الحياة كما هي 9

جلبت لأمال كرسيا إلى طاولتي حتى أجعلها قريبة مني أكثر .. نتجاذب أطراف الحديث بحميمية الأصدقاء .. جلست وهي تصدر زفرات متتالية وتنتهيدات عميقة ، كما لو أن نفسها ضاقت عليها ، أو ترزخ تحت نير حمل ثقيل .. وعلامات الكآبة تلون وجهها وتجعله مختلفا عن العادة ، فهو خالي من كل الرتوشات التجميلية التي عادة ما تبرز نضارته وإشراقته ..
كان الطقس معتدلا يؤثثه نسيم بحري رقيق يحمل معه رائحة البحر التي تصلنا بين الفينة والأخرى .. فالمقهى لا تبعد عن الشاطيء كثيرا .. يحجب زرقة السماء سديم من الضباب الراكد .. ومصابيح الإنارة في الشارع بدأت ترسل أضواءها تدريجيا معلنة عن بداية اكتساح العتمة للفضاءات من حولنا ..
لم أجرؤ على استفسارها حول الحالة التي هي عليها .. فقط ربطتها وبسرعة في عقلي بأحوال أمها الصحية .. أو تأثرها بما تسمعه من أخبار عن زوجها السابق .. فأنا أعرف جيدا حدود علاقتها به ومخلفات هذه العلاقة رغم انفصالهما .. وموقعه في قلبها وكيانها .. علاقة قلبت حياة أمال رأسا على عقب .. فأنا متأكد من أنها لا زالت تحبه أو على الأقل لا زالت تؤثث له مكانا خاصا به في قلبها ، رغم صده لها ونفوره من شعورها وأحاسيسها التي لا تظهرها أمامه جهارا .. بل تلمس من خلال ما يقرأ في عيونها ونظراتها وكلماتها ، التي تكون لها مخارج صوتية خاصة حينما تتحدث إليه أثناء لقاءاتهما الناذرة جدا ..
أنا متأكد من أنها لا زالت تعزه وتمني النفس ربما بأشياء خارقة .. قد تقع . بينما أخرجها هو من حياته نهائيا . ربما قبل مغادرته السجن ! فقد استفاد بعد إعتناقه الحرية ، من أريحيتها ودفئها وتضامنها .. إنما ، وحسب ما حكت أمال لزوجتي وقتها .. أنه كان فاترا في حميميته معها ، بل كان يفضل الإنعزال وينشد السكون والخلوة .. وهي مسألة أرقتها كثيرا وعذبتها بشكل زاد من كآبتها وحزنها الذي تحول إلى جراح لم تندمل إلى الآن ، رغم بشاشتها أحيانا وانفراج أساريرها وظهورها بمظهر الفرحة بالحياة والمقبلة عليها ..
إحساس أترجمه لرصد ومعرفة حالها وماهي عليه الآن . إنها معاناة لا يحس بها إلا من اكتوى بها .. وأرقته وغيرت مسار حياته بشكل قوي ..
– نحن في الهم سوى يا حبيبي .. !
قالتها لي في إحدى مكالماتها معي .. وهي تعي جيدا ما تقول ..
أتفق معها على كل كلمة نطقت بها ، وعلى كل ما ضمنته من إشارات وتعابير في ما قالته .. فنحن نمر من نفس الأزمة .. أزمة الإنفصال .. والتباعد بين جسدين وروحين وعقلين .. وكل تلك الثنائيات التي تجمع إنسانين .. إنما ليس جمعا إلى الأبد ههه .. كما يصرح بذلك القسيس حينما يبارك زواجا كاتوليكيا في كنيسة غاصة بحضور أنيق صامت يقدر اللحظة التي هو فيها ..
أثرت علي وضعية إنفصالي عن زوجتي بنفس المستوى الذي تحسه وتعيشه أمال .. ولو أنها تختلف عني في طبيعة ما أعانيه أنا .. خاصة منذ أن بلغها خبر زواج سعيد ، وبعد أن منحته زوجته الحالية مولودا ذكرا فيما بعد . الشيء الذي لم تتمكن هي من تحقيقه .. بالرغم من أنها مقتنعة بالحكمة الإلهية وراضية بقدرها وبنصيبها من الذرية .. لكنها أحيانا تضعف فيتلاشى إيمانها بهذا النصيب المجحف بالنسبة لها ..
يقوى ألمها ويزداد ، وتكفهر الدنيا أمام أعينها كلما سمعت أخبارا عن أن سعيد رزق مولودا آخر .. فتعود لها كآبتها وتبدأ في سرد تلك الأسئلة الوجودية التي تخزنها في ذاكرتها ..
ولعلها تمر اليوم بنفس الحالة التي عاشتها منذ بضعة سنوات .. لم تستطع تجاوز هذا الإحساس بالألم جراء عدم قدرتها عيش حياة الأمومة التي تطمح إليها كل أنثى ..
إنه مجمل إحساسي وشعوري بآلامها .. ومعاناتها .. راج في بالي بسرعة وأنا أستطلع محياها الحزين .. وعيناها المحوطتين بآثار الإرهاق ..
– مرحبا أمال .. أراك هادئة على غير عادتك حينما نلتقي ؟ هل هناك خطب ما ؟
– أف .. من هذه الدنيا البائسة .. أحس أن الأرض ضاقت علي بما رحبت .. لا أدري .. هناك مغص غريب ومزعج ينتقل في أحشائي ويرهقني ويتعبني .. دون أن أتمكن من تحديد طبيعته أو مكانه .. يتنقل كما النزق من جنب إلى آخر ..
– السلامة ! .. يبدو أنك في حاجة إلى فترة راحة ونقاهة لا أقل ولا أكثر ..
– أنا في فترة راحة دائمة يا صابر .. ماذا صنعت بها وخلالها ؟ لا شيء .. راكمت فقط كومات من الهموم والأحزان والمآسي .
تفك العنان لغضبها الذي كانت تواربه خلف نظراتها الحزينة ، فينطلق كلامها كالسهام الملتهبة .. لرسم لوحات حزينة ومتلبدة بكل ألوان الهموم والأسى ..
– تبدو متشائمة أكثر من اللازم يا صديقتي ! ما بك ؟
– كان حريا بك أن تنعتني ربما بالواقعية أكثر .. يقتلني روتين الحياة ، والمعيش اليومي ! ربما أنا في حاجة إلى سفر بعيد لتغيير هذه الأجواء التي أختنق فيها .. أريد أن أتنفس هواء آخر نقيا صافيا لا يحمل أية ذرة هم أو كآبة .. أتوق لفضاءات أوسع وأرحب مما أنا فيه الآن ..
– ياه .. لم أرك على هذا الحال من قبل .. ماذا دهاك .. يا أمال .. ؟ أشاطرك الرأي .. فتغيير الأجواء يهديء النفس ويعدل المزاج ويجدد الأفكار ..
– إنما حالك يخفي شيئا ما .. يا صديقتي أمال ..
– الامال !.. لا أمال ولا أمل . إنتهى كل شيء وضاع الأمل .. لم يعاكسني القدر ؟ لم تتلبد سمائي باستمرار ولا تنقشع ؟ .. آمل أن تزهر حدائقي وتلمع شمسي وتهدأ عواصفي الهوجاء .. أريد أن أعيش سعيدة .. أليس من حقي أن أسعد وأفرح ؟.. أنا إنسانة عادية لم أرتكب أي جرم يجعلني أعذب وأعاقب بالكيفية التي أقضي بها عقوبتي الحالية ..
– يا إلهي .. أي ذنب هذا الذي أذنبته لأشرد على طرقات الحياة القاسية .. وأرمى في غياهب دروبها المعتمة .. لا أحصد إلا الفشل .. والمآسي .. أتنفس الألم وأنام على الكوابيس .. لا أحلم !.. وددت لو أنني حلمت مرة واحدة فقط حلما ورديا جميلا أضمد به جراحي وألملم به أحاسيسي .. مرة واحدة فقط .!
أنظر إليها وهي تبث شكاويها للقدر ، للسماء ، للناس ، لي . لكن ما عساني أن أفعل .. فمطالبها أكبر من أحلامي وأوسع من تفكيري .. أنا الأب والزوج .. الذي !
فكلما لمحت سعيد وزوجته وأبناءه إلا واشتد لهيب نيران الألم الذي يمزقها .. ويقض مضجعها .. ألم الأمومة !
– آه يا أمال تحملين هموما أكثر من طاقتك .. لا عليك يا صديقتي .. “ديري الهم فالشبكة .. كلشي يطيح حتى حاجة ما تبقى “!
– كيف يا صابر كيف .. ما السبيل إلى ذلك ؟ مستحيل هذا الذي تنصحني به !
– في الحقيقة يصعب وضع خطة واضحة ، أو الإتيان بوصفة جاهزة شاملة مانعة .. لكن ربما بقليل من الصبر والتجاوز .. يمكن الإرتقاء إلى مستوى أحسن ..
ألجأ إلى البحث عن مفردات تحمل دلالات محددة للتخفيف عنها ، أو تقديم النصح لها عساها تتخطى ما يؤلمها .. ولو أنني أجزم بصعوبة الموقف ..
– ألصبر .. أي صبر هذا الذي تنصحني به ..؟ لقد نفذ الصبر وأصبح يشتكي من إحتجازي له طوال الوقت .. لا يا صابر .. لا تنصحني بالصبر ! إبحث لي عن مسكن آخر .. فدواخلي مشتعلة وأحشائي تتمزق .. مغص لعين ينط في بطني من ركن إلى آخر ..
– أنا لا أنصحك بل أشاطرك همومك وأقاسمك أحزانك وأعيش مآسيك .. فوصفة الصبر قد نستفيد منها نحن الإثنين .. كلانا في حاجة ليس إلى مهديء واحد ، بل مهدئات ومسكنات .. ولكن علينا تجاوز هذه المرحلة المظلمة ، وإلا ستشتد عيلنا وطأتها ولا نستطيع تجاوزها بعدئذ ..
تنظر إلي كما لو أنها شاردة .. تمرر سبابتها على أرنبة أنفها . وتشيح بنظرها عني .. فأحاول تغيير موضوع حديثنا ..
– دعينا من هذا الجدال العبثي الذي لا يفضي بنا إلا لعمق ما نعانيه ، ويجعلنا نحوم حول حلقة مفرغة قد تؤسرنا إن نحن نفذنا إلى أعماقها ، وتبدد ما تبقى من أحلامنا ..
– لا زلت تذكر الأحلام .. ربما تقصد الأوهام ؟
نصمت دقائق ونحن نجول بأعيننا في شاشات هاتفينا .. بشكل عشوائي ، لا نستقر على حال ، ولا ندرك ما نريد .. إنما نحملق فيها ونجتر قضايا باتت من المعيش اليومي بالنسبة لنا نحن الإثنين .. تقطع أمال الصمت الذي يحفنا بزفرات وآهات تحاول كبحها ، إلا أنها تنفلت منها رغما عنها بين الفينة والأخرى ..
– ماذا تشربين ؟ لم تطلبي أي شيء منذ أن وصلت ..
– نفسي مسدودة يا صابر .. لا أدري .. إنما لتكن قهوة عادية مهيأة بعناية .. ربما تكون دواء لدائي ..
– ههه .. إن كانت القهوة تكفي لعلاج ما يخالجك .. فدواؤك مقدور عليه .. ربما ستنعشك وتجعلك تفكرين أفضل ..
– ربما .. آمل ذلك .. !
– لم تحدثيني عن والدتك ..؟ وعن ما أصابها ؟ ألم يكن هذا هو موضوع إلتزامك اليوم ؟
تهز رأسها بالإيجاب ، وهي لا زالت تنظر إلى شاشة هاتفها ..
– الحمد لله على كل حال .. مرت بأزمة قلبية بسيطة .. ربما نتيجة قلة الحركة وعدم استمرارها في المحافظة على حميتها .. فقد وصف لها طبيبها دوائين فقط .. إنما أكد على ضرورة ممارستها لرياضة المشي بشكل دائم .. مع الابقاء على نفس الحمية والانضباط في أخذها ..
– ربما إهتمامها المبالغ فيه بحالتي زاد من تسرع إصابتها ..
– أصبحت تعاملني منذ أن انفصلت عن سعيد ، كما الطفلة العديمة التجربة .. تستفسرني في الشادة والفاذة ، وأين ذهبت ومن أين أتيت وووو .. قد يكون هذا الإهتمام إحدى أسباب معاناتي أنا أيضا !
– أنت محظوظة .. أنك تعيشين مع أمك .. تمسين وتصبحين على كلامها ووجودها بجانبك واهتمامها بأمورك .. أنت قريبة من نبع الحنان يا أمال .. بل أنت في خضمه !
– ربما .. ولكن بت أتوق للحرية أكثر وإلى العيش حسب هواي ومزاجي .. أن تعيش في فضاء به حدود وموانع ونظام مفروض عليك أو ضدا على إرادتك .. قد يرفع من مستوى الضغط لديك فيضيق صدرك ولا تستطيع التحمل أكثر ..
– ياه .. إلى هذا الحد تنزعجين من العيش مع والدتك ؟
– ربما ليس انزعاجا ولكن .. كبرنا على مثل هذه التوجيهات والإهتمام الزائد ، ونريد اختيار نمط حياتنا والبحث عن توازناتنا .. والعيش في هدوء أحيانا .. وبدون تحديد للمسار الذي نتحرك فيه .. نريد الحرية يا صابر ..الحرية !
– فهمت .. إنما ليس لك إختيار آخر .. فوالدتك في حاجة ماسة إليك .. وربما تحتاجينها أنت أيضا .. أليس كذلك ؟
– ربما فالأم ذخيرة لا تعوض ولا تنضب .. إنما .. أحيانا يكون الإبتعاد عن أي كان لبعض الوقت مجبر للخواطر .. ومعزز لمنسوب الإشتياق .. وهذا في حد ذاته مفيد للعقل والجسم .. ربما تبدو لي الأمور على هذا النحو أقرب إلى الصواب ..
– ربما .. أشاطرك الرأي .. فقد فهمت قصدك وحاجتك إلى تغيير الأجواء ..
– آه كدت أنسى سبب تواجدنا هنا . تبا لذاكرتي التي أصبحت تخونني بين الفينة والأخرى !
أتذكر الموعد والحاجة إلى أمال .. لكن ربما حالتها النفسية التي هي عليها قد لا تساعد على الخوض في موضوع اللقاء .. إنما .. سأجرب ..
آه صحيح .. فيم ستحتاجني يا صديقي ؟ ..
– في الحقيقة كنت أود أن أسألك عن شقتك .. ما إن كانت شاغرة وتريدين كراءها لي .. فأنا في حاجة ماسة لشقة آوي إليها وأعيش فيها .. ماذا تقولين ؟
– الشقة ؟ لماذا هل طردتك زوجتك من المنزل ؟ هههه .
وتتبع كلامها بضحك خفيف تمكنت فيه أساريرها من الانطلاق والإنشراح ولو للحظات ..
– لا . لم أطرد بعد .. هههه .. ولكن أفضل كما حكيت أنت قبل قليل .. الحرية والإختلاء بنفسي .. أما الباقي فلا يهمني في شيء ..
– سأنظر في الأمر وأجيبك قريبا ..
تتحدث إلي وهي تنهي فنجانها برشفات أخيرة ، وتحرك بسبابة اليد الأخرى المعلومات على شاشة هاتفها مركزة النظر فيها ، وهي تضعه على الطاولة ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top