“الرشيـد” و”أيام العروس” في “الرقة”

“الرشيـد” و”أيام العروس” في “الرقة”

25/4/2020______________________
تمتعت “الرقة” أيام “الرشيد” بعصر مجيد, لمع فيه كوكب سعدها, ويا ليته يلمع اليوم, وشع نجم حضارتها, وتعددت أسواق نهضتها الأدبية, فدعا المؤرخون والمفكرون ذلك العصر باسم “العصر الذهبي”، وذلك تعظيماً لقدر رجال ذلك العصر, وتمييزاً له عن سائر العصور الأخرى. وقال الراحل مصطفى الحسون طيب الله ثراه (..وإذا كان الفرنسيون قد عظموا ملكهم ” لويس الرابع عشر” الذي كان بحق, أكبر عاهل في أوروبا في عصره, فإنه يحق لنا نحن العرب والمسلمين أنْ نتفاخر بالخليفة “هارون الرشيد”)( الحوليات الأثرية السورية), الذي سبق الملك “لويس الرابع عشر” بألف سنة تقريباً.
وإذا ما طاب لنا الحديث عن بلاط “الرشيد”, فإنَّ الحديث عنه يطول ويطول، فقد اجتمع في بلاطه عباقرة عصره وعصر من سبقوه, ويحضرني من أسماء الأدباء والشعراء وقادة الفكر الذين اجتمعوا في بلاط “الرشيد” في قصر السلام بالرقة، “أبو العتاهية”, و”أبو نواس”, و”مروان بن أبي حفصة”, و”الكسائي”, و”يحيى بن المبارك اليزيدي”. و”كلثوم بن عمرو العتابي” و “الأصمعي” و”أشجع السلمي” وغيرهم.
وفي دراسة للمرحوم الشاعر “مصطفى الحسون”, في مجلة الحوليات الأثرية المجلد /31/ عام /1981/م، ص /146/ يقول: «..وقد أطلق الفرنسيون على عصر “لويس” اسم “عصر الشمس والنور”, كما أطلقت العرب اسم “العروس” على أيام “هارون الرشيد” في “بغداد” و”الرافقة” “الرقة”, لجمالها وبهجتها، وفي العلم والأدب والفن فيها. على أنَّ ما اجتمع في بلاط “الرشيد”, من العباقرة والقواد, أكثر مما اجتمع في قصر “لويس”, رغم الفارق في الزمن.
********************
لقد أدار “الرشيد” دولته بكل عظمة واقتدار, وسار على نهج السلف من الخلفاء العرب الأقوياء مثل جده الخليفة “المنصور”, وما كان الخليفة “هارون الرشيد” كما يصفه أعداء العرب والمسلمين بالمسرف, ولا بالبخيل.. بل كان عادلاً، قاد أمته نحو العزة والفخار. وبهذا الصدد يقول المؤرخ “ابن طباطبا”: «.. ولم يجتمع بباب خليفة, من العلماء, والشعراء, والفقهاء, والقراء, والكتاب, والندماء, والمغنين, ما اجتمع على باب “الرشيد”. وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة, ويرفعه إلى أعلى درجة, وكان فاضلاً شاعراً, وراوية للأخبار والآثار والأشعار, صحيح الذوق والتمييز, مهيباً عند الخاصة والعامة».
وكان يوفر الطقوس الجميلة, فيما يخص نمط حياته اليومي في إدارة شؤون الحكم, فكان يهتم اهتماماً كبيراً بتنسيق مواكبه اليومية بشكل لائق وجميل, بحيث يعكس سلوكاً حضارياً قلَّ ما نعرفه عند أي حاكم آخر. وقد عُرف “الرشيد” بميله وحبه للصيد, وموكب اللعب بالصولجان, وموكب الطراد, وكان الفضاء الواسع بين “الرقة البيضاء” و”الرافقة”, مكان “المنطقة الصناعية” الحالي، الذي يمتد شمالاً حتى منطقة “القصور العباسية”, على شكل ميادين مخصصة لمواكب العرض العسكري, والطراد, واللعب بالصولجان, وبقية النشاطات, والهوايات التي كان يهواها الخليفة “الرشيد”. ويذكر المؤرخ المسعودي, بأنَّ “الرشيد” كان مواظباً على الحج, ومتابعاً للغزو, وأنه كان مهتماً ببناء الحصون والثغور, ومدَّن المدن وحصنَّها. وكان أول من لعب بالصولجان, وأول من لعب بالشطرنج من خلفاء “بني العباس”, وكان يهتم كثيراً باللاعبين, وأجرى عليهم الرزق. وفي كتاب ( الأغاني, لـ”أبي فرج الأصفهاني”: مجلد /14/) قول لـ”علي بن الخليل”:
@- تحكي خلافته ببهجتها/ أنق العروس, بليلة العرس..
أما السيدة “زبيدة بنت جعفر”, زوجة الخليفة “هارون الرشيد”, فقد وصفها المؤرخون أنها كانت, حسنة السيرة, في الجد والهزل, فأما الجد والآثار الجميلة التي تشهد على حسن سيرتها, فيظهر ذلك في حفرها لعين “المشاش” في “الحجاز”, فقد مهدت الطريق لماء هذه العين واستجرتها من مسافة عشرين كم إلى مكة, رغم كل الصعاب المتمثلة بالوديان والجبال ووعورة الأرض.
كما أنَّ السيدة “زبيدة” قد أقامت الكثير من محطات الاستراحة, وحفر الآبار على طريق الحج المعروف بدرب “زبيدة” الممتد من “الكوفة” ب”العراق” حتى مدينة “الربذة” الأثرية” و”المدينة المنورة”. ومما يجدر ذكره حفرها للآبار والبرك الكثيرة بالحجاز والثغور, وما بذلته من مال لأهل الفاقة من المعروف والخصب. ومما ينسب إلى الخليفة “الرشيد”, أنّ ماء الشرب كان يرسل إليه في قوارير زجاجية من “المدينة المنَّورة” وهو في “الرقة”. هذا الخبر يذكره “القزويني” في كتابه (آثار البلاد, وأخبار العباد).
********************
كان “الرشيد” يعشق ركوب الخيل والطراد. وكانت “الرقة” منذ العصر الأموي مشهورة بتربية الخيول العربية والعناية بها. وكانت ميادين السباق في “الرقة” و”الرصافة”و”الكرخ”كرخ الرقة) قائمة منذ أيام الخليفة الأموي “هشام بن عبد الملك”. وفي عهد “الرشيد” خصصت للخيل الحقول الخضراء مثل “مرج الضيازن” وسهول ” الصالحية” في طالع “الرقة”, وكان لدى “الرشيد” من جيادها عدد كبير جداً. ويذكر المؤرخون “هارون الرشيد”, ومنهم “د. الجومرد” أن “الرشيد” كان يقيم سباقاً لخيله, وكان يجريها مع خيول الأمراء والوزراء, ويخصص لها الجوائز المادية المجزية، وقد بلغ عدد الخيول العربية الأصيلة في “الرقة” أيام “الرشيد” المئات.
ويذكر “الأصفهاني” صاحب كتاب “الأغاني”, أنه كان في “الرقة” أيام “الرشيد” الكثير من الحقول والاصطبلات لتوليد عتاقها, وتربيتها, وكانت مهمة الإشراف على هذه الخيل والعناية بها, مناط بأمهر الأخصائيين العرب, ويذكر “الجومرد”: «أنَّ عددهم بلغ المئات, وكان لهم بيت مال خاص يشرف على الشؤون المالية, ولهم أيضاً رؤساء تبوأوا مكانة مرموقة بين رجال الحاشية, وفي مقدمتهم “دفافة العنسي الرقي”, الذي كان يدعى صاحب خيل “الرشيد”.
********************
كان “الرشيد” يتخذ من “الرافقة” “الرقة” مكاناً آمناً, وفي الأيام والشهور التي لا يكون فيها غازياً أو حاجاً, يقوم بممارسة هوايته المفضلة التي هي في الوقت نفسه جزء من النظام الإداري, وتقليد سار عليه “الرشيد”, مثل العروض العسكرية التي كانت تنظم في ميادين الرافقة “الرقة” وتنسيق المواكب, وإظهارها بالمظهر اللائق بشخصه, من لباس وسلاح, وكوكبة الحرس, وفرق جنود المشاة. ومن الأمور الطريفة التي تروى عن “الرشيد” أنه أجرى الخيل يوماً في “الرقة”بين “الرقة البيضاء” و”الرافقة”, وكان يجلس في صدر السبق, فلما توافت إليه الخيل, كان في المقدمة فَرَسَانه, فلما تأملهما قال: «فرسي والله, وفرس ابني “المأمون”, قالوا: فلما قدمتا, وهما في مقدمة الخيل, وكان فرس “الرشيد” السابق, وفرس ابنه “المأمون” الثانية, فقد سر بذلك, فلما انقضى السباق, وتفرق المجلس, وهم “الرشيد” بالانصراف طلب “الأصمعي” مقابلة الخليفة, وقال: لدي شيء من أمر الفرسين, وأريد أنْ أبوح به للخليفة. وقام “الفضل” بإخبار أمير المؤمنين قائلاً: يا أمير المؤمنين: هذا “الأصمعي” يريد, أنْ يبلغ سيدي أمير المؤمنين شيئاً من أمر الفرسين, قال أين هو؟! فلما دنى”الأصمعي” قال الخليفة: ما عندك من أخبار جديدة يا “أصمعي”؟ قال يا أمير المؤمنين, مجلس السباق في هذا اليوم, كنت فيه أنت وابنك في فرسيكما, كما قالت الخنساء :
@- جارى أباه فأقبلا وهمـا/ يتنازعان ملاءة الخفْـــر
@- وهما كأنهما, وقد بـرزا/ صقران قد حطا على وكر
@- برزت صفيحة وجه والده/ ومضى على غلوائه يجري
@- أولى, فأولـى أن يقاربـه/ لولا جلال السن والكبـر».. “مصطفى الحسون، مخطوطة لم تطبع”
ويذكر (الدكتور “عبد الجبار الجومرد” في كتابه “هارون الرشيد”, طبعة بيروت /1956/) م, أنه كان لـ”لرشيد” هوايات كثيرة, منها أنه كان يهوى ركوب “الحراقات” من السفن المزينة في نهر “الفرات”, عندما يكون في “الرقة”, وأفضل وقت عنده لذلك هو الليل, حيث يكون النهر, والماء راكداً, و”الحراقات” مزدانةً بالأنوار, حيث تشكل مع أنوار القصور المنعكسة على ماء النهر, لوحة تشكيلية بديعة المنظر. ويذكر المؤرخون العرب, أنه كان في دار “الرشيد” الكثير من الجواري الحسان, ومنهن”ماردة” أم ولده المعتصم, ويقال إنَّ “الرشيد” قد خلفها في “الرقة” في أحد سفراته إلى “بغداد”, فمرة اشتاق إليها فكتب قائلاً:
@-سلام على النازح المغترب/ تحيـة حب بـه مكتئب
@- غزال من مراتعه بالبليخ/ إلى دير زكى فقصر الخشب
@-؛أيا من أعاق على نفسـه/ بتخليفه طائعاً مـن أحـب
@- سأستر والستر من شيمتي/ هوى من أحب عن لا أحب..
ومنهن أيضاً “هيلانة” الرومية, وأنها حين ماتت
حزن “الرشيد” عليها حزناًُ شديداً, وقال فيها قصيدة رثاء مطلعها:
@-أف للدنيـا وللزينـة فيهـا والأثـاث/ إذ حثى الرب على هيلانة في الحفرة حاث .. ومرة قال “الرشيد” لـ”لعباس بن الأحنف”, قل يا “أحنف” شيئاً على موت “هيلانة” فأنشد قائلاً :
@-أيهدي ضياء بعد هيلانة البلى/ أراني ملقى من فراق الحبائب
@- ولما رأيـت الموت لابـد واقعاً/ تذكرت قول المبتلى بالمصائب
@- لعمرك ما تعفو كلـوم مصيبـة/ على صاحب ألا فجعت بصاحبٍ..
وهكذا نجد أنَّ جلَّ المؤرخون والباحثون العرب والأجانب، يؤكدون ويثبتون, ونحن نعتقد ذلك أيضاً, أنَّ أيام “الرشيد” في “الرقة”, وفي “بغداد”, وفي كل أرض الخلافة هي بحق, كما يقول المرحوم الحسون: (أيام العروس). وهذه الصورة تبدو لنا, نحن أبناء الألفية الثالثة بعد الميلاد, أن أيام “الرشيد” كانت أيام جد وفرح وسرور, ولكي نكون بعيدين عن التعصب والفخار لهذا الخليفة العربي الأصيل, فإننا نؤكد أيضاً أنّ هذا القول ليس نابعاً من تتبعنا لحياة “الرشيد” الخاصة, بل أيضاً من تتبع حياة رعية “الرشيد” العامة, القاطنة في كل الأقاليم القريبة والبعيدة, والقوميات المتعددة في أنحاء الخلافة. وإذا كانت العرب قد سمت أيام “الرشيد” بـ”أيام العروس”, فلأن أيام خلافة “الرشيد”, كانت أيام خير, وأيام عطاء, وأيام خصب, وأيام الأمن والعدالة. وتتحدث المراجع التاريخية عن فترة خلافة “الرشيد”, اهتمامه وعنايته, بأمور الزراعة, والصناعة اليدوية داخل البلاد, وإقامته للجسور, وحفر الأقنية والترع والجداول الواصلة بين الأنهار. حتى أنَّ البلاد أصبحت شبكة من المياه, ترتوي منها الحقول والبساتين والمزارع..في.جميع انحاء الخلافة، وكانت الرقة هي الرائدة..
********************
وعمل “الرشيد” على رفع الضرائب عن الفلاحين, تشجيعاً وتقوية لهم, ويروى عن “الرشيد”, أنه في أحد المرات التي كان يتفقد فيها أحوال الزراعة والزراع, قد مر مع حاشيته بحوش كبير على الضفة اليسرى لنهر الفرات تكثر فيه الأشجار المثمرة, عند موضع يقال له اليوم “طاوي رمان”, فلما قرع الحراس باب هذا الحوش فتح الباب على مصراعيه، فاستقبلتهم صبية حسنة المنظر والجمال, ودعتهم للجلوس وشرب الماء, ثم أنها قدمت لهم طبقاً مليئاً بفاكهة الرمان الكبيرة, فأمسك الخليفة الرشيد حبة كبيرة من حبات الرمان وقال: ما شاء الله.. ثم أنه شكر الصبية وذهب مع حاشيته دون أن تعرف الصبية أنه الخليفة “هارون الرشيد”, وفي الحول القادم مرَّ “الرشيد” على نفس الحوش واستقبلته الصبية ذاتها وقدمت له طبقاً من الرمان لكنه لم يكن بجودة رمان السنة الفائتة, فلما سألها الخليفة لماذا ثمر هذا البستان خاوياً هكذا؟ فأجابته أنَّ كثرة الضرائب في هذا العام أثقلت كاهلنا .
ويقال أنَّ الخليفة “الرشيد” امتعض من ذلك وأمر بإلغاء الضرائب عن الفلاحين والزراع.. وعمل “الرشيد” أيضاً على حراسة طرق التجارة بين المدن والأقاليم, وأمر بإنشاء المحطات والآبار عليها, ونظمت هذه الطرق تنظيماً جيداً, فانتعشت بذلك التجارة انتعاشاً كبيراً, وعمت الخيرات أنحاء الخلافة, وتواردت ثروات طائلة إلى بيت المال من الخراج والضرائب, وكل هذه الأموال كانت ترفد بيت المال, مما انعكس إيجاباً على عامة الناس.
وفي هذه الفترة المشرقة والمتألقة من التاريخ العربي الإسلامي, كانت مدينة (الرافقة) “الرقة” من أهم مدن الخلافة آنذاك, وهي كالخود كما يصفها “البحتري”, ويقول “الحسون” “رحمه الله”: «… بين أترابها في أعراس التاريخ, حتى ملأت ببلدانها الخمسة السهل الواقع عند ملتقى الفرات من البليخ».
وكان لـ”لرقة” حظ كبير لوجود “الرشيد” فيها مدة طويلة من أيام خلافته, إذ أنه جلب معه أعلام عصره, من مفكرين وكتاب وشعراء ومغنين,
ويقول المرحوم “مصطفى الحسون” في مقالة له نشرها في (مجلة الحوليات الأثرية), مجلد/31/ 1981/ م ص/150/: «.. فإنه يمكننا أنْ نجيز لأنفسنا القول بأن “الرقة”, قد عرفت في هذه الحقبة التاريخية الزاهرة جداً أجواءً من “حياة ألف ليلة وليلة”». لقد عاشت “الرقة” أيام “الرشيد” ليالي أنس وطرب, طرب “إبراهيم الموصللي”, وابنه “إسحاق” وصوت “ابن جامع”, ونغم “إبراهيم بن المهدي”, وغيرهم من أعلام الطرب والفن والغناء. ومن العازفين الذين عاشوا في “الرقة” “زلزل”و”برصوما” وعازف الناي “زنام” ويقول البحتري :
@- وعود “بنان” حين ساعد شدوه/ على نغم الألحان ناي “زنام”
وما تزال أطلال قصر “الرشيد” قصر السلام في الرافقة “الرقة” باقيةً إلى يومنا هذا بالقرب من “تل البيعة”, حيث وقفت عند فنائه الوفود من كل حدب وصوب, وعلى رأسهم الشعراء والفقهاء والرواة والعلماء والإخباريون, وغيرهم من علماء ذلك الزمان..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top