مدرب أخصائي في العلاج بالفن
في عمق الميثولوجيا الرومانية تقف اسطورة بروسرپينا كواحدة من اكثر الحكايات قدرة على الجمع بين الجمال والرهبة
تروي الاسطورة ان ابنة الالهة سيريس كانت تقطف الزهور في احد الحقول عندما انشقت الارض فجأة ليخرج منها بلوتو اله العالم السفلي
فيختطفها الى مملكته القاتمة ليجعلها زوجة له ومن مأساوية هذا الاختطاف واحتجاج الام المكلومة
تفسر الاسطورة تغير الفصول غياب بروسرپينا في الشتاء وعودتها في الربيع
على هذه الارضية الحكائية بنى النحات الايطالي جيان لورينزو برنيني تحفته الباروكية الشهيرة اختطاف بروسرپينا
التي انجزها بين عامي 1621 و1622 العمل المنحوت من كتلة رخامية واحدة لا يكتفي بسرد القصة بل يوقظها من سباتها الاسطوري
الى واقع بصري نابض بالحركة فقد اختار برنيني اللحظة الاكثر توترا في الحكاية لحظة الصراع الجسدي العنيف بين بلوتو وبروسرپينا
وحولها الى مشهد يتنفس على سطح الرخام
تغوص اصابع بلوتو في فخذ بروسرپينا في تفاصيل تثير الدهشة حيث يبدو الحجر كأنه جلد حي يئن تحت قبضة الخاطف تعابير الوجهين
تكشف عن عاصفة من الانفعالات تصميم لا يلين في ملامح بلوتو مقابل صرخة استغاثة تجمدت على شفتي بروسرپينا
هنا يتجسد جوهر الفن الباروكي الذي يطلب من المشاهد ان يكون شاهدا لا قارئا وان يعيش الدراما بكل حواسه
هذا التلاقي بين الاسطورة والنحت يفتح افقا رمزيا ابعد من مجرد تصوير حادثة اختطاف
فالمشهد يختزن الصراع الازلي بين الحياة والموت بين خصب الارض وقسوة العالم السفلي وهو الصراع ذاته الذي تشرحه الاسطورة
حين تجعل عودة بروسرپينا الى امها سببا لعودة الربيع وبذلك يتحول العمل الى استعارة عن دورة الفصول
وعن قدرة الفن على تحويل الحكاية الى تجربة حسية تمس وجدان الانسان في كل العصور
في زمننا المعاصر يبقى اختطاف بروسرپينا شاهدا على قوة الخيال البشري اذ يبرهن ان الاسطورة ليست نصا من الماضي فحسب
بل مادة حية يعيد الفنان تشكيلها لتكشف عن طبائعنا العاطفية العميقة وبرنيني بعبقريته لم ينحت جسدين فحسب
بل نحت زمنا ابديا تتصارع فيه الرغبة والخوف والحياة والموت والاسطورة والحقيقة
نبذة عن النحات جيان لورينزو برنيني
جيان لورينزو برنيني نحات ومهندس معماري ورسام ايطالي ولد في مدينة نابولي عام 1598 وتوفي في روما عام 1680
يعد من اعظم فناني الباروك في اوروبا اشتهر بقدرته الفائقة على تحويل الرخام الجامد الى اشكال نابضة بالحياة والحركة وقد عمل في خدمة باباوات روما وصمم العديد من النوافير والتماثيل والمعالم التي ما زالت تزين المدينة مثل ساحة القديس بطرس في الفاتيكان وتماثيل الملائكة على جسر سانت
نبذه عن التمثال
العمل النحتي اختطاف بروسرپينا هو تحفة باروكية نحتها جيان لورينزو برنيني من كتلة رخامية واحدة بين عامي 1621 و1622 ويبلغ ارتفاعها نحو مترين وخمسين سنتيمترا وهي محفوظة اليوم في غاليريا بورغيزي بمدينة روما في ايطاليا
تجسد المنحوته لحظة اختطاف بروسرپينا ابنة الالهة سيريس على يد بلوتو اله العالم السفلي حيث يظهر بلوتو وهو يرفعها بقوة
بينما تحاول الافلات منه في حركة مقاومة توحي بالعنف والدراما يلتف الجسدان في حركة حلزونية تمنح التكوين
احساسا بالحركة الدائمة ويبرز برنيني براعة فائقة في تصوير ملمس الجلد وعمق الانفعال اذ تبدو اصابع بلوتو
وكأنها تغوص في لحم بروسرپينا وتظهر الدموع على وجهها في مشهد يترجم الصراع بين الحياة والموت وبين قوة الخاطف وضعف الضحية