الحياة كما هي 18

لم تغادر والدة أمال المصحة إلا بعد أسبوع من العلاجات المكثفة والعناية الضرورية اللازمة لمثل حالتها .
فقد سبق للطبيب المعالج التنبؤ بإمكانية مغادرتها المصحة بعد ثلاثة أيام في أقصى تقدير .
لكن المضاعفات المترتبة عن الأزمة التي ألمت بها ، أجبرته على إعادة النظر في تكهناته والإحتفاظ بها أسبوعا آخر حتى استرجعت عافيتها بالكامل .. زرت والدة أمال مرتين في المصحة ،
وأخرى حينما رجعت إلى منزلها .. وأنا أحرص على مؤازرة أمال ودعمها نفسيا ومعنويا لتجاوز الألم الذي عانت منه إثر مرض والدتها .. وما ترتب عنه من مضاعفات نفسية إستمرت لأيام طويلة ..
فهي في حاجة ماسة إلى الرفقة والمؤانسة الدائمتين ..
ثم لأجعلها تحس بقربي أكثر في مثل هذه الظروف التي تمر بها .. لم نخض في مستقبل علاقتنا ولا في جزئيات تفاصيلها .. ولم نتمكن من عيش لحظاتها كما كنا في الأيام السابقة ، خاصة خلال المدة الأخيرة .. فالظرف غير مواتي .. والألم أخذ من أمال مأخذه .. فأجلنا كل عواطفنا ومشاعرنا .. إلى الآتي من الأيام . أطلعت أمال على مشروع سفري إلى بلدتي . وأخبرتها أنني سأغيب عنها خلال بضعة أيام ، أغير فيها الأجواء التي أنا عليها الآن . وأقضي مآرب كثيرة عادة ما ترتبط بزارتي للبلدة .. لم تمانع أمال ولم تعترض على سفري ..
بل شجعتني على تنفيذ ما أنا مقبل عليه .. خاصة وأن والدتها باتت تمتثل للشفاء بشكل واضح ، وبدأت تستعيد عافيتها ، وصارت تتحرك في فضاءات المنزل بمفردها دون مساعدة أحد .. وصلت إلى البلدة في بداية النصف الثاني من النهار .. حوالي الثالثة بعد الزوال . لا زالت درجة الحرارة مرتفعة وآثارها بادية على كل الكائنات .. يخيل لي أن الحرارة تنبعث من الأرض ومن التراب ومن الشجر والبيوت ومن الجو ومن كل الإتجاهات .. حرارة مفرطة تلفح الوجوه والأجساد وتنهكها وتجعلها تتعرق بغزارة ..
لم أعد أطيقها أنا الذي تأقلمت مع الأجواء البحرية المعتدلة التي أصبحت جزءا منها ، وصارت هذه الأجواء بيئتي وموطني والفضاء الذي أستطيب العيش فيه .. لا زالت البلدة كما تركتها منذ سنوات ، فالطريق الوحيد الذي يمر عبرها متربة كما عهدناها ، وضعيفة التهيئة رغم المبادرات التي يقوم بها بعض الشبان ، والتي تروم المحافظة على حالتها الراهنة لاستمرار إستعمالها من قبل سكان مدشرنا أو سكان المداشر المجاورة .. وما زال ربط المنازل بشبكة الماء الصالح للشرب بعيد المنال رغم استفادة بلدات أخرى من هذه النعمة النادرة .. بينما يعاني سكان بلدتنا من نقص مهول من هذه المادة الحيوية .. التحول الوحيد الذي طبع المشهد العام في البلدة هو كثرة المباني السكنية ،
حيث نبتت كما الفطر وبشكل عشوائي دون مراعاة لجماليتها ، أو لشكل إندماجها في البيئة المحلية أو إعتماد نمط معين من البناء .. تجدها قريبة جدا من الطريق الوحيد الذي يمر عبر البلدة ، والتي قد تعرقل إمكانية توسعه في المستقبل . أو ملتصقة بالأراضي المجاورة مما يزيد في حدة توتر العلاقة بين الجيران .. إنشاءات لا تعبر عن حضور المجالس المنتخبة ولا عن مراقبتها لهذه البناءات ولما يقع في البلدة من خرق لقوانين التعمير .. شرعت الأبواب للفوضى والإرتجال والعشوائية ..
خاصة وأن كثيرا من السكان وفدوا على البلدة من بلدات مجاورة او بعيدة ، وأحيانا من المدينة .. واستقروا هنا ، فكانت هذه الوفادة عاملا مفاقما لتردي المجال العمراني في بلدتنا .. فنمت بنايات لا تمت للسكن القروي بأية صلة ..
بل أصبحت كل أسرة توجه منزلها إلى الوجهة التي ترتئيها وتعتبرها صالحة لحالها وترتاح فيها .. نتج عن هذا التمدد العمراني غير المهيكل إلتهام الأراضي الفلاحية رغم قلتها ومحدوديتها .. فزادت ندرتها من تفاقم الأوضاع المعيشية للسكان وانضافت إلى التهميش ولا مبالات الجهات المسؤولة عن التنمية القروية .. حتى منزل العائلة تجدد وعوضت مواد البناء العصرية المواد المحلية التي لم تعد مرغوبة ، وصارت البناية لا تعكس البيئة القروية في شيء ..
عملا بالمثل المحلي المأثور .. “دير كيف دار جارك .. أو حول باب دارك ..” فزاد هذا الوضع المتأزم العام من تعمق هوة التباعد بين الأسر ، إلى حد التنافر ، وتراجعت قوة الروابط الإجتماعية والإنسانية ، وتفككت تلك العلاقات الثقافية التقليدية التي كانت مبنية على التآزر والتضامن والتعاون ، وتلاشت لتفسح المجال أمام مظاهر دخيلة وبديلة دعمت حالات الأنانية والإنطواء ..
فتجلت ملامحها وآثارها في قلة زيارات المجاملة ، حيث غاب السؤال عن أحوال السكان لبعضهم البعض .. وتراجع منسوب المحبة لصالح السلوكات المناقضة .. لقد عاينت بصورة جلية السلوكات النقيضة لما كان سائدا إبان التئام أهل المدشر في مناسباتهم الإحتفالية ،
خاصة حفلات الزفاف والأعراس .. فلم يعد التضامن الفطري المتين الذي كان يسود بينهم هو الغالب .. بل أصبح اللجوء إلى ممون الحفلات والمناسبات هو المظهر الشائع ، سواء تعلق الأمر بالإستعداد للحفل وتجهيزه بما يتطلبه من كل الجوانب ، أو بتحضير الأطعمة وأنواعها .. فتبدل طعم العرس من مناسبة إحتفالية يشارك فيها كل سكان المدشر بما أوتوا من أدوات وأفرشة ولوجيستيك ومحبة وإيخاء ..
إلى مدعويين لليلة الزفاف كما أيها الناس .. وعوضت هذه الليلة اليتيمة أيام العرس التي كانت تمتد على مدى ثلاثة أيام ، ولا تنتهي إلا بالتئام السكان مرة أخرى في اليوم السابع الذي يكون أخر فترة من أيام العرس والفرح الطويلة . كل الأسر في الهم سواسية .. لا تتوفر في البلدة معظم حاجيات السكان اليومية إلا القليل منها . فيلجأون باستمرار إلى مدينتهم القريبة ليتزودوا بكل ما يحتاجونه من مؤن وخدمات ..
فيستنزف هذا التنقل الدائم بين البلدة والمدينة جهدهم ووقتهم ونقودهم .. إبان تواجدي في البلدة عادة ما أبذل جهدا كبيرا في زيارة ما بقي من أهلنا وأقارب وجيران .. أسأل عن الحي منهم وأواسيهم في من فقدوا .. حتى أنه يخيل لي أن شجرة العائلة الكبيرة بالمدشر فقدت جل أوراقها وبعض أغصانها ، وبات ما تبقى منها عرضة للرياح تعبث بها ، وحرارة الشمس تلفحها دون غطاء أو ظل يحميها من لهيبها ..
منهم من فارق الحياة وآخرون استطابوا العيش في المدن التي استقروا فيها بعد انخراطهم في الحياة العملية . فانشأوا أسرا ورزقوا أبناء . فاندمجوا في خضم الحياة بها ، وأصبحت زيارتنا ،
نحن أبناء البلدة المغتربين ، لا تتأتى إلا في مناسبات قليلة .. لا تستكمل إقامتنا في البلدة إلا بزيارة مدينتنا القريبة ، فنستعيد ذكرياتنا فيها ونحيي صلاتنا مع أهلنا هناك ، ونلتقي مع أصدقائنا ولو أن فرص اللقاء أصبحت ناذرة ، فكثيرا من الأحيان نتجول في شوارع المدينة وفضاءاتها ،
ولا نصادف ولو صديقا واحدا .. ونتساءل باستمرار عن هذا الغياب الذي نلمسه في علاقاتنا ونذرة اللقاء وانقطاع التواصل بيننا كلما زرنا مدينتنا ..
ويتبادر إلى ذهني كما لو أن المدينة وبالرغم من صغرها ، ابتلعت كل الذين كانت تجمعنا معهم مقاعد الدراسة أو الجيرة أو اللعب أو غيرها من المناسبات والأوقات .. إنها الحياة التي تتبدل فيها أحوالنا دون أن نعي هذا التبدل ، ودون أن نواجهه بغية التأثير فيه أو تسخيره لمصلحتنا .. إنها الحياة كما هي .. هكذا إذن تمر علينا وتأخذ أوقاتنا وزمن عيشنا وفترات أعمارنا .. نذوب في مجرياتها ، وننساق مع حركيتها وتترك آثارها فينا رغما عنا .. إلا السكون ببلدتنا ، فإنه لا يتبدل ولا يتغير رغم تواتر الأيام والسنين والأجيال .. يؤثث الفضاءات والأماكن ، ويصبح هو الظاهرة التي تطبع كل مناحي الحياة في البلدة .
إلا من أصوات بعض الحيوانات أو صوت نداء .. أو الآذان الذي يسمع من المسجد ، خلال النداء للصلوات الخمس ، والذي يبعد عن مدشرنا مسافة ميل تقريبا .. ويعم الهدوء ما بقي من أوقات بعد ذلك .. حينما أزور البلدة .. بالرغم من نذرة هذه الزيارات .. إلا أنني لا أفوت الذهاب إلى بعض الأماكن التي نحتت في ذاكرتي آثارا طيبة أو مؤثرة .. فأتجول في مسالكها وأتسلق رباها وهضابها وتلالها .. وسفوحها .. وأتذكر فيها كل ما إجترحناه من أفعال ، ونحن صغارا أو مراهقين أو شبابا ..
ومن لعب وشقاوة وحكي وصراع حول قضايا تافهة أحيانا .. إنما كنا نقوم بها لإبراز ذواتنا وتحقيق وجودنا .. إنها سجلات تطفح بالذكريات والرموز أستلذها وأتجول في ثناياها كلما لمست أقدامي تربة بلدتنا المباركة … طيلة فترة إقامتي بالبلدة ، كنت أطلع أمال على كل صغيرة وكبيرة من برنامج زيارتي .. فكان تواصلنا في معظمه حديثا وصورا وأشرطة حية تنقل لها كل ما أعيشه .. ولم تكن تبخل علي هي الأخرى بنقل مجريات معيشها اليومي ، خاصة كل ما يرتبط بحالة والدتها وفترة شفائها ونقاهتها ..
أخبرتني أنها استأنفت العمل وأن خالتها باتت تزورهم باستمرار لعيادة أختها ومساندتها في محنتها والإطمئنان عليها .. لكن المكالمات الأخيرة التي أجرينا أنا وأمال حملت جديدا أثار انتباهي وجعلني أعيد النظر في مدة إقامتي بالبلدة ، وربما إمكانية قطع الزيارة والرجوع إلى العاصمة .. فقد اشتكت لي من حالات الدوار المتكررة التي تحس بها بين الفينة والأخرى .. والتي أرجعناها معا إلى كثرة الإرهاق الذي عانت منه طيلة فترة تواجدها رفقة والدتها بالمصحة ، وربما يعود كذلك لقلة النوم والراحة ..
لكن تواتر حدوثه طرح علامات إستفهام كثيرة بالنسبة لي .. مما جعلني أبادر إلى السؤال عن حالتها باستمرار .. – مرحبا أمال كيف هي الأحوال ؟
لا زلت تشتكين من حالة الدوار المفاجيء ؟ – مرحبا صابر .. أعتذر على إزعاجك .. بمشاكلي التي لا تنتهي .. نعم أحس به خاصة في الصباح وأحيانا بعد الزوال .. – هل زرت الطبيب لعرض حالتك عليه ؟ – لا .. لم أر في الأمر ضرورة لذلك .. أواجهه بشرب عصير الليمون والماء والإسترخاء قليلا .. وقللت من شرب المنبهات .. – لا تستهيني بحالتك .. عليك زيارة الطبيب أو الإتصال به على الأقل ليشخص لك الحالة ، ويمكنك من العلاج المناسب .. – سأفعل إن شاء الله .. إنما لا تنزعج .. فالأمر بسيط وعادي ، ربما كما تحدثنا عن ذلك سابقا يرتبط بالآثار التي خلفها مقامي مع والدتي في المصحة والمراقبة الدائمة لوضعيتها ، فكنت لا أنام إلا ناذرا .. أظن أنه الإرهاق والعياء لاغير .. – حسنا إنما لا تبخلي بإخباري بكل جديد وباستمرار فأنا أنتظر إتصالك .. ورسائلك .. مع السلامة . إنقضى أسبوع من إقامتي بين ظهران أهلي بالبلدة ، ولم أرتو من معين المحبة والوئام الذي جمعنا خلال هذه الزيارة ، وأنا أمني النفس بتمديد فترة الزيارة بأيام إضافية حتى أخمد منسوب الإشتياق الذي أحمله للبلدة ولأهلها .. وحتى أجوب كل الفضاءات .. وأشبع رغبتي في زيارة مدينتنا والتملي بأجوائها البسيطة المفعمة بعبق التاريخ وجمال الجغرافيا .. لم يمر على توأصلي بأمال إلا بضع ساعات ، حتي رن هاتفي من جديد ، إنما ظهر هذه المرة إسم حليمة ورقمها ،
فتأكدت من أن الإتصال يحمل أنباء غير سارة .. ! ما أن فتحت الخط حتى أسرعت حليمة في إخباري بأشياء لم أستبنها في البداية .. لأنها تسرع في الكلام وتتلعثم فيه .. – مرحبا حليمة . أرجوك إهدئي قليلا حتى أفهم كلامك .. – سيدي لقد أصيبت أمال بوعكة صحية مفاجئة ، ونقلتها أمي وأخي إلى مصحة الراحة .. وحالة خالتي مضطربة جراء إصابة أمال .. أرجوك سيدي إفعل شيئا .. لقد نبهتني أمال بضرورة الإتصال بك قبل إصابتها بالإغماء .. – ماذا أمال ؟ إغماء نقلت إلى المصحة .. ياإلهي .. ماذا حدث ؟ ….
لم أتمم مكالمتي مع حليمة فقد أسرعت في الإلتحاق بالمصحة رغم المسافة التي تفصلني عنها .. قطعت زيارتي إذن للبلدة ، ووجهت كل إهتمامي لحالة أمال . وأنا أستعيد مكالمتها الأخيرة معي وحديثها عن ما ألم بها وأحاول إيجاد تفسير لما وقع .. طلبت من حليمة أن تبعث لي برقم أخيها حتى أطمئن على أحوال أمال وأعرف حقيقة نقلها إلى المصحة ريتما أصل إلى هناك .. إنما لم أحصل على ما يشفي الغليل .. أدخلت أمال مباشرة إلى قسم الإنعاش .. فتعذر معرفة جديد حالتها . إنما كانت الممرضة تطمئنهم بالتي هي أحسن .. فالأمر يتطلب متابعة طبية مركزة وإجراء تحاليل ومعاينات ، حتي يتمكن الطبيب المعالج من تجميع استنتاجاته وتكوين رؤية واضحة عن حالتها ..

.. النهاية ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top