رن الهاتف رنات متتالية حتى تحرك على الطاولة الملساء أمامي ، وأنا أتلذذ برشفات من فنجان قهوتي الساخنة .. وأستفيد من رطوبة واعتدال النسيم الذي يداعب أجواء المقهى والفضاءات المجاورة لها .. ويبدد الحرارة التي لفحت أجسادنا خلال النهار ..
نظرت إلى شاشته فألقيته على أذني بسرعة .. وأنا كمن يستعجل سماع خبر غير مفرح .. فإبني لا يهاتفني إلا في الحالات الصعبة .. وهذا دأبه منذ مدة …
– مرحبا إبني ..
– أين أنت ؟
– هل هناك خطب ما ؟
– لا.. فقط زارنا ..ع..
– من ؟
– كما سمعت !
– ماذا يريد مني ؟ لقد مرت مدة طويلة لم يسأل عني .. مرت سنة لا هاتف ولا أي شي ….
يقاطعني إبني بسرعة وبجرأة قل نظيرها .. ويرد بكلمات كالسهام الملتهبة صوبها إلى صدري بعشوائية ، ودون انتقاء ، من قوس مصطلحاته العنيفة ..
أآه أاه سطوب .. سطوب .. داك التبرهيش ديالك ما ديروش معايا أنا ..! سمعتي ؟
– دابا غادي جي أه ولا لأ ؟
– أنا بعيد .. دابا ..
يوقف إبني المكالمة ويغلق الخط في وجهي أنا .. أنا أبوه !..
أتابع النداء . آلو آلو ؟ وأنا أمني النفس بأن ما سمعته من كلمات حارقة لم تصدر عن إبني .. أو أتمنى أن يتابع حديثه معي ليعتذر عن ما صدر منه وأنه لم يقصد .. بل فلتات لسان ليس إلا !
لكنه لم يفعل .. لقد كان قاسيا جدا في مهاتفته لي .. كانت المكالمة قصيرة .. إنما مؤلمة جارحة .. وقعت على مسامعي كما الصاعقة .. أربكت سمعي ، وأذهلني هذا الرد وحيرني وكدت أفقد وعيي جراءه …
أنظر إلى شاشة هاتفي والدوار يسيطر على رأسي ، وأحس بحرارة تجوب إطرافي وكل المواقع في جسمي .. وتترك أثارها الحارقة في كل هذه المواقع .. أسرح في نوبة ذكريات موجعة أثقلت أسطوانة تفكيري .. وجعلتني أقلب الحوار المؤلم من كل الجوانب .. وأنا أحاول ربط الماضي بالحاضر بسرعة .. وما سمعته في هذه اللحظات بامور عبثية .. كالتربية والتعليم والقدوة والحلم والإحترام .. بل بدأت أصابع كفي ترتعش وتهتز دون وعي مني ودون ان أتمكن من السيطرة عليها .. أحاول بدون فائدة .. حتى كاد الهاتف ينفلت من بينها ..
– هل ما حدث حقيقة أم حلم ؟ لا يمكن أن يحدثني إبني المتعلم المتخرج من أرقى المعاهد بهذه الطريقة المخزية الوضيعة .. المؤلمة ..!
– إنها حقيقة .. إنها مكالمة واقعية .. إنها سنة الحياة !
الحياة كما هي ..!