لم أنم تلك الليلة ولم يغمض لي جفن بعد رجوعي من المقهى وافتراقنا أنا وصديقي حليم . آويت إلى فراش النوم مبكرا على غير عادتي .. كان إحساسي بالنوم قويا وجدبني إلى السرير بلا هوادة ..
كانت الساعة تشير إلى الساعة التاسعة ليلا ..
لكن النوم هجر جفوني وتركني للأرق وللسهاد ليفترساني ، وتكالبت علي شتى أصناف الهموم والغموم من كل حدب وصوب .. وأصبحت عرضة لكل ضروب الكآبة التي جثمت على أنفاسي .. حتى أصابني الوهن واكتسح كل جسمي .. استسلمت لبراثينه دون مقاومة .. وأمتنعت عن ابتلاع المهدئات أو أي عقاقير لتخفيف معاناتي مع الصداع النصفي الذي شق رأسي وألمني . رجعت إلي كل الهواجس والتخيلات .. وملأت عقلي دون استئذان .. وأنا أعمل جاهدا على ترتيبها وتصنيفها عساني أنتقي منها الأهم والأولى بالتفكير ، لأتفحصها وأنفذ إلى كنهها ..
إنما كما دأبي في علاقتي مع مثالبي .. تتمنع في نهاية المطاف ، وأصطدم بحواجز ترسم أمام كل الحلول التي أتحسسها .. يقال أن كل المشاكل لها حلول !.. وربما تربض الحلول في طبيعة المشكل .. لكن أحيانا لا يدرك العقل هذه المعادلة القيمة .. فيتوه في خوض مغامرات أخرى تبعده عن طريقه وتدخله متاهات لا يعود منها أبدا ..
إختلطت علي الأحاسيس التي أكنها لأمال وبقايا ما ترتب عن أوضاعي الإجتماعية التي أعيشها .. فطفحت على سطح معاناتي خلطة لا مثيل لها تتقاذفني كما تقذف الكرة .. بلا رحمة ..!
تشير الساعة إلى منتصف الليل …
منذ ما يناهز السنة والنصف ، وأنا أجر معي همومي الأسرية .. أحاول تجاوزها لعلي أتخطى هذه المرحلة الصعبة التي عانيت كثيرا من تبعاتها .. الإنفصال .. وسلوكات العنف التي بدت من زوجتي السابقة ومن إبني .. لأعيش حياتي هادئا مطمئنا كما أيها الناس ..
لقد وجدت في صحبة صديقي حليم دائما السند والدعم المعنوي والإجتماعي .. وأحيانا النفسي .. نتداول في مختلف القضايا التي تهم حياتنا ، وندرأ بالأمل والتفاؤل السيء منها .. ثم ظهرت أمال في حياتي .. صديقة قديمة جديدة .. في الحقيقة لم أكن على علاقة وطيدة معها في السابق كانت معرفة سطحية فقط ، كما يقال .. إلا أنها حينما انفصلت هي الأخرى عن زوجها أصبحنا أصدقاء . ربما لأننا نجر نفس اذيال الخيبة والإنهزام .. أو لأنه يجمعنا نفس القاسم المشترك .. صرنا صديقين لا نفوت فرصة دون أن نتواصل في ما بيننا .. نخوض في مختلف القضايا والأحداث ونتحدث في دقائق أمورنا .. بتنا قريبين من بعضنا البعض .. ربما زادت وثيرة التواصل والتقارب بيننا أنا وأمال أكثر من توأصلي مع سي حليم .. أفسر هذا التواتر الكبير في تواصلنا بإرتياح أمال في علاقتها معنا منذ أن كنا انا وزوجتي متعاشرين قبل الإنفصال .. لكن زاد الإرتياح بعده أكثر . ثم لربما ، كما أخبرتني بشرى صديقتها ، حين التقينا خلال جولتنا السياحية ، أن أمال لا تربط علاقات صداقة كثيرة بل تقتصر في دائرة هذه العلاقة على عدد محدودة جدا من الأصدقاء ، حتى لا تنزعج في حياتها اليومية .. إنها نظرتها للعلاقات وفلسفتها الخاصة في الحياة . ربما وجدت فينا ما تأمل في علاقة صداقة .. كما نحس نحن أيضا .. أو نظرا لماضي تعارفنا الذي يرقى إلى أيام الجامعة والنضال الطلابي ، فمهد الطريق وأثثها لنسمو بعلاقتنا إلى هذا النضج الواضح التي تعيشه صداقتنا ..
في تقييمي لهذه العلاقة أجدها مثمرة مفيدة ، نعيش نوعا من التضامن والتكافل على كثير من الأصعدة .. نحافظ فيها على الأخلاق واللياقة في حدود الإحترام المتبادل بيننا ..
لكن التحول الذي طرأ على صداقتنا منذ السفر .. او ربما قبله بقليل ، قلب موازينها وأدخلها في دروب أخرى بدأت تظهر فيها ملامح العلاقة العاطفية أكثر .. لا أنكر هذا .. بل أحسه وأعيشه خاصة بعد الفتور الذي لاحظته في مسلسل تواصلنا في الأسابيع الأخيرة ، الذي أيقظ في هذا الإحساس ..
هل أحبها ؟
وهي ؟ .. هل تحس بنفس الشعور .. وتبادلني نفس الإحساس ؟
لا أخفي أنني أحيانا أسمع أصواتا تهمس لي ، وتفضحني مع نفسي سرا وعلنا ..
– كفاك كذبا أيها العاشق الولهان ! مهما تحاول الفرار من حبها .. فإن الحنين إليها والشوق بلقياها يعذبانك .. رغم تجاهلك لهذه الأحاسيس .. فإنها حقيقة وواقعا عليك تقبله .. !
لا أعتبر سلوكاتها خلال جولتنا السياحية دليل على ميولاتها العاطفية نحوي .. بل أعتبرها أناقة في المظهر ولباقة في التعامل وأدبا في الكلام . حتى لا أحمل الأمور أكثر من ما تطيقه .
صحيح أن إشارة توديعي لما أوصلتها إلى منزل والدتها تطرح عدة تساؤلات .. وتفتح باب التأويل على مصراعيه .. وتجعلني أتخيل وأهيم وأنتج ترابطات معقدة في ذهني .. ولكن !
سأعتبر حركتها تدخل من باب الدعابة والمزاح مع صديقها .. أو أرادت أن تبعث رسائل لا زلت لم أفهم مغزاها وأفك شفراتها ..
إنما أنا أميل إليها .. الآن أحس بالرغبة أن أكون بجانبها أحدثها أشاكسها أغيظها .. وأتلقى ردود فعلها المتميزة التي تسرني وتفرحني وتزيح عني كربي وهمومي .. إنها الحقيقة ..!
أشعر أن بداخلي نبض خاص ، موجع أحيانا ولذيذ أحيان أخرى ، لم أحس به سابقا ، يجعلني أخاف على فقدانها .. والإبتعاد عنها ..
فبالرغم من أن طبيعة مشاكلي كانت إجتماعية ونفسية محضة .. إلا أنني أضفت إليها الآن مشكلات عاطفية ..!
ربما سيكون هنا مكمن الإنفراج ومنطلق الحلول التي كنت أبحث عنها دوما . قد يكون الحل في المشكل العاطفي دون سواه ..
صديقتي أمال سيدة جميلة واعية لا ينقصها شيء مما يطلبه الرجال في المرأة .. تسهر على راحة والدتها بكل مسؤولية ..
ماذا أيضا ؟ ..
بشوشة واجتماعية وطيبة المعشر ..
قد يقول قائل أن سردي لمحاسن صديقتي أمال نابع من نوع العلاقة التي نحن عليها وميولاتي العاطفية نحوها فلا أرى من خصالها إلا الحميدة !
وماذا بعد ؟ فليكن .. ليس لها في ما أعرف خصالا ذميمة .. هذا رأيي فيها .. إنتهى الكلام ..!
الثالثة بعد منتصف الليل ..
إنشغلت كثيرا بالتفكير في صديقتي أمال .. حتى أنني لم أعد أفصل بين حدود الليل والنهار .. النوم والسعي .. تداخلت عناصر اليومي عندي وأصبح الفراغ أحيانا يغلب على برنامجي .. أي برنامج ؟
أعتقد أنه أمر عادي جدا .. أصاب تواصلنا فتور غير مسبوق ، لم نعشه منذ توطيد علاقتنا وتواتر لقاءاتنا خاصة في مقهانا المفضل .. فصرنا لا نفترق إلا لماما .. وبات التواصل بيننا مستمرا .. لكن منذ رجوعنا من سفرنا توقف كل شيء تقريبا .. فلم نعد نتملى بصحبة بعضنا البعض ولا بطيب لقائنا ولا بعذب حديثنا ..
ربما هناك خطب ما أثر على صداقتنا ، أو ربما وجدت أمال ضالتها في إنسان آخر منحها ما لم أستطع توفيره لها .. !
كيف ما كان الحال سأقتحم جدار الصمت هذا وسأتصل بها في الصباح لأستبين أسباب هذا الفتور ولأستجلي جزءا من الحقيقة .. وإن تعذر الأمر ، سأزورها في منزل والدتها ..كفى إنتظارا ! .. تعذبني التخمينات وترهقني كثرة الإفتراضات ، وأنا قابع في مكاني لا أحرك ساكنا ..
إستيقظت بعد منتصف النهار ببضع دقائق .. لم أحس أبدأ باكتساح النوم لجفوني بعدما أرقتني قضية تواصل صديقتي أمال ، ولا في أي لحظة نمت .. إنما كان نوما ثقيلا لم أذق لذته منذ مدة بعيدة بسبب ما أعيشه من مثالب …
راقبت هاتفي الذي لم أسمع منبهه المثبت في التاسعة صباحا من كثرة إنغماسي في النوم العميق …
– يا إلهي .. جاء الخلاص .. أمال نادت علي .. ولم أسمعها وتركت المسكينة رسالة نصية .. يالغباوتي !
– سأتصل بها فور إنهاء توضيب حالي ..
– يا لجمالك وطيبوبتك يا أمال .. كنت السباقة في الإتصال بي .. وأنا قابع في مكاني أخاطب نفسي وأبحث عن الحلول الإفتراضية والمستحيلة ، وتركت الحل السهل ..
– فين ودنك اجحا ؟ هههه ..
– “إتصلت بك في الصباح إنما ظل هاتفك يرن ولم تجبني ، ربما كنت مشغولا .. أريد أن أكلمك في موضوع مهم .. بعد أن تقرأ رسالتي إتصل بي فورا .. صديقتك أمال “..
كان هذا نص رسالة صديقتي الرائعة أمال ..
– ألم أقل أنها طيبة المعشر وحنونة واجتماعية .. ألم تكن عملية فكسرت جدار الصمت الوهمي الذي انتصب بيننا ، وفي عقلي قبل أن يكون في الواقع ..؟
فبادرت بمهاتفتها ..
– مرحبا أمال .. كيف الحال إسمحي لي كنت نائما ولم أستيقظ إلا قبل نصف ساعة من الآن .. بالكاد وضبت حالي .. فأسرعت للنداء عليك ..
– مرحبا صابر كيف حالك .. أعتذر كثيرا على إحجامي على التواصل معك .. أنا مشغولة جدا هذه الأيام ومنذ عودتنا من السفر .. لا تؤاخذني ، أظن أنك ستتفهم الأمر ..
– لا عليك صديقتي .. الغايب حجتو معاه .. أتمنى أن تكوني في أحسن حال .
تقاطعني وهي تلقي على مسامعي دوافع المكالمة والرسالة …
– هل أنت فاضي خلال المساء حوالي الساعة الخامسة والنصف ..؟
– نعم ليس لدي أي إلتزام اليوم .. وحتى وإن حصل .. فأنت أولى بالإهتمام من أي شيء آخر .. أنت صديقتي .. وملاذي الذي يؤنسني ويشاركني همومي ..
تقاطعني ضاحكة وتسمعني تلك الكلمات التي غابت عن مسامعي منذ مدة ..
– أرجوك أيها المحلل الكبير .. توقف واستمع لما سأقوله لك .. سأراك في المقهى .. لأخبرك بالغرض من لقائنا ..
– حاضر صديقتي .. علم .. مع السلامة .
نزلت بسرعة إلى المطبخ وأنا أكاد أطير من الفرح نسيت همومي ونسيت ما تسبب لي قلة التواصل مع أمال من خيبات أمل ، ومن وساوس . وكدت أنفجر بالغناء ، وربما الصياح بأعلى صوتي بكلمات أعبر بها عن رجوع الحياة إلي .. وعودة نبض قلبي إلى حالة الخفقان الذي كان عليها في السابق .. أهيئ طعامي وأنا أرتعش من الفرح .. ينتابني شعور لذيذ لم أتذوقه من قبل .. إحساس بقرب الإنفراج ..!