الحياة كما هي 8

ألفاني صديقي سي حليم وحيدا أرشف قهوتي في مقهاي المفضل ، كما اعتدت على ذلك عشية ، وكلما سنحت لي الفرصة . دعوته إلى الجلوس إلى طاولتي ، فأسر لي أنه هو الآخر أتى إلى هذا الفضاء الهاديء لنفس الغرض .. ولو أنه عاتبني عن إمساكي عن التواصل معه منذ مدة .. أو قل منذ أن تداولنا في موضوع أحداث الإنفصال التي أعيشها وما يترتب عنها من تبعات .. والمآل الذي صارت إليه حياتي …
– أنت تعلم سي حليم بما آلت إليه ظروفي هذه الأيام .. ولعل لقاءنا المرات السابقة وتداولنا بشكل مستفيض في الأمر جعلك على بينة من كل معاناتي .. إنما انشغلت أيضا بأشياء تهم صديقتي أمال ، فأثر هذا الإنشغال على برنامجي قليلا ..
إنني أنتظرها الآن .. قد تحضر إلى هنا في أية لحظة ..
– ماذا ؟ أصبحت لك صديقة الآن ؟
يتحدث ويمزج كلامه بضحكات بريئة ..
– هذا خبر مفرح ! ربما ستنسيك معاناتك .. إنها علامة على بداية إنتقالك إلى مستوى آخر في حياتك . وقد كنت تنبأت لك بهذا التحول .. فالحياة ليست جامدة .. وكلما كان هناك سعي إلا وتبدلت أحوالنا رأسا على عقب .. فالحياة حبلى بالمفاجآت السارة كذلك ..
– ايهه ما أخبار صديقتك أمال ؟
– لا شيء يستدعي الحديث في الأمر ، إنها صديقة وكفى ..
– ولكنك تتحدث عن صديقة الآن ؟ يعني إصطلاحا هناك علاقة .. وصداقة وتواجدكما معا في غالب الأحيان ! هذا شيء ممتع .. ويسعدني أنك تمكنت من العثور على مؤنس ينسيك مشاكلك ..
– ربما ما تقوله وتفكر به يستحمل بعض الحقيقة . لكن دعني أخبرك بشيء ربما سيجعلك تفهم علاقتي بأمال الآن .
– تفضل صديقي صابر ، هات ما عندك ..
– ترجع علاقتي بها إلى مرحلة الدراسة في الجامعة .. كنا معا أيام النضال والجمعية الطلابية .. واليسار .. وأشياء أخرى ، إنتهت الآن .. إنما كانت هي مرتبطة آنذاك بسعيد رئيس الجمعية المناضل اليساري المعروف . حيث عاشا حياتهما عادية طبيعية في المراحل الأولى من زواجهما . لكنه بعد خروجه من السجن ، إثر السراح والعفو الذي استفاد منه هو وباقي سجناء الرأي ، ظهرت على تصرفاته وسلوكاته تغيرات جذرية أثرت على بعض مناحي حياته . لعل من أبرزها علاقاته مع بعض أصدقائه .. فشعرنا بفتور في وثيرة علاقته معنا على الخصوص . لكن بالمقابل استمرت زوجته أمال تتواصل معنا بشكل طبيعي ..
– غريب .. فربما كان السجن مناسبة ليعزز سلوكاته وأفكاره بأشياء إيجابية ليستقبل الحياة ، ويستشعر قيمتها بتفاؤل أكبر .. ؟
يضيف صديقي حليم بعدما علم بالتغيرات التي طبعت حياة سعيد بعد السجن ..
– أتفق معك سي حليم .. إنما كان له رأي آخر واعتمد توجهات جديدة في حياته ، وهو حر في اختياراته .. بعدها علمنا أن علاقته بأمال ساءت كثيرا .. فأنهياها بالإنفصال الذي كان حلا رضي به الطرفان ..
– بعد هذه الأحداث ، استرجعنا وثيرة الصداقة من جديد مع أمال .. بينما تحفظ سعيد من هذه العلاقة ، وأنهى تواصله معنا ..
– هل تذكره الآن بعد هذا الحكي عنه ؟
– لا . ربما لأنني لم أكن أهتم بالنضال الطلابي وقتها ، فأنا كما تعلم إلتحقت بالجامعة أتابع دراستي بسلك الإجازة وأنا موظف .. الشيء الذي جعلني لا أبالي بما يجري في الساحة الطلابية ، وكنت أنأى بنفسي عن السياسة .. ههه ..
– آه صحيح نسيت .. أتذكر مجموعة من الموظفين كانوا معنا في مجموعتنا أيضا .. إنما أحتفظ بذكريات جميلة جمعتنا معهم خلال فصول الدراسة ..
– لنعد إلى السيد سعيد ..
يطلب سي حليم أخبار سعيد ، كما لو أنه يستعجلني لأخبره بالمزيد ..
– ساهم موقعه كرئيس الجمعية الطلابية في استقطاب وجمع عدد من الطالبات والطلبة حوله ، وشكل تيارا راديكاليا في الجمعية . عادة ما كان يدخل في مواجهات ومناظرات مع الفصائل الأخرى ذات التوجهات السياسية المعتدلة ، المنتمية أيضا للجمعية . وكان يعلن على الملأ أفكاره وتوجهه الاشتراكي الواضح . كان يجيد فن الخطابة والإقناع .. ويعتبر الثورة الوسيلة الوحيدة للتغيير وفسح المجال أمام ديكتاتورية البروليتاريا . ههه ..
– لا زلت أتذكر صولاته في حلقات الطلبة داخل بهو الكلية ، وهو يستشهد لدعم أفكاره ، بالنظريات الماركسية واللينينية وغيرها من أفكار الإشتراكيين الذين ساهموا بكتاباتهم في تأجيج الرأي العام الطلابي والشبابي بالخصوص .. فأحداث ثمانية وستون الفرنسية كما تعلم ، لم تكن عنا ببعيدة .. حوالي عقد من الزمن على اندلاعها .. فبقيت آثارها واضحة على نضال الطلبة خاصة في دول العالم الثالث ..
أستمر في الحكي ، وسي حليم كله آذان صاغية ..
– بعد تخرجنا في الكلية وحصولنا على الإجازة .. تفرقت بنا السبل . حيث إلتحق كل واحد منا بما كان يطمح إليه .. فكان المعهد هو المحطة التي التقينا فيها أنا وأنت .. وأنت على علم بباقي أحداث القصة كاملة ..
– تعني المعهد الذي ولجته أنا لأحسن وضعي الإداري والمادي ؟ .. نعم لقد كانت سنة مليئة بالمفاجآت والذكريات التي أغنت تجربتي كطالب في التعليم العالي .. وفتحت لنا المجال لنتابع دراساتنا العليا ..
– من أجمل المراحل في حياتي .. لن أنساها ما حييت ..!
يتذكر حليم أيام الجامعة والمعهد بانتشاء كبير . ثم يضيف ..
– ماذا عن سعيد المناضل ؟
يتشبث بمعرفة المزيد عنه ..
– بعد تعيينه في وظيفته الجديدة ، وفي إطار اللقاءات التي كانت تنظمها المديرية الجهوية لوزارتنا بالعاصمة .. التقينا صدفة في إحدى هذه اللقاءات . وجددنا تعارفنا ، وتحدثنا عن ما بعد التخرج .. حيث عين هو وزوجته أمال مباشرة في أسلاك الإدارة دون المرور عبر المسلك الذي سلكناه أنا وأنت والآخرون .
– إنما لمست فيه تمسكه بأفكاره الراديكالية و رفضه لكل الروتين الإداري ، أو ما كان يسميه .. بالبيروقراطية .. والإملاءات التي تنزل من الفوق حسب إعتقاده الراسخ . وأحسست بعنفه الفكري كما لو أنه لا زال في الحلقات الطلابية يخطب في مناضلي الجمعية ويناقش أفكارهم ..
بينما أخبرني أن زوجته أمال عينت في وزارة الثقافة حيث تشرف هناك على قسم النشر والتأليف .
– جددنا لقاءاتنا في الفضاءات العمومية ، وكنا نتداول في الأخبار الرائجة حول كل القضايا السياسية والاجتماعية وغيرها .. و تبين لي من خلال خطابه أنه ماض في نضاله وتشبثه بأفكاره الراديكالية .. حيث التأم مع بعض التيارات اليسارية المتطرفة .. فكان يجتمع بهم باستمرار في أحد المنازل إلى أن باغثتهم دوريات أمنية .. فحوكموا وسجنوا بضع سنين بتهم التآمر على النظام والتهييء للقيام بعمليات تخريبية لمنشآت الدولة ..
– إنها عادة التهم الجاهزة التي كان يلفقها النظام لكل اليساريين والراديكاليين .. أيام سنوات الجمر والرصاص ..
يقاطعني سي حليم ليؤكد لي إطلاعه على مجريات الأوضاع السياسية بالبلاد .. ويضيف ..
– وأمال أي رياح عصفت بها ؟
– استمرت تزوره في السجن بعدما استقر الأمر به ، وبمجموعته المعتقلة ، بسجن العاصمة .. وكنت أنا وزوجتي ، التي تعرفت أيضا على أمال في وزارة الثقافة ، أثناء تسلمها جائزة عن إصدارها حول التاريخ النسوي .. كنا نزور سعيد أحيانا في سجنه بصحبة أمال .. فتمتنت علاقتنا من جديد ..
أتوقف قليلا عن سرد حكاية سعيد لإنظر إلى شاشة الهاتف وأنا أرقب الساعة .. ثم أرشف رشفات من كأسي الذي لم يعد ساخنا كما كان في الأول .. وسي حليم بهدوئه المعتاد ينتظر بقية الحكاية ..
ثم أستمر في الحكي دون أن يطلب مني صديقي ذلك ..
– لاحظت مع توالي الأيام ، وفي إحدى الزيارات ، إمساك سعيد عن الجهر بمعارضته للنظام ورفضه للسياسات المتبعة ، وعن تلويحه بخيار الثورة وما يؤطرها من أفكار راديكالية .. بل بدأ لي هادئا كما لو أنه رضي بنصيبه المقدر في حياته .. ينصت أكثر مما يتحدث .. ويسأل بهدوء .. بل أنني لاحظت تلفظه بكلمات .. مثل الله يصاوب .. ماشاء الله .. واللهم يسر .. اللهم اجعله خير .. كلما حكت له زوجته أشياء تخص العائلة أو تتعلق بعملها ..
– ربما غير من تصوره للنضال والتغيير .. فقد تزامن وجوده في السجن مع حدث إنهيار جدار برلين وتفكك الأنظمة الاشتراكية في أوربا ، وانتهاء دولة الاتحاد السوفياتي بعد إعلان رئيسها عن سياسته البريسترويكا والكلاس _نوص .. وغيرها من التحولات السياسية التي عرفها العالم وقتها ..
– تحدثت أنا وزوجتي ، ونحن في طريقنا إلى المنزل ، عن إرهاصات التحول الذي بدأت تظهر على خطاب سعيد ، إثر التغييرات المتتالية في السياسة الدولية واندحار الفكر الإشتراكي .. وربما أثر ذلك عل أفكاره .. فقد يكون صبيء سياسيا !!
يعلق صديقي على كلامي وهو يدلي بدلوه في الحديث عن هذه التحولات ..
– صحيح أتفق معك حول كل ما أوردته عن النتائج الكبيرة التي أحدثتها سياسة البريسترويكا . وعن ظهور دويلات عند أطراف الاتحاد السوفياتي سابقا روسيا حاليا .. وهي قوميات ساندت استقلالها الدول الغربية لأضعاف روسيا أكثر ..
– إنما هناك مثال صارخ عن التحول الذي عرفه الإتحاد السوفييتي .. حينما استقبل العالم آخر مواطن سوفييتي ..
سيرجي كريكاليف .. أظن رائد الفضاء الذي صعد إلى المحطة الفضائية مير ، مواطنا سوفييتيا .. وهبط على الأرض مواطنا روسيا .. وهو يرتدي بدلته الفضائية المزينة بالأحرف اللاتينية ، التي ترمز إلى الإتحاد السوفييتي .. ويلوح بعلم دولة لم يعد لها أي وجود على الخريطة ..!
– فعلا كانت صورا مذهلة لذلك العالم الذي مكث سنة في تلك المحطة الفضائية .. ظهر ضعيفا وهنا لا يقوى على الحركة .. كما بلاده ..
يقاطعني سي حليم .. وهو يتساءل ما إن كان سعيد تأثر بخطاب الإسلام السياسي ، خاصة وأن من بين سجناء الرأي ، يوجد الإسلاميون ..؟
– ربما وهذا تفسير وارد لما أصبح عليه سعيد في ما بعد من فتور في الإندفاع أثناء الكلام .. بل وإهماله لقاموسه السياسي الثوري ..
– بعد ذلك ، حالت أوضاعنا الأسرية دون الإستمرار في زيارة سعيد . وانقطعت أخباره عنا مدة من الزمن .. إنما بقيت أمال على إتصال معنا ، خاصة في المناسبات الرسمية ، فكانت تعلمنا بين الفينة والأخرى بما جد في ملف سعيد ..
– مع التحول السياسي الذي عرفته البلاد وإنتقالها إلى العهد الجديد الذي تميز بالإنفراج السياسي وتحرير المشهد الإعلامي والسياسي ، وتقليص المضايقات حول حرية الرأي والتعبير .. وغيرها من المجالات التي اتسعت فيها هوامش الحرية .. توج هذا الإنفراج بإنشاء هيأة الإنصاف والمصالحة لجبر ضرر سجناء الرأي .. فكان سعيد ومجموعته من ضمن المستفيدين من إنفراج الأجواء السياسية .. حيث توصلوا بتعويضات مادية ، وقرارات التعيين في مناصب إدارية من أجل ادماجهم في الحياة العامة ..
يثمن سي حليم كلامي .. ويستدل بأمثلة لأشخاص غيبوا عن أسرهم في الإعتقال التعسفي بآدائهم ضريبة النضال من أجل الحرية وحقوق الإنسان .. ويضيف مستطردا..
– هذا حكي عن سعيد المناضل الذي أدى هو الآخر ثمن حريته من أجل أفكاره ومواقفه من الظلم والتفاوت الطبقي والتعسف الإداري .. لكن ماذا عن أمال ..؟
يسأل وهو يضحك ضحكا خفيفا يأمل من ورائه تعبيد الطريق لأعترف له بأمر يروج في عقله بالرغم من أن علاقتنا عادية لاشية فيها ..
أجيبه مبتسما حتى أنخرط معه في الحديث من جديد .. غير أن قدوم أمال نسف خطته وأرغمته الأوضاع الجديدة على الإنسحاب .. وهو يأمل في الإستماع إلى باقي الحكي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top