همسات من الضوء واللون: رحلة في عالم ألوان الباستِل الساحر \\ د.عصام عسيري

Picture of الاتحاد العربي للثقافة
الاتحاد العربي للثقافة

د. عصام عسيري

في عالم الفن، حيث تتجلى المشاعر والأفكار عبر ضربات الفرشاة وتدرجات الألوان، تقف ألوان الباستِل كشاهد صامت على جمال الرقة والنعومة. ليست مجرد أدوات للرسم، بل هي تجسيد للضوء المتكسر على السطح، وهمسات من الألوان التي تحكي قصصًا من التاريخ والإبداع. هذا المقال يأخذنا في رحلة عميقة لاستكشاف عالم الباستيل، من جذوره التاريخية إلى أسرار استخدامه، مروراً بمزاياه وعيوبه وأشهر رواده.

تاريخ الباستيل: من عصر النهضة إلى الحداثة

يعود تاريخ ألوان الباستيل إلى عصر النهضة الإيطالية، حيث كانت تُستخدم بشكل أساسي في التحضير للوحات الزيتية الكبيرة. لكنها سرعان ما اكتسبت مكانتها الخاصة كأداة فنية مستقلة. كان ليوناردو دافنشي من أوائل الفنانين الذين استخدموا أقلام الباستيل، لكنها لم تبلغ ذروة شعبيتها إلا في القرن الثامن والتاسع عشر، خاصة في فرنسا.

في هذه الفترة، أصبحت الباستِل هي الوسيلة المفضلة لرسم البورتريه، وذلك لقدرتها الفائقة على التقاط التفاصيل الدقيقة والظلال الرقيقة للبشرة والملابس. فنانون مثل موريس كوينتين دي لا تور وجان إيتيان ليوتار، الذين رفعوا من شأن أصابع الباستِل، ليقدموا أعمالًا تعتبر حتى اليوم من روائع الفن العالمي. دي لا تور، المعروف بلقب “أمير الباستِل”، كان يمتلك قدرة مذهلة على إضفاء الحيوية والواقعية على وجوه شخصياته، مما جعله رسام البورتريه المفضل لدى الطبقة الأرستقراطية.

مع ظهور الانطباعية في القرن التاسع عشر، اكتسبت الباستيل بُعدًا جديدًا. فقد استخدمها فنانون مثل إدقار ديقا لإنشاء أعمال تعبر عن الحركة واللحظة. ديقا كان يعشق الباستِل لما توفره من إمكانية الرسم السريع والطبقات اللونية المتعددة، مما سمح له بالتقاط مشاهد الراقصات في مسرح الأوبرا بديناميكية وحيوية لا مثيل لها.

الباستِل: مزايا وعيوب

مثل أي وسيلة ومادة فنية، تتميز ألوان الباستِل بمجموعة من الخصائص الفريدة التي تجعلها محبوبة لدى الفنانين، وفي الوقت نفسه، لديها بعض التحديات التي يجب التعامل معها.

المزايا:

1.النقاء اللوني: تتكون أقلام الباستِل من صبغة بودرة نقية مع كمية قليلة جدًا من المادة اللاصقة. وهذا يمنحها لونًا غنيًا ومشرقًا لا يتغير بمرور الوقت، على عكس الألوان الزيتية التي قد تميل إلى الاصفرار.

2. سهولة الدمج: يمكن دمج ألوان الباستِل بسهولة باستخدام الأصابع أو أدوات خاصة، مما يتيح للفنان إنشاء تدرجات واندماجات لونية سلسة وناعمة.

3. السرعة والوضوح: لا تتطلب الباستِل وقتًا للجفاف، مما يتيح للفنان العمل بسرعة والعودة إلى اللوحة في أي وقت. كما أنها تسمح بإنشاء تفاصيل دقيقة وخطوط حادة.

4. تأثيرات ضوئية مذهلة: يمكن استخدامها لإنشاء تأثيرات ضوئية شفافة أو طبقات سميكة وغير شفافة، مما يمنح الفنان مرونة كبيرة في التعبير.

العيوب:

1. الضعف والهشاشة: أقلام الباستيل هشة وقد تنكسر بسهولة، والعمل الفني النهائي يكون حساسًا جدًا لللمس، حيث يمكن أن تتناثر جزيئات الصبغة.

2.الحاجة للتثبيت والحماية: تتطلب لوحات الباستِل تثبيتًا باستخدام مثبت خاص (fixative) وحماية خلف زجاج للحفاظ عليها من التلف والبهتان.

3. الفوضى: عملية الرسم بالباستيل يمكن أن تكون فوضوية، حيث تتطاير جزيئات الصبغة في الهواء وتتجمع على الأسطح.

:إرشادات استخدام الباستِل

لتحقيق أفضل النتائج، يجب على الفنانين المبتدئين والمحترفين اتباع بعض الإرشادات:

اختيار الورق المناسب: يجب استخدام ورق مخصص للباستيل ذي سطح خشن (مثل ورق sanded paper) يساعد على تماسك جزيئات الصبغة.

بناء الطبقات: ينصح بالبدء بطبقات خفيفة من الألوان الأساسية، ثم بناء الألوان الأغمق والأفتح تدريجيًا.

استخدام أدوات الدمج: يمكن استخدام الأصابع، أو أدوات مثل “tortillons”، أو حتى قطعة قماش لدمج الألوان بسلاسة.

التثبيت الصحيح: يجب استخدام مثبت الباستيل (fixative) بعد الانتهاء من العمل، ولكن بحذر، حيث أن الإفراط في استخدامه قد يغير من ألوان اللوحة.

أشهر أعمال وفناني الباستِل:

لقد ترك فنانون عظماء بصمات خالدة باستخدام الباستيل، ومن أبرزهم:

موريس كوينتين دي لا تور (1704-1788): من أشهر أعماله “بورتريه مدام دي بومبادور” الذي يبرز مهارته في رسم التفاصيل الدقيقة للأنسجة والملابس.

جان إيتيان ليوتار (1702-1789): اشتهر بعمله “فتاة الشوكولاتة” (La Belle Chocolatière)، الذي يعرض نقاء وشفافية الألوان الباستيلية.

إدقار ديقا (1834-1917): يعد من أبرز فناني الباستِل في العصر الحديث. أعماله مثل “الراقصات الزرقاء” (The Blue Dancers) و”فنانة الباليه الصغيرة” (The Little Dancer) تُظهر قدرته على استخدام الباستيل لالتقاط الحركة والديناميكية.

ختاما، ليست ألوان الباستيل مجرد صبغات جافة ناعمة وزيتية، بل هي وسيلة للتعبير عن الرقة والضوء، تحكي تاريخًا من الإبداع والجمال. إنها دعوة للفنانين والمتذوقين على حد سواء لرؤية العالم من خلال عدسة ناعمة، حيث الألوان ليست فقط مرئية، بل ملموسة ومحسوسة، تهمس لنا بقصص من الماضي والحاضر.

تجاربكم وأصدقاءكم تسعدني، وفي التعليقات ترشيحاتكم لفديوهات تعليمية تنصح بها الناشئين.

شارك المنشور:

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest