالهندسة، كما عند أوقليدس، بل كتبه بلغة الشِّعْر، بل إنَّ الأصل في التَّفَلْسُف نفسِه، كان شِعْراً. لنتأمَّل بَعْضَ ما كَتَبَهُ هِيراقْلِيط، الذي رأى «الزَّمَانَ طِفْلاً يَلْهُو بالهَواءِ».
‫[XIII]‬‬
من يَعْتَدِي على الشِّعْر يَزْدَرِيهِ، فإنما يَعْتَدِي على كُلِّ الناس، يَزْدَرِي بَشَرِيَّتَهُم، وما أسَّسُوا عليه وجودَهُم على الأرض، لأن الشِّعْرَ، كان أول تعبير بشري افتتح به الإنسان مَجازاتِه، واجَهَ به العَدَم، حينما رأى أن النَّفْسَ العظيمةَ، تسقط في التُّراب، مثلها مثل النفس الدَّنِيئَة. هنا حدث الشَّرْخُ، وشَرَعَ الشِّعْرُ في تفكير العدم بلغة الوجود. الشِّعْر كان أوَّل صَرْخَةٍ في وَجْهِ الآلهة التي أطلقت الطُّوفَانَ، حتَّى لا يكون طوفاناً غَيْرَهُ، لأن الإنسان اكْتَشَف الكتابة، بعد أن حَلَّ أسْرار رُمُوز المغاراتِ والكُهُوفِ السَّحِيقَة، وهذه أعظم ثورة بها اعْتَدَى الإنسان على جبروتِ الآلهة، وانْتَزَعَ منها صَلَفَها، ليكون صَلَف الإنسان، هو صَلَف كائِنٍ، حتَّى وهو يموتُ، يَتَشَبَّثُ بالحياة، بما في الحياة من طَعْمِ الوجود الذي هو الأبد، حين يكون وجوداً بالشِّعْر، لا بغيره.
‫[XIV]‬‬
مجازاتُ الصَّقْر، هي رُؤْيا، بل هِيَ بتعبير فان غوغ «زُرْقَةٌ فاتِحَةٌ صَقِيلَةٌ وبِلا غُيُوم». الزُّرْقَةُ التي منها تَخْرُجُ كُلُّ الألوان والأصْواتِ والطُّعُوم، تتآخَى بلا فَرْقٍ في المسافة، بَعْضُها يُمْسِك بتلابِيبِ بعضٍ، لا واحِدَ منها هو الآخَر، وهي جميعُها واحِدٌ. مُفارقَةُ الرُّؤْيا في الشِّعْر، في الزُّرْقَة التي منها يخرج النَّهار والليلُ، ومنها اللُّغَةُ تَنْهَض بأعْبَاءِ اللِّسانِ، بل بأعباء العقل والخيال، تَسْتَمْرِئُهُما في صُورِها وتعابيرها، في ذلك اللّانهائيّ الذي تَصْبُو إليه. لا شيءَ في الشِّعْر يَقِينٌ، ولا شيءَ فيه يَكْتَمِل. الشِّعْر، في مجازاتِه شِدَّةُ اكْتِمالٍ في شِدَّةِ نُقْصان، هذا ما لم يَسْتَطِعْ الخيال العربيّ الرَّاهِن أنْ يُجارِيهِ، فإيقاع الشِّعْر، هو نفسه إيقاع الوجود، إيقاعُ الذَّاتِ في رعشاتِها، في قلقها وتوتُّراتها، في نفس حركات الغُيوم، بعضُها يُوارِي بعضاً، هي، بتعبير هيراقليط، ما يُوجَد فينا، وهو الشيء ذاته: حياة وموتٌ، يقظة ونوم، صِغَر وكِبَر، وكُلّ من هذه الأضداد تتحوَّل إلى الأخرى. ما لا يَرْقَى إليه مَنْ يَسْتَمْرِئُون الشِّعْر، ينظُرون إليه شَزْراً ممن يُدَرِّسُون في الجامعاتِ بتواطُؤ مع الناشرين، ومع ذائقتهم التي جفاها الشِّعْر، وشابها ظمأُ آبارٍ كَفَّ الماء عن أن يكون من سجاياها.
‫[XV]‬‬
ياااا هؤلاء، عَيْنُ الصَّقْر برحابَةِ الليل والنَّهار، وهي نفسُها مجازاتُ الشَّاعر التي تخرُجُ من خيالاتِه، من فكره ووجدانه، لا من كُتُبِ البلاغة، كما أن إيقاعاته، لا تستمع إلى ما في أوزان الماضين من تكرار واجترار، لنفس النَّغَم والحرف والعبارة. أنتم اكتفيتُم بقياس الشَّاهد على الغائب، بالمثال، وما يكون حَذْوَ النَّعْل بالنَّعْل، وغَابَ عنكم أنَّ الشِّعْر شُرُوع، وهو بدايةٌ لا تفتأ تبدأ، لا شيءَ فيه اكْتَمَل، أو مالَ إلى القاعدة والقانون والشَّرِيعَة، هذا شُغْلُ الدِّين، شُغْل العقائد التي اكْتَفَتْ بالعبادَة، والسَّيْر في نفس الطَّرِيق، دون خوض مجهولات غيرها من الطُّرُق. أنتم، مثل النَّاشِرين ضاهيتُم الآتي بما كان، فسقطتُم في شَرَكِ «القصيدة» التي بقيَتْ عندكم هي كُل الشِّعْر، دون أن تُدْرِكُوا، في زعمكم المعرفةَ، أنَّ الشِّعْرَ ليس هو «القصيدة»، وأنَّ الشِّعْر جامع أنواع، «القصيدة» هي من أنواعه، وأنَّ الجزء لا يُحْكَم به على الكُلّ.
‫[XVI]‬‬
لأكتفي، في وصف حالتكم، أنتم من تَزْدَرُون الشِّعْرَ، تحاربونه، تمنعُونه في الجامعة، أو تكتفون بماضيه، أو بمن بقي من ماضيه، بقول هيراقليط شاعرُ الصيرورة والشمي التي لن تكون هي نفسها كل يوم: «عُيُونُهُم مَفْتُوحَةٌ لَكِنَّهُم نِيَامٌ».
[المحمدية في ٣ ـ ٤ أكتوبر ٢٠٢٠]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top