محمد معتصم (من مدخل كتاب “النص السَّرَدَّاتِي”) من تعالي الـ”أَنَا” إلى الاهتمام بـِ”الذَّاتِ”

محمد معتصم

استحوذ مفهوم “السيرة” على كتابة الذات، ولونها بمائه، وأصبح المحدد الأساس لحدودها، سواءٌ من حيث موضوعها أو من حيث الأسلوب والتقنيات، استمدت في الغالب من سير الأنبياء والصالحين عند العرب المسلمين وكتب التراجم وأيام العرب، ومن اعترافات القديسين والقساوسة ورجال الدين عند غيرهم، وهي خطابات يقدمون فيها عِبَرًا ونصائح وحكما وإرشادات التبشيرية الهادية.

تعني السيرة “الذاتية” التقليدية المتشبه أصحابها بالصالحين والقديسين تعني فيما تعنيهِ استرجاعُ الكاتب/السارد أحداثا وأفعالا متعلقةً بمرحلة أو عدة مراحل متصلة ومنفصلة من تاريخه الشخصيِّ، يسترجعها لأغراض شتى، أجملها في الآتي؛

  1. الإعلاء من الأنا واتباع خطة السير التقليدية للمبشرين والهادين.
  2. التخلي عن الأنا والبحث عن حقيقة الذات وسط العالم وتحولاته الحديثة والمعاصرة.

يقول جان ستاروبينسكي:” السيرة الذاتية هي سيرة شخصٍ يكتبها بنفسه”[1]، في كتابه “السيرة الذاتية” يورد جورج ماي، كذلك أنَّ:”السيرة الذاتية هي سيرة كتبها من كان موضوعا لها.”.[2] وما دامت “السيرة” نهجًا يُحتذى ويُعدُّ صاحبها قدوة في الحياة، فقد كان من اللازم أن تكون هذه الكتابات تعليمية وتوجيهية، كما قال إحسان عباس:” كثيرا ما ابتعدت السيرة عن هذا الأصل التاريخي، حين أصبحت غايتها تعليمية أو أخلاقية.”[3]، تعلي هذه السير من صوت الـ”أنا” المتركز حول ذاته غير التاريخية، أي المعزولة عن محيطها ومؤثراتها الطبيعية. يغلبُ على خطابها التوجيهُ (سمة تميز نوع نصها) والنصح والإرشادُ في محاولة إقناع الذوات الأخر المجاورة بنزاهة الذات المتكلمة وسموها وتعاليها عنِ الشوائب التي تعيق عودة الذات إلى جوهرها ومنبعها الأول (الفطرة)، في محاولة تجريد الذات من تاريخها. أي أن الـ”الأنا” المتعالية تتجرد من تاريخانيتها وترسم صورة عن ذاتها غير حقيقية توهم بها نفسها من جهة والآخر من جهة أخرى، في تشكيل ذات أخرى مفقودة في الخطاب، ما دامتْ كتابة الذات وأفعالها وأخبارها وحوادثها تُعد انتقالا وتساميا يخالف حقيقة الذات في واقعها، وهو ما يكذب مظهر “صدق” الخطابات السيرية التي يكون مرتكز متخيلها الـ”أنا”، لقد قال الدكتور إحسان عباس:” ليست هناك سيرة ذاتية تمثل الصدق الخالص.”[4] هكذا يدحض أهم مرتكزات السيرة الذاتية التقليدية. يدلُّ كل هذا أنَّ كُلَّ سيرة ذاتية تقليدية (اعترافات وتراجم ومختصرات تعريف) تتضمن سيرة خفية غير معلنة. تعمل “أنا” السارد على إخفاء أجزاء من سيرتها والسكوت عنها من أجل تلميع صورتها المتعالية قصد إقناع القراء بخطابات حجاجية غالبا ما تقوم على أسناد دعائية. يقول فرويد معبرا عن وجود سيرتين، سيرة محكية وسيرة مخفية في كل سيرة ذاتية سواء أستندت إلى التعالي أو على الاعتراف، في المجتزأ الآتي:” ظاهريا.. حياتي مرت بهدوء وبشكل هادئ ويمكن تغطية أحداثها بتواريخ قليلة، ولكن داخليا – ولمن عرفوني بشكل أفضل؟ كانت الأمور أكثر تعقيدا قليلا؛ ضمن ناحية، الاعتراف المعبر والكامل والأمين عن الحياة، يتطلب الكثير من التهور الطائش للبوح الفضائحي عن شخصي فضلا عن الآخرين من الأسرة والأصدقاء والأعداء، ومعظمهم لا يزال حيا، وهذا أمر، ببساطة، خارج المسألة بالنسبة لي. ومن ناحية أخرى، الشيء الذي يجعل كل كتب السيرة الذاتية لا قيمة لها عندي، على أية حال، هو الكذب والزيف والخداع وليس عندي رغبة في القيام بهذا!!!”[5]

لقد هيمن “التوجيه” على الطبيعة الأساسية لنوع خطاب وكتابة الذات، فصار السرد توجيهيا، مليئا بالترفع والتسامي، فمال إلى هذا الجنس كل من وجدوا لأنفسهم مكانة في المجتمع من ساسة وقادة وأبطال وقسيسين، فَانتظرت كتابةُ الذات وخطابها طويلا حتى تتجرد نسبيا من هيمنة الأنا المتعالية وتتحرر من قيود “النموذج” المنزَّهِ والنوع الأدبي الطاهر، وتدخل مرحلة ازدهارها مع التعدد والتركيب سواء في الموضوعات المتداولة أو الأنواع النصية، بل ازدهرت مع وفرة المحكيات الذاتية التي اخترقت قيود “التعالي” أولا، وثانيا تجاوزت حدود “الميثاق السير ذاتي” ومفهوم “الصدق” و”اليقين” والتأثير على القارئ وتوجيه أفق انتظاره والتلاعب به، سواء السير التقليدية أو الاعترافات المكتوبة بضمير المتكلم أو ضمير الغائب.

لقد تحولت “السيرة” الضيقة الأفق إلى مفهوم “كتابة الذات” الأوسع والأشمل الذي يَنهض على “محكيات سردية ذاتية” متعددة واخترقت الحدود بين الأجناس الأدبية والأنواع النصية، فتضمنتها جميعها في بناء سردي غير متجانس، إلا أنه منسجم ومتناغم في تقارب وتباعد وتناقض عناصره المكونة (الخطابات المتخللة)، وفي تنوع أسلوب الكتابة وهو ما توصل إليه “جون ستاروبينسكي في إحالة جورج ماي بقوله:” والحال أن جون ستاروبينسكي نفسه توصل منذ سنوات قليلة إلى الاستنتاج التالي فقال:” ينبغي إذن أن نتجنب الحديث عن أسلوب أو حتى عن شكل مرتبطين بالسيرة الذاتية، إذ لا وجود، في هذا الضرب من الكتابة، لأسلوب أو لشكل ينبغي الالتزام بهما.”[6] إن “المحكيات السردية الذاتية” تتخذ لها اليوم كل الأشكال المتعارف عليها من قبيل: السيرة الذاتية والغيرية والسيرة الشعبية، والسيرة التاريخية، واعترافات القدسين وشهادات الزعماء السياسيين ومذكرات القادة العسكريين، ومذكرات الأفراد الذاتيين واليوميات والرسائل، والقصص والسرد الروائي. لقد لعب التحول التاريخي والجغرافي والتحول في موازين القوى السياسية والعسكرين والاقتصادية بعد الحربين العالميتين وما تلاهما من حرب باردة بين المعسكرين؛ الشرقي والغربي، وتوسع عشوائي تخريبي في العالمين الثالث والنامي، إلى سقوط مقولة “الصدق” وسقوط صورة “النموذج المثال” الوحيد، لصالح التعدد والاختلاف والتناقض وغياب “اليقين” الذي وضعته العهود السابقة قاعدة للتحكم في الفكر وطريقة التفكير وفي الحياة وممارستها، فكان من اللازم أن يتأثر الخطاب والكتابة بتلك المتغيرات لتتشكل أنواع جديدة لاحتواء متخيل جديد مع أسئلته الطارئة وحيرة الوعي أمام كل المتغيرات التي قلبت الموازين وأربكت الخلاصات والنتائج. يقول جورج ماي في كتابة “السيرة الذاتية”:” لنا أن نفترض إذن أن السيرة الذاتية، حين استوت شكلا أدبيا مستقلا، أخذت عن السيرة وعن سليلتها الرواية الترتيب الزمني في العرض، كما أخذت عن المذكرات وربما عن الرواية أيضا، …القصَّ بضمير المتكلم المفرد.”[7]

هل يعني هذا أن المحكيات الذاتية قد ألغت الوجود المستقل لكل تلك الأجناس الأدبية والأنواع النصية وطمست معالمها؟ طبعا لم تَقم بإلغائها ولكنها أوجدتْ نوعا جديدا من الكتابة المخترقة للحدود الفاصلة والمطهِّرة للجنس الأدبي والنوع النصي، فبقيت إلى جانبها، حتى اليوم؛

السيرة الذاتية والغيرية المرتبطتيْن بالسرد الاسترجاعي لمرحلة أو مراحل من حياة الأنا في تساميها وتعاليها وتجرُّدِهَا من تاريخانيتها، ومن سرد الذات في سياقاتها الداخلية المتأملة المتخيلة وسياقاتها التاريخية والاجتماعية.

والسيرة الشعبية سردا تخييليا مأساويا عجائبيا وأسطوريا يربط ويفك الخيوط المتشابكة للصراع الأبدي بين الخير والشر، والنهايات السعيدة والمأساوية.

والمذكرات سردا لتدوين وتسجيل الأحداث الخارجية الاجتماعية والسياسية والثقافية من وجهة نظر شخصية، ترصد التفاعل بين الذات والأحداث والوقائع الأكثر تأثيرا فيها.

واليوميات سردا ذاتيا يدون يوما بيوم في تسلسل متصل أو متقطع خطِّيٍّ يعتمد على وجهة نظر الذات الكاتبة ودرجة قربها من الأحداث والوقائع، والانفعال الداخلي للذات.

والرسائل خطابات ذاتية مطولة وقصيرة تعتمد على المحاورة بين ذاتيْن أو أكثر في بعض الأحيان متباعدتين، ولا يجمع بينهما (بينهم) غير الخطاب والذاكرة والحنين أو العتاب واللوم والتأسي على ماض فات ومستقبل بعيد عنيد، وعلى تبادل الأخبار والمعلومات والأشواق.

لكن سير القدِّيسين واعترافاتهم قديما استبدلت بسير الزعماء والساسة والقادة وادعاءاتهم اليوم، الذين استبدلوا التجارب الدينية وخوض العبادات بالتجارب الشخصية في المناورة والمراوغة والدهاء وتحقيق الانتصارات على الخصوم والمنافسين…

لقد تطلب الانتقال من تعالي الأنا إلى التعرُّفِ والاهتمام بالذات تاريخا طويلا من التحولات الحثيثة في الواقع وفي الوعي وفي الخطاب، لتصبح كتابة الذات عبارة عن محكيات سردية ذاتية تجمع بين مختلف الأجناس الأدبية والأنواع النصية المتمركز حول الأنا أو الذات أو الآخر، سواء أكان الآخر إنسانا أو أسرة أو عائلة أو قبيلة أو مكانا؛ قرية أو مدينة، أو كان حادثةً أو فكرة. لذلك فالمحكيات السردية الذاتية من وجهة نظرنا تختلف من حيث التجنيس الذي يضعه كاتبها وكاتبتها كحد وتمييز خاص: سيرة ذاتية، محكيات، رواية… وهكذا، إلا أن ما يجمعها هو التنوع والتداخل الأجناسي والتعدد في الخطابات المتضمنة واتساع الرؤية وتخليها على الحدود النوعية الصارمة سابقا كالصدق والنص التوجيهي وتسامي الأنا المتقمصة لوظائف ووجود الأنبياء والصالحين والقديسين.

لقد اهتمت علوم كثيرة بمفهومَيِ “الذات” و”الذاتية”، وجعلت الفلسفة سؤال الذات محوريا من أسئلة المعرفة، واهتمت علوم التربية بمختلف مدارسها ومذاهبها بسؤال الذات، واشْتغلت العلوم الاجتماعية بسؤال الذات والآخر. لذلك، كان مشيشل فوكو في مُساءلته مفاهيم “الذات” و”الذاتية” و”الحقيقة” الوجودية يذكرنا ونحن نطرح السؤال ذاته بالآتي:” غير أنه يجب أن نتذكر أن قاعدة معرفة الذات وقع ربطها دائما بموضوعة الانهمام بالذات.”[8] لهذا فقبل السؤال عن الذات؛ ما هي؟ ما مصيرها؟ ما موقعها من الذوات الأخر؟ يجب الانتباه إلى “المعرفة”. فالإنسان المتعالي صاحب “الأنا” لا يتساءل ولا يقلق على وجوده ومصيره، بل هو كائن متضخم الأنا يرى نفسه أعلى من السؤال ولا حاجة له بالمعرفة لأنه مكتف بما تحصل لديه من اطمئنان واهم غير تاريخي متحول ومتجدد.

إن سؤال الذات من صلب سؤال المعرفة، فلا يطرح هذا السؤال المؤرق إلا من كان تواقا إلى تجديد ذاته والانخراط في زمنه ومرحلته التاريخية، فالـ”انهمام بالذات” واكب تطور البشرية وساهم في تطوير الفكر الإنساني وتنويع وإثراء الحضارات الإنسانية، ويمكننا اختزاله في السؤال الوجودي “من أنا؟” وصيغة السؤال تبين أن “الأنا” المتعالية تم تجاوزها لتعود إلى طبيعتها وأصلها: “الذات”.

يرى لاكان (التحليل النفسي) وجان بياجي (علوم التربية) أن أول مرحلة يتعرف فيها الكائن على ذاته ليبدأ الوعي بوجودها وحقيقتها تتمثل في الوقوف أمام المرآة، وكأن الأنا المتعالي لا ينظر لى ذاته كما هي في طبيعتها الظاهرة وحقيقته الباطنية والوجودية، من ثمة يتسامى على الواقع ويدخل منطقة الوهم واللا تاريخانية، أما الكائن الحق، فإنه ينتبه إلى أن صورة المنعكسة على صفحة المرآة ليست سوى ذاته في تجليها الظاهر، ومن ثمة كذلك يبدأ في السؤال عن تجليها الباطن، والسؤال عن حقيقة وجودها ومصيرها.

حسب لاكان طرح سؤال الذات أمام المرآة، والكتابة مرآة، يعرِّفُ الكائن على جسده، ملامحه وحدوده وشكله، مما يولد عند ذات أسئلة معرفية أخرى حول الذوات المشابهة لذاته، وطبيعة العلاقة الواجبة بينها. عند بياجي، الكائن الطفل الذي عمره لا يتجاوز السنتين يستطيع التمييز أمام المرآة بين ذاته والذوات الأخرى، عكس الشامبانزي القرد الذكي الذي لا يدرك أن الصورة في المرآة صورته، فيستعد للدفاع عن منطقته غريزيا.

توضح كاترين كليمان هذا في المجتزأ الآتي:” يقابل هذه التجزئة القديمة شكل الأنا الذي يتكون في المرآة لأول مرة؛وهو شكل تجبيري يجمع الأجزاء من أجل إقامة صورة كلية للجسم الذي ينتمي إلى هوية معينة. تُمكِّنُ الصورةُ في المرآة الذاتَ من أن تقول:” إنه جسمي”، وأن تضمن بذلك ملكيتها الوهمية لمكان وزمان كانا يفلتان منها سابقا.”[9]

يُبين هذه المجتزأ النصي أن السير التقليدية لا ينظر السارد فيها إلى ذاته ولا يرغب في التعرف عليها، لأنه سارد كلي الحضور وسابق المعرفة، ممتلئ بالتضخم المكتسب من ثقافة ومعرفة قبليتين، والسارد هو ذاته مانح المعرفة ومصدرها المتعالي عن كل نقد وحكم قيمة، لكنَّ ساردَ كتابة الذات ثم سارد المحكيات السردية الذاتية يكتب من قلب الحيرة والقلق والسؤال، فهو في محاولة؛

1.التعرف على الذات الجوهرية (الذات الأصل غير التاريخية).

2.عرض خبرات الذات أمام مرآة الكتابة والقراءة (المنجز).

3.بناء تاريخ شخصي متخيل للذات (تخييل ذاتي).

4.موضعة الذات بين مختلف الذوات (تقييم الذات).

5.إكساب الذات موقفا (القيمة الذاتية).

6.تجريد الذات من جانبها الحسي (المادي التاريخي والاجتماعي).

7.تأمل تاريخ الذات (تصحيح مسار).

8.مساءلة الذات (نقد ذاتي).

يسعى كل ذلك نحو إعطاء الذات صورة قابلة للتحكم فيها وقياس قدراتها ورسم حدودها في ذاتها وفي علاقاتها المتعددة والمتنوعة بالذوات الأخرى المجاورة لها في الوجود. إذا كان وقوف الكائن أمام المرآة يعرِّفهُ على ذاته ويفتح أمام الوعي بوابة السؤال، فإن الكتابة تعرِّفٌ الكاتب على ذاته، وتمنحه شكلا وصورة حدودها اللغة ومرجعيتها المتخيل الذاتي. يقول جورج ماي:” إن مجرد كتابة المرء قصة حياته يعني أنه وهب حياته شكلا.”[10]

و”الذات” في الكتابة تتخذ تجليا مختلفا فتصبح “الذاتية/ La subjectivité”، الذات مكتوبة، والذات متخيلا، والذات نصا، والذات خطابا، يذهب مشيل زينك إلى أن الذاتية الأبية أصل في الكتابة حديثها وقديمها، ويعرف “الذاتية الكتابية” في كتاب يحمل العنوان ذاته:” ماذا نعني إذن، بالذاتية الأدبية؟ طبعا، لا نعني التدفق التلقائي أو التعبير الصادق عن الشخصية في النص، أو آراء ومشاعر كاتبه، ولكنْ ما يسمُ النَّصَّ مثل وجهة نظر وعي ما. بهذا المعنى، تُحدِّدُ الذاتية الأدبية الأدبَ. لا توجد هذه الصفة حقيقة إلا عند اللحظة التي لا يُقدم فيها النصُّ نفسه للإخبار عن العالم المطالِبِ بحقيقة عامة وموضوعية، ولا للتعبير عن حقيقة ميتافيزيقية أو مقدسة، ولكنْ عندما يُحَدَّدٌ على أنه نتاجُ وَعْيٍ خاصٍ، موزَّعٍ بين الاعتباطية والذاتية الفردية والإكراه الضروري لأشْكال اللغة.”[11]

فالذاتية تعني حضور الذات في مرآة النص بعيدا عن ضمير المتكلم المطلق الحضور “أنا” (كقيمة واجبة لتحديد الجنس الأدبي) وبعيدا عن “الصدق” وعن “اليقين” و”التوجيه والإرشاد”.

وأكثر الكتابات المعاصرة تمثيلا جيدا لمفهوم “الذاتية” الكتابة الذاتية للمرأة، التي بينا تطورها التاريخي والمنطقي عبر ثلاثة المفاهيم، في كتابنا[12]، وهي: “النسائية” فـَ”النسوية”، ثم “الأنوثة” (Le feminin ; Le fiminisme ; La feminité)، وتظهر “الذاتية” من خلال ما انتهت إليه الكتابة السردية عند المرأة في مفهوم “الأنوثة” حيث تجاوزت المرأة الكاتبة الخوض في القضايا العامة السياسية في لدى الكاتبات الرائدات ووافق ذلك بدايات تحرر البلاد العربية من النير الاستعماري وتشكل الدولة الجديدة، فتجاوزت بعد ذلك مرحلة الخضوع للفكر الإيديولوجي النسوي الذي يخوض أصحابه؛ رجالا ونساء، معركة بين النوعين البشريين، وفي الآن ذاته، دخول مرحلة المطالبة بالحقوق الاجتماعية والنقابية والسياسية (الحزبية)، وحقوق المواطنة الكاملة، والمطالبة الاحتجاجية كتابة وميدانيا لتعديل وتغيير وحذف نصوص ومقررات قانونية ودستورية وعقائدية، ثم وصلت أخيرا إلى المحطة التي تنظر فيها إلى ذاتها في محاولة للتعرف على ذاتها هي لا إلى ذاتها المنعكسة في الآخر أو قضايا غير جوهرية، فكان المفهومُ المُعَرَّبُ “الجندر”، الذي يراد منه في ترجمته “النوع” البشري، أي “الأنثى” مقابل نوعها الثاني “الذكر”، إلا أنَّ الهدف العلميَّ منه يتجاوز النوع إلى معنى تعرُّف الذات الأنثوية على “جسدها” الذي يشكل الجانب الماديَّ – الحسيَّ لمفهوم “الهوية الأنثوية”. ويدل ذلك على بداية وعي المرأة الكاتبة بذاتها، وبأن التجربتين السابقتين؛ النسائية والنسوية، كانتا تبعدانها عن ذاتها وتدفعانها إلى “إهمال ذاتها” والتنكر لحقيقتها المادية وهويتها ومتخيلها وثقافتها واختلافها، بل حتى أنها أهملت كتابتها (أسلوب الكتابة ومميزاتها الحامل للخصوصية الأنثوية)، وهو ما وقفت عنده مؤلفة كتاب (Femmes au futur) نساء المستقبل، ماريان لوكونت (Marianne Le conte):” يمكننا تذكر جورج صاند التي صرفت طاقة إبداعية كبيرة كي تؤكد على كينونتها البشرية المستقلة، بدلا من ميزاتها الكتابية…”[13]

إنها بداية “الوعي بالذات” و”الاهتمام بها” و”التعرف عليها” وأولى خطوات ذلك الوعي تمثل الذات في “الكتابة” لأنها مرآتها ومتخيلهَا الدال عليها، فماذا يعني اهتمام المرأة-الأنثى بذاتها؟ وماذا تستفيد؟ يبين فريديريك غرو ذلك في قولع:” أي أنه يجب أن أهتم بذاتي من أجل أن أكون قادرا على التمتع بذاتي ومن أجل أن اجد الخلاص في هذا التملك الكامل.”[14]

إذن، تجاوزت المرأة مرحلة الخوف من سلطة المجتمع، والكتابة بالاسم المستعار، وتجاوزت مرحلة الخوف من مطابقة القارئ بينها وبين متخيلها الإبداعي، فتحولت إلى “الذاتية” وهو تحولٌ بعيدٌ في نماذجه الإبداعية العليا جمالية وفنيا وأدبيا وسرديا عن “النرجسية والانكفاء على الأنا في تسامٍ وتعالٍ عكسيٍّ، يوضح فريديريك غرو أيضا هذا التحول فيقول:” مع ذلك فإن هذا التحول في النظرة التي تقبل بالعودة إلى الذات، لا يأخذ شكل التأمل النرجسي أو التفحص المؤلم لنقائصها. يتعلق الأمر بتركيز من نمط قوي على الذات: الجهد والتوتر المحفوظين في مسار الذات إلى الذات. لا يعني هذا التركيز القوي اعوجاجا مطلقا لكل أشياء العالم أو انكفاءً على الذات. على العكس فإن ما ترتبه هذه الثقافة المتعلقة بالذات هو تعلم متتالية من المعارف…”[15]

[1]  السيرة الذاتية، جورج ماي، ترجمة؛ محمد القاضي وعبد الله صولة. منشورات رؤية. ط.1. 2017م، ص، 24.

[2]  المرجع نفسه، ص، 24.

[3]  فن السيرة، إحسان عباس، منشورات دار الشروق، ط.6، 1992م، ص، 12.

[4]  المرجع نفسه، ص، 105-106.

[5]  قضايا أدبية: نهاية الرواية وبداية “السيرة الذاتية” وقضايا أخرى مترجمة، دانيال مندلسون وآخرون، ترجمة وتعليق؛ حمد العيسى، تقديم، صلاح عيسى، منشورات الدار العربية للعلوم- ناشرون، ط.1، 2011م ، ص، 139.

[6]  السيرة الذاتية، جورج ماي، مرجع مذور،ص، 20.

[7]  المرجع نفسه، ص، 102.

[8]  دروس ميشيل فوكو، ميشيل فوكو، ترجمة؛ محمد ميلاد، منشورات دار توبقال- المغرب، ط.1، 1988م، ص، 77.

[9] التحليل النفسي، مرجع مذكور، ص، 58.

[10]  السيرة الذاتية، جورج ماي، مرجع مذكور، ص، 96.

[11]  La subjectivité littéraire, Michel ZINK,1 Ed, PUF (Ecriture), Paris, p, 8, 1985

[12]  المرأة وتطوير السرد العربي، النسائية- النسوية- الأنوثة، محمد معتصم، منشورات الآن ناشرون موزعون، عَمَّان- الأردن، ط.1، 2019م

[13]  Femmes au futur (Anthologie de science-fiction féminine), Marianne Leconte,Marabout,p, 270, 1976.

[14]  ميشال فوكو، فريديريك غرو، ترجمة؛ محمد وطفة، منشورات مجد، بيروت – لبنان، ط.1، 2008م، ص، 145.

[15]  المرجع نفسه، ص، 146.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top