من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاءكمال الخشن 7

كنَّا صغاراً ( الحلقة السابعة) :
************************************

كان اجتياز الطريق من منزلنا لمنزل جدتي مهمة يومية .لكن لاأحد يمكنه ان يدرك متعة التجوال في أسواق دمشق القديمة التي تشبه بيوتها وأبوابها لوحات فنية مزخرفة . فالطريق يعج بالحياة ،وأصوات الباعة تتعالى من جانبيه ،والناس التي ترتاده مختلفة المشارب حيث يكثر فيه الشيعة والفلسطينيون واليهود .كان الطريق قصيراً ،لكننا كنَّا نشعر بالسعادة حيث نرى كافة أنواع الخضراوات والفاكهة الطازجة بألوانها الجذَّابة . وأكثر ماكان يلفتي طريقة تصفيف الجزر بشكل يشبة “لالش ” معبد الإيزيدين الذي يعدّونه خميرة الكون وأول موقع استقرت فيه الملائكة حسب الميثولوجيا الإيزيدية ونصوصهم الدينية المقدسة. وقد أغرتني ذات يوم الجزرة الوسطى التي تستند إليها كل الجزرات المرصوفة بالطول . كان البائع غافياً فاغتنمت الفرصة واستليت الجزرة من الوسط وهربتُ ، فإذا بالبائع يسحبني من جديلتي ويؤنبني ،فخفتُ ورحتُ أبكي مسترحمة وأقول (والله ياعمو كنت بدي اشتريها لقيتك نايم ) .فضحك وعفى عني رأفة بدموعي وطفولتي . كان الباعة في الطريق يتنافسون في عرض منتوجاتهم . بينما انا وشقيقي ننافس الجميع بنظرات الحرمان .
وأول ماكان يثير شغفي قبل أن أعبر الشارع باتجاه حارة الإصلاح ،هو الخبز الذي كان يصنعه خباز يهودي . وهو خبز الفطير الذي كانوا يصنعونه قبل عيد الفصح العبري استجابة لماورد في سفر الخروج ﴿ وَاحفظوا الفطيرَ، لأَنَّنِي فِي ذاتِ هَذَا الْيَوْمِ أَخْرَجْتُ جُيُوشَكُمْ مِنْ بَلَدِ مِصْرَ، وَاحْفظوا هَذَا الْيَوْمِ لأَجْيَالِكُمُ رسم الدهر﴾
وكان اليهود معروفين بتوارث هذه المهنة وقد ورد في التلمود البابلي ( “فساحيم” ٤٢أ) قول الحاخام يهوذا الذي عاش في منتصف القرن الثالث في مدينة «فُم بديتا» وهي الفلوجة اليوم. تعلّم هذا الحاخام بأن يعجن الفطير فقط بالمياه التي بقيت ليلة كاملة خارج الآبار والعيون. بسبب المناخ السائد في بابل آنذاك. خلال فصل الربيع كان الماء دافعاً في الآبار وهذا يعجل تخمير العجين. ولذلك لا بد من وضع الماء في المساء كي يبرد قبل أن تبدأ تخبز الفطير.
وكم كنت اتمنى لوأتذوق ذلك الخبز . لأنه كان يبدو كالبسكويت لأنهم لايضيفون له الخميرة كالخبز العادي . وكان الرغيف يمتاز بنظافته نتيجة المبالغة في تنظيف الأيادي والأدوات المستعملة في العجن .لكن ادعاء أولاد الحي بأن اليهود يعجنونه بالدم كان يخيفني . وسبب انتشار تلك الشائعة هو حادثة وقعت في مدينة دمشق عام 1840 ايام حكم محمد علي . وقد اتُهم يهود دمشق بقتل راهب من الفرنسيسكان يُدعَى الأب توماس الكبوشي وخادمه المسلم إبراهيم عمارة لاستخدام دمائهما في أغراض شعائرية وفي صنع خبز عيد الفصح غير المخمر (ماتزوت).لذا كنتُ أكتفي بالنظر إلى الرغيف والتحسر ، رغم عدم تصديقي لادعاءاتهم ان تلك الشعيرة مازالت قائمة .
ولكن ماأن نصل إلى منزل جدتي حتى تتخمنا بالطعام . فقد كانت كريمة طيبة بسيطة لاتثور إلا عندما يقترب أحدهم من أربع مقدسات بالنسبة لها :الله جل وعلا والقرآن الكريم وعلي والحسين (عليهما السلام). وكان شقيقي يحاول إثارتها حين تحكي لنا قصص الأنبياء . فحين حدثتنا عن قصة النبي ابراهيم (ع) ، وعن إماتة الطير ثم إحيائه .قال شقيقي الكبير: لو قُطِّعَتْ الطير لايمكن جمعها وإعادتها للحياة .هذه كذبة واستخفاف بعقولنا . فثارت ثائرة جدتي وقالت : إن الله يستطيع جمعنا حتى لوضربتنا قنبلة ذرية . فقال شقيقي : لن يجمعنا بل سنتحول إلى ذرات عضوية وينتهي الأمر . ومابين يجمعنا و(يفرطعنا ) قالت جدتي : لنحتكم إلى جارنا الشيخ إحسان .وكان احسان ملحداً لكنه ذو لحية كثيفة. إلا أن جدتي كانت تظنه شيخاً . فقالت له :
ياشيخنا أريد ان أسألك سؤالاً.. لو وقعت القنبلة الذرية فوقنا ( وفرطعتنا ) ,ألا يستطيع الله أن يجمعنا ؟ فصمتَ الشيخ هنيهة وأجابها بلهجة ممطوطة .والله ياحجة إذا نزلت القنبلة الذرية ( بتفرطع الله بذاته ) .صرخت جدتي مستغفرة . وقالت لشقيقي وصديقه: ارحلا من وجهي أيها الزنديقان قبل ان أبتلي بكما . فعاد شقيقي يقبِّل رأسها ويستغفر الله ويعتذر منها لترضى عنه .
يتبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top