هلوسة

الليل يدب متثاقلا
يرجمني بالحرارة تارة ثم ينقلب لأصير معه كأنني في عز الكوانين
آه من هذه الهلوسات
كتف القرية لايمكن أن يكون بعيدا
ربما أعرف من كسر تلك الشواهد ذات غفلة أو حماقة ليلوي رقابنا
يمكن أن يكون قصده أن يجعل الأموات يموتون أكثر من مرة
هناك رجل ينهض من غفوته لاستقبالي
أنه طويل مثلي
لقد كان متسامحا حد السذاجة والهبل
أشار بأصبعه كي أنظر إلى إبط الوادي حيث شجرة البطم الكبيرة .
قد يكون الرجل الطويل أراد مني أن أودع مقام الشيخ أحمد للمرة الأخيرة ومعه أشجار البلوط التي تمتد حتى حدود مياه وادي الرقاد وهي تنحصر في الغدران وقت الصيف.
حسبته يريدني أن أردد نشيدنا المعتاد هاتفا مع المجموعة حين تبخل السماء بأمطارها
: يا شيخ أحمد قاصدينك نطلب الرحمة من الله’
أردت أن أقول له إن شجرة البطم لم تعد موجودة ولا المقام.
أسراب الجراد مع قطعان الهمج اقتلعت تلك الأشجار من شروشها.
العرق البارد يغزو جبهتي والهلوسات تأخذني إلى مطارح بعيدة.
أين الأصدقاء والأقارب الذين يجب عليهم أن يحضروا هذه المناسبة؟
ربما نسوا شكلي مع تقادم السنين ونسوا ما يجمعنا. ربما لم يعودوا كما كانوا.
لم أعد متأكدا من شيء. ربما يبغتون في هذا الليل. بعد أن تحولوا إلى أعداء. هل يعقل أنهم نسوا مشوارينا في الكد والتعب إلى’ زور البيضا وأم خندوس’ أو ونحن نقف على الشفا الشمالي لنتأمل وادي الرقاد أو على الشفا الجنوبي لننظر إلى مياه اليرموك المسورة بالقصب وأشجار العليق والطرفا والصفصاف.
على الضفةالأخرى للنهر ثمة أسلاك شائكة وأبراج مراقبة ومتاريس تطل منها البنادق المصوبة إلى جهات الروح. هل اطلقت أو أنها ستطلق الآن؟
لا أعتقد.ربما انكفأت النيران ولو إلى حين.
الأصدقاء لن يستخدموا أسلحتهم ضدي هم فقط ربما يمدون حرابهم نحو الخاصرة. ويسيل دمي على مهله. ليس ثمة من داع أن يتربصوا بي بعد الآن. هأنذا قادم على قدمي أو من دونهما.
ثمة امرأة تتشح بملابس السواد تقف بعيدا عن هذا الحشد. لماذا لايسمحون للنساء بالاقتراب أكثر في مثل هذه المناسبات؟.
هل هذه’مريومة’ القلب؟ لو كانت هي لعرفتها من عينيها وهما تذرفان الدموع بصمت ولو كانت ‘ فطومة’ الروح لبكت بصوت مرتفع وانكشف أمرها. أما غاليتي ‘وداد’ فأمرها يحير بالفعل. لقد غدت ناحلة حد التلاشي في الآونة الأخيرة. كانت تبكي فوق رأس شقيقي الأكبر عدنان وتعده أن تلحق به في القريب العاجل ولم تتأخر في تنفيذ وعدها.
لو كانت ‘عليا’ لعرفتها من شرشها المثقوب بفعل سكائرها العربية ومن عصبتها المشدودة على رأسها. ربما أتخيل للحظات أنها تجلس خلف’ الشكوة” مرددة
:’ ياولد لرهن حياتي يبكن علي خواتي’
شجرة البلوط الوحيدة بقيت في حاكورتنا شاهدة على وجود مثل هذه الأشجار في وادي الرقاد. لقد زرعها أخي قبل أن يسافر إلى الجولان. سألت أمي أيام الطفولة لماذا لم يسافر إلى بلاد بعيدة؟ عندها رددت ذاك الحداء الجنوبي لتشعل به روحها وأرواحنا جميعاً:’ حدر دمعي على خدي حرقني ومثل الزيت بالمقلى حرقني’ وبعدها بكت وأبكت قلوبنا معها.
لا وقت للذكريات الآن.
هذه المرأة الواقفة على مسافة غير بعيدة منا يكاد كحلها الرباني أن يهر من عينيها. هي كعادتها تكتم حزنها وقت الشدائد ثم تبكي عندما تكون وحدها. أكاد أجزم أنها’ابتسمو’ التي أصرت أن ترافقني..قلت لها: لو توفرين على نفسك مشقة هذا السفر. لكنها عنيدة لا يمكن أن تفعل إلا ما هو في رأسها.
أكاد أكون متأكدا من وجودها.هاهي تقترب غير عابئة لتحذيرات الرجال.
تبا للنساء ما أجملهن.
لا أحد غير تلك المرأة يجرؤ على ذلك إذ لا يعقل أن تكون’ناديا’ قد حضرت من أقاصي الشمال إلى هنا وقد لوحت لها وودعتها عند جسر الرقة. و’كواكب” أحرقها زوجها السابق لأنها فكرت بالزواج من بعد أن طلقها و’سراب عبد الباقي’ تركتها تبكي بعد أن ودعتها في شارع مزران في العاصمة الليبية طرابلس الغرب.
ثمة امرأة دمشقية لوحت لي هذا المساء. بالقرب من جسر البرامكة. لا أدري لماذا طلبت منها أن تسامحني؟لقد فعلت ذلك من دون تردد كانت على الرغم من بياض روحها تتشح بملابس السواد.
ندمت لأنني لم أقبل يدها.
دائما أندم بعد فوات الآوان
تبا لخجلي وضعفي.
تبا للنساء ما أجملهن وخاصة حين يشلعن الروح من مطرحها لتسافر بعيدا مع الغيمات.
تبا لهن وتبا لي أيضاً.
حرارتي تزداد ارتفاعا وهلوساتي مستمرة والليل يسير على مهله متثاقلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top