يتأسس فعل الكتابة الروائية عند خوان غوتيسولو على سلسلة من الخبرات الكتابية
التي أرسى دعائمها كل من ثربانتس ورابلي وبورخيس.
كتابة تستمد قوتها من جمالية الكتابة ومن التأمل في شكلها.
بحيث يتحول الشكل إلى دال وعلامة ترميزية عن مضمون محايث لموضوعة الرواية.
فالرواية تفكر في موضوعها عبر شكلها، وتتفكر في ذاتها من خلال طبيعة اختياراتها وإنحيازاتها الجمالية. فإذا كان خوان قد زاوج في مسيرة حياته بين الكتابة والالتزام فإن هذا الأخير، قد تجلى لديه في مستويين :
الأول تميز بالصرامة في اتخاذ الموقف من القضايا المصيرية للشعوب ومناصرة المظلومين والمهمشين، ونقد الطغيان الاستعماري والامبريالي، والديكتاتوريات والتمرد على الرسميات. والمستوى الثاني من الالتزام،
شمل الالتزام بالكتابة، والتفكر في آليات اشتغال الرواية من خلال الحفاظ على طرائق الكتابة التي أنتجت من داخل تاريخ الرواية وبعثها، أي التركيز على استمرارية النسب الروائي، والعمل على تطوير تلك الآليات الكتابية وتوسيع مجال اشتغالها لمقاربة موضوعات راهنية. لقد كانت الموضوعة الجوهرية من جل أعمال خوان هي الحرب، وهو الذي عاش ويلات الحروب. لاسيما الحرب الأهلية في إسبانيا زمن فرانكو. هذه الموضوعة الهاجسة التي ما تفتأ تعود في أعماله الروائية وأيضا في مقالاته وريبورتاجاته. وقد تم الاشتغال على هذه الموضوعة عبر تنويعات على مستوى الكتابة ومحاولات تجريب مداخل عديدة ثم تخريبها من أجل استنفاذ هذه الموضوعة والإحاطة بها، وتطويقها بسياجات مختلفة للتحكم في هذيانها وفظاعتها. فمن “الكونضي دون خوليان”، و”مشاهد ما بعد المعركة”، و”الأربعينية”، مرورا “بأسابيع الحديقة” وصولا إلى “حصار الحصارات”، كانت موضوعة الحرب، تلعلع بالرصاص، وتنذر بالخراب خراب الحجر والبشر، خراب الأرواح والأشباح. تستعيد رواية “دون خوليان”، الأسطورة الإسبانية حول الغزو الإسلامي، حيث ارتبطت هذه الأسطورة بمفهوم الخطيئة، وبها يفسر المخيال الإسباني وصول العرب إلى الأندلس، فالدون خوليان العامل على طنجة هو الذي ساعد العرب على الدخول إلى إسبانيا، انتقاما من لودريق الذي هتك عرض ابنته،
وبذلك تبرر الأسطورة الإسبانية أن هذا الغزو كان عقابا إلهيا على تلك الخطيئة. وبذلك تحول الدون خوليان، في هذا المخيال إلى خائن لوطنه. ففي عام 1970، المكان مكتبة بطنجة.
الحدث : فعل لا ينسى بالنسبة إلى قراء خوان، وهو اللحظة حيث السادر المجهول
لرواية “دون خوليان” الذي يقتل الحشرات وسط الكتب،
اقترف “قتل النص النموذجي للأدب الإسباني”. وفي عام 1982.
المكان هو مكتبة بباريس.
الحدث : فعل لا يمكن أن ينساه قراء خوان. وهو اللحظة حيث الشخصية الرئيسية في رواية “مشاهد ما بعد المعركة اقترف تفجيرا نموذجيا، ليس ضد الأعمال الرائعة للأدب الإسباني، لكن ضد رواية الدون خوليان نفسها. وفي ” الأربعينية التي يحيل عنوانها إلى أربعين يوما في البرزخ، وأيضا إلى أربعين يوما من الجحيم الجوي على العراق، وأربعين يوما للحجر الصحي، تتحول في الرواية إلى أربعينية القارئ الذي يحتجز في نص الرواية. التي يلعب فيها الحلم وحلم اليقظة دورا بارزا. هناك جيئة وذهاب بين عالم الصحو وعالم الإغفاء بين اليقظة والحلم، ويتداخل الفعلان، فيصاب القارئ بدوار ودوخة، وتتأسس الرواية على رحلات في عالم أخروي أرضي، يحشد فيه الروائي كل الأدب القيامي، يحضر ابن عربي في معراجه، ودانتي في جحيمه، ولوحات جيروم بوش، وإشارة إلى بيت للمعري، لكن المعري كان غائبا في الرواية كما ذهب إلى ذلك عبد الفتاح كيلطو. لم يستثمر خوان رسالة الغفران التي هي النص الأخروي المشهور في الثقافة العربية، واعتقد أن خوان في أربعينية كان مهموما بنقد التصور الانتقامي لجحيم دانتي، والانحياز لمفهوم الرحمة الشاملة في الثقافة الإسلامية لاسيما عند الصوفي الكبير في الدين بن عربي. أما روايته “حصار الحصارات” فهي رواية أقوى من الخطابات السياسة حول الحرب على البوسنة من قبل الصرب. يذهب كاي إسكاربيتا إلى أن “تخصيص عمل روائي حول حرب البوسنة قد يبدو عملا محفوفا بالمخاطر لاسيما وأن دوي الخطابات المناضلة ما زال يصم الآذان، إنها خطابات متواطئة ومزعومة، وهي في غالب الأحيان مانوية. وكما هو معلوم فغويتسولو يعتبر الرواية دائما مكانا للشك والريبة، ولتعدد الأصوات والحقائق ولاكتشاف المسكوت عنه في القيم التقليدية”. كل شيء يبدأ في الرواية بطريقة واقعية، يصل رجل إلى مدينة محاصرة، وبسهولة نتعرف على أنها مدينة سراييفو. أطلقت قذيفة على الفندق الذي يقيم فيه أودت بحياته. والحالة هذه ستتغير نبرة الرواية بسرعة منذ الفصول الموالية؛
في الفندق سيعثر على مجموعة حكايات تتضمن أحلاما فاحشة بطريقة مقبولة،
وعلى حولية تتضمن هذيانا يستدعي الحصار في باريس بحي sentier حيث طوقت المدينة بدعاة التطهير العرقي الذين يريدون تنقيته من الدخلاء المقيمين به.
(مقاطع من الضحك الساخر لا تقاوم). ,أيضا هناك استحضار لمجموعة غريبة من الاشعار القديمة ايروتيكية وصوفية في الآن نفسه. وأخيرا يتم العثور على مفكرة لقائد اسباني من القوات الدولية المتوسطية، هذه المفكرة تسمح بلم شعث كل هذه العناصر، فالرجل الذي قتل في الفندق هو مواطن له لكنه لم يعثر له لا على الجثة ولا جواز السفر، لقد بقيت فقط بعض هذه النصوص المتنافرة التي وجدت في حقيبة الفقيد، التي ألقت به في حيرة عميقة إلى حد أنها تطفح باللانسجام واستبعاد الحدوث. فهل هذا الشخص المجهول هو المؤلف؟ كيف يمكن أن نميزه انطلاقا من ذلك؟ وكيف استطاع أن يصف بدقة موته الشخصي؟ هذه التيمة تتكر في أعمال خوان، الراوي يصف موته الشخصي، كما هو الحال في الجملة المفتتح من رواية الأربعينية. تحاول الأحداث الموالية في “حصار الحصارات” أن تكشف جزءا من هذه الألغاز، بطريقة سحرية، فأعضاء حلقة المحققين رواد مكتبة سراييفو المخربة الآن،
كانوا مولعين بتفحص وثائق اليهود والمسلمين. فالشخص الذي قتل في الفندق، هو شخص مغربي، وهو مريد لأحد ا