كان عامر يلح باستمرار على أبيه كي يزوره في المدينة التي إنتقل اليها ، بعد تعيينه بمندوبية إقليمية لإحدى الوزارات هناك ..
– إنها مدينة هادئة يا ابي ، أهلها طيبون وهواؤها منعش ، صحي وخالي من الرطوبة . تازة مدينة يمكن زيارة أهم فضاءاتها وشوارعها والتنقل فيها مشيا على الأقدام ، دونما حاجة إلى السيارة .
– لا تتهاون يا أبي ، حاول أن تزورنا قريبا ..
أسر الأب لصديقه المتقاعد بالخبر :
– يرغب إبني عامر في أن أزوره بمدينته الجديدة ، ويلح علي في ذلك باستمرار ..
– لا أدري هل أذهب أم لا ؟
– لعلمك ، فأنا أزورها مرة إلى مرتين في السنة ، أقضي فيها ، مع أصهاري ، أياما ممتعة خاصة في فصل الربيع ..
– إنها فعلا مدينة هادئة وهواؤها مختلف عن هواء مدينتنا .. تضم داخل أسوارها المحصنة تفاصيل عن تاريخ يشهد لها بالمكانة الإقتصادية والسياسية والعسكرية التي كانت عليها .
– توكل على الله لن تندم ..
يدعم الصديق رأي الإبن عامر ، ويضيف ..
– لم يسبق لك ان زرتها من قبل ؟
– حينما زرت وجدة والحسيمة بمناسبة الإجتماعات الجهوية التي كانت تدعو إليها وزارتنا . إنما مر زمن طويل على مروري بها ..
– أنصحك بأن تجدد زيارتك لهذه المدينة .. إنها وجهة سياحية ممتازة .. وسترى بأم عينيك أنك كنت صائبا في قبولك دعوة إبنك والذهاب إلى هناك …
وصل إلى تازة حوالى منتصف النهار ، حسب الموعد الذي ضربه لإبنه ، فوجده ينتظره في المكان المتفق عليه ..
بعد الإستراحة والسؤال عن الأهل والأسرة وكل الأشياء التي عادة ما تؤثث مثل هذه المناسبات .
أديا صلاة العصر في المسجد المركزي بوسط المدينة الجديدة .. “درع اللوز” ..
أخذ عامر بعد ذلك اباه في جولة خفيفة إلى بعض الفضاءات القريبة من المسجد .. ثم عرج به إلى مقهى في الشارع الرئيسي ، لأنه يعلم أن أباه يحب أن يحتسي قهوته بعد العصر ، فقد أصبح الأمر تقليدا بالنسبة له ..
مقهى لها واجهة زجاجية تتيح رؤية ما بفضائها الداخلي .. أمام الواجهة الزجاجية وضعت طاولات وكراسي بيضاء يلوذ إليها الزبناء المدخنون ، على يسار المدخل هناك سلم ينزل إلى قبو خصص لأنشطة شبابية ..
حينما تلج الباب الزجاجي يستقبلك فضاء شاسع وعالي السقف ينتهي بواجهة خلفية زجاجية كذلك ، يمكن من خلالها ، إمعان النظر في حديقة صغيرة تنمو فيها شجيرات وبعض نباتات الزينة ، أضفت على المقهى بعدا طبيعيا خلابا .
صففت في الفضاء الداخلي طاولات وكراسي رمادية ، غامقة اللون تتماهى مع طلاء الجدران والديكورات التي زينت بها . تتخللها ملصقات ضخمة لمناظر من بيئات أجنبية زادت من جمال الفضاء الداخلي وبهائه .
في الجهة المقابلة تمتد منضدة طولية يقف وراءها شابان بهياة نظيفة ، إشتغل أحدهما بصندوق المقهى ، والثاني بإنجاز وتهييء طلبات الزبائن ..
على يمين المنضدة ، يصعد سلم أنيق مزين بمقابض حديدية لامعة ، تؤدي إلى فضاء علوي يرتاده الطلبة عادة ..
حينما جلس عامر وأبوه بطاولتهما ، استقبلهما النادل يرتدي بذلة خضراء فاتحة اللون ، ويرسم على محياه ابتسامة زادت من بشاشته ، وهو يسألهما عن طلباتهما ..
رائحة البن الجيد تستولي على الأجواء بالفضاء الداخلي ، وتغري بطلب فنجان قهوة لتذوقها والتلذذ بنسائمها …
– إنها مقهى جميلة وأنيقة .. يبدو لي أنك كنت صائبا في اختيارك الفضاء الأنسب لجلستنا . !
يفصح الأب عن ابتهاجه بفضاء المقهى .
– نعم يا أبي ، إنها كذلك ، فأنا اعتدت أن التقي فيها مع أصدقائي . نحتسي قهوتنا ونتسامر بيننا ونتداول في مختلف القضايا التي نؤثث بها لقاءاتنا .
– لاحظت ، وعلمت من بعض الأصدقاء التازيين ، أنه هنا في هذه المدينة ، يتنافس أصحاب المقاهي على تهييء فضاءاتها لتصير أنقية ومثيرة ، فتستقطب أكبر عدد من الزبناء ..
– وسترى حينما نتجول في المدينة أن معظم المقاهي هنا ، من النوع الممتاز .. عكس ما ألفته في العاصمة أو الضاحية ..
ويضيف عامر محدثا أباه :
– أعلم أنك تحب الإبحار في الفضاء الأزرق وتؤثث صفحتك بمنشورات وصور عن ما تقوم به من أنشطة .. وما تكتبه من خواطر …
فأنا أزور صفحتك باستمرار وألاحظ هذه الدينامية .
– ولإغنائها بمنشورات متميزة ، أوصيك بالتجول في المدينة القديمة “تازة العليا” هناك أماكن استراتيجية تساعدك على التقاط صور شاملة ، سواء للمدينة الجديدة ، “درع اللوز” ، من على سور باب الجمعة ، أو للمدينة القديمة “تازة العليا” .. من منطقة الكوشة …
– ولك أن تأخذ صورا لمناظر ومشاهد متنوعة من اختيارك ، وحسب رغبتك .. فالمناطق التي ذكرت لك ، مهمة جدا ، وتجعلك كما لو أنك تشاهد المدينة الجديدة على الخصوص ، من الأعلى بحكم وضعها الطبوغرافي ..
– إنما دون اللجوء إلى سيارتك .. دعها في مكانها لن تحتاجها .. ما عليك إلا أن تقل الحافلة من أمام هذه المقهى .. لتنقلك إلى الكوشة .. أو الى باب الجمعة .
استمع الأب جيدا لوصايا إبنه وهو يحدثه باستفاضة عن مدينة تازة . وارتأى أن يبدأ باخذ صور عن مشاهد للمدينة القديمة من الكوشة .. حتى أن إسم المنطقة ترك في أذنه رنة خاصة .
لم يمهل الأب نفسه كثيرا ، حيث فضل الإنتقال إلى الكوشة أولا ، ليشبع رغباته في تصوير كل ما يحلو له من مشاهد لآثار البنايات والأسوار وغيرها ، ثم ينتقل إلى المكان الثاني بعدما يكون قد تعرف على تازة العليا جيدا ، وتجول في أسواقها وأزقتها وساحاتها ، وأبوابها .
وقف في المحطة التي ذكرها له إبنه عامر .. فإذا بالحافلة تصل دون تأخر ، آثار انتباهه ماكتب عليها ..”فوغال” .. وهمس في نفسه ..
– سأستبين أمر هذه التسمية من إبني حالما أعود إن شاء الله .
لم تكن الحافلة مزدحمة بالركاب كما ألف في العاصمة ، ولا فيها كثرة الهرج والصياح .. ألفى كرسيا فارغا من الوهلة الأولى . حافلة نقية وتجهيزاتها حديثة .. لاحظ أن معظم الركاب لا يبرحون شاشات هواتفهم .. وهو يستكشف فضاء الحافلة الداخلي ، لمح رمز الويفي مطبوع على زجاج نوافذ الحافلة ..
– آه إنها مجهزة بنظام الويفي ليستمر تواصل وإبحار الركاب داخلها .. !
جرب على هاتفه فتأكد من الأمر .. ابتسم ، وهمس مع نفسه ..
– جميل ..
قطعت الحافلة شارعا طويلا مستقيما وواسعا تحفه عمارات تزيد عن الأربع أو الخمس طوابق ، تحتل دورها السفلية مقاهي عديدة . وعلى طول الرصيف غرست أشجار على الجانبين ، تعطي للشارع بعدا بيئيا خلابا . ثم أحاطت الحافلة في سيرها بمدار كبير ، إتخذت بعده الإتجاه نحو المدينة القديمة وهي تصعد عبر طريق يحيط بالتل الضخم الذي شيدت فوقه تازة العليا بشكل يجعلها تراقب السهول والوديان والتلال المحيطة بها .
دخلت الحافلة من باب تاريخي قديم على شكل قوس ضخم زينت جوانبه بأشكل وزخارف من المعمار الأصيل ، نقشت على حجر يخصص لهذا الغرض .. عبرت بعدها إلى شارع ضيق سرعان ما انفتح على ساحة واسعة ، تحفها بنايات لا تتعدى الطابقين ، زينت واجهات طوابقها الأرضية بأقواس متشابهة .. وانتصبت في وسط الساحة نافورة كبيرة أضفت على المكان رونقا وجمالا .
توقفت الحافلة وألقت ما في أحشائها من ركاب .. وبقي أباعامر جالسا في مقعده وحيدا ..
أوقف السائق محرك الحافلة ، وخرج من قمرته .. رجل في نهاية عقده الخامس قصير القامة مكتنز الجسم شيئا ما ، وجهه مدور وتعلو خديه حمرة خفيفة ، يتوسط الوجه شارب متلاشي الشعيرات ابيضت معظمها ، تثيرك عند النظر فيه ، عينان صغيرتان تزيد من بشاشة محياه .
ثم توجه بالكلام للراكب الوحيد :
– هنا الترمينيس ، النهاية .. الشريف !
– سيدي أنا غادي للكوشة !
إنحنى السائق قليلا وسط الحافلة واستدار نحو الشارع فأشار إليه باصبعه ..
– من هنا ، قدام العمالة .. إن أردت أن تذهب إلى الكوشة .
ثم تدحرج إلى الخارج عبر دريجات بالباب الأمامي للحافلة .
تبعه أبو عامر وانطلق نحو الوجهة التي أشار إليها السائق . خرج من الباب التي دخلت منه الحافلة ، إلى فضاء أرحب ، شارع واسع تنمو على أطرافه أشجار كثيرة وباسقة ، خاصة في الجهة اليمنى ، وتجعل الفضاء تحت رحمة ظلال وارفة .. وحتى لا يتوه عن الطريق ، أوقف أحد المارة ليسأله عن العمالة ..
– هاهي قدامك .. هادي كلها العمالة .
مشيرا بيده إلى السور الخارجي للمؤسسة حيث يرابط في ركنه الأيسر فردان من القوات المساعدة ..
– شكرا .. اسمح لي .. أنا أسأل كذلك عن محطة وقوف الحافلات أمام العمالة ..
– إلى الأمام قليلا .. إستمر في سيرك ستجدها أمامك ..
– شكرا سيدي ..
قطع مسافة لا باس بها ليجد نفسه أمام سقيفة محطة الحفلات ..
بعد إنتظار وجيز ، توقفت الحافلة ..”فوغال”.. لم يجد أمامه من ينتظرها .. صعد إلى داخلها وجلس . عدد الركاب أقل من المرة السالفة .. انطلقت نحو وجهتها ، فإذا بأبي عامر يلاحظ أنها سلكت نفس مسار الحافلة السابقة .. لم يطلب منه الجابي أداء ثمن التذكرة .. فأغفل الأمر ..
وصلت الحافلة إلى مكان توقفها المعتاد ، بعدما دارت كما العادة حول النافورة ، ثم توقفت .
بقي أبو عامر جالسا لوحده بداخلها .
انتبه السائق لوجود راكب وحيد في الحافلة ، فتحرك نحوه دون أن يوقف إشتغال المحرك ..
رجل مربوع القد رياضي الهيأة ، تميل بشرته إلى السمرة قليلا ، طويل الوجه ، وعيناه واستعان تضفي على محياه شيئا من الوقار ..
– إنه نهاية السير سيدي …
– أنا غادي للكوشة …
– عليك أن تأخذ الحافلة من أمام العمالة ..
منها جيت ..!
– آه الحافلة رقم … المحطة المقابلة لتلك التي وقفت فيها آنفا ، على يمين الشارع …
ثم نزل من الحافلة بخطى رشيقة وسريعة .