السعدية بيرو… الفنانة التي لن تفارقنا ذكراها
“الرائعون هم دوما من تبقى ذكراهم إلى الأبد”.
إن الذي دفعني لكتابة هذا الموضوع،
هو العلاقة الفنية/الإبداعية،
الجد متميزة التي ربطتني بالراحلة السعدية بيرو لسنوات طوال،
وقفت خلالها على إنسانة هادئة، زاهدة، فنانة باحثة،
محبة للصويرة ولجمالها.. عاشقة لفنانيها ..
ومن هذا العشق تسللت إلي حكاية جميلة،
عادت بي إلى ذكرى وفاة عملاق الفن الصويري الراحل بوجمعة لخضر في التسعينات،
وبالضبط حين التقيت الفنانة السعدية بيرو، التي تأثرت، آنذاك، برحيل هذا الفنان الكبير ،
فسألتني إن كنت سأكتب شيئا عن رحيله،
فلما أجبتها بالإيجاب، طلبت مني أن يكون عنوان المقال هو:
“الرائعون هم من تبقى ذكراهم إلى الأبد”.
ولعله السبب الذي جعلني أختار هذا العنوان تقديما لهذا الموضوع.
-*-
حينما يمتزج عبق التاريخ مع جمال اللحظات الأخاذ،
تبدو حالة من نشوة الذكريات،
والحكايات القديمة المتجددة، في آن واحد..
تبدو وهي تتعايش مع دفئ المكان الذي يفتح ذراعيه لزواره
كي يشاهدوا بأم أعينهم شواهد ورموز الأمس التي مازالت شامخة..
لتقرأ التاريخ، ولتتعلم من إمكانيات الحاضر، وتستثمر مؤشرات المستقبل..
وتمضي الأيام..،
لكن تبقى ذكرياتها جرحا غائرا في دفاتر الزمن البعيد،
تفجر كوامن الحب والحنين. حنين العودة إلى مدينة الصويرة،
واستقراء ذاكرة الماضي بكل تفاصيلها،
كما تختزلها كل الدروب وكل الأزقة،
حيث عبق “العرعار” ورائحة “التشكيل” تأثث المكان.. وكل مكان.
ففي كل مكان قصة جديدة من أحداث وتفاصيل جديدة، من حكايات عمرها التاريخ..
واحدة من هذه الحكايات هي حكاية الفنانة السعدية بيرو..
مسار فنانة- قراءة سريعة في تجربة السعدية بيرو:
تعتبر الفنانة السعدية بيرو من رواد الفن التشكيلي المغربي المعاصر،
الذي أسس للحركة الفنية بالصويرة وعمل على إرساء قواعد نشاط إبداعي نسائي،
على الأقل، في شقه المتصل بالتشكيل،
مما جعلها تسجل، بحق، حضورها المادي والمعنوي على الساحة الوطنية منها والعالمية.
وقد كرست السعدية بيرو مشوارها الحياتي خدمة للفن،
فأبدعت داخل الحقل التشكيلي،
لتأتي إبداعاتها تجسيدا لقضية إنسانية وجوهرية هي قضية المرأة في صراعها الانطولوجي،
من أجل إثبات حضورها المادي الفعلي،
داخل المؤسسة المجتمعية،
ومن أجل البحث لنفسها عن تموقع جغرافي
يضمن لها انخراطا فعليا في سلك التاريخ الإنساني.
والمتأمل في لوحات الفنانة السعدية بيرو يجدها تتميز بهيمنة البعد التراثي،
داخل الرؤية العامة، التي منها تستقي هذه الفنانة مادتها الإبداعية،
غدت معها هذه اللوحات إطارا معرفيا ودلاليا،
يسعى إلى اكتناه جدلية الواقع المغربي،
والصويري منه بوجه الخصوص، بكل تجلياته،
وبكل مظهراته، بما فيها “التراثي” مع محاولة بلورته في صياغة جديدة،
تتوافق ومستجدات الحياة العصرية والحداثوية.
للقضية التراثية، إذن، حضور دلالي متميز،
داخل الرؤية الإبداعية للراحلة السعدية بيرو،
فبها وعليها تنهض، تنهض في سبيل تأسيس تصورها المستقبلي،
ورؤيتها للعالم المحيط، عبر مسالك خاصة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي.
فبها -أي بالقضية التراثية- اعتبارا لأهميتها الخاصة
ضمن نسق معرفي تتحدد أغلب إشكالاته السوسيو-ثقافية من التراث الحضاري،
والموروث الثقافي الشعبي،
خاصة إذا ما نحن استحضرنا أن التيمة التي تشتغل عليها
الراحلة السعدية بيرو هي تيمة الواقع التراثي المحض،
فهو بالنسبة إليها منظومة من الهياكل والمرجعيات الماضوية
التي تصب في قالب حضاري صرف.
وعليها، من أجل البحث عن سبل كفيلة
لتطوير هذه القضية-التراثية- عبر خلخلة بنياتها الداخلية،
والكشف عن جوانب الخلل فيها وبالتالي تجاوز كل ما من شأنه أن يعيق تطورها.
انه البحث في التراث..
في سياقه التاريخي العام، وضمن شروطه الحضارية التي عملت على إفرازه، أولا،
ثم الدعوة إلى تجاوز هذا الواقع كمعطى جاهز نحو تأسيس رؤية مستقبلية
تستطيع القفز على ما هو راهن.
يحمل النص الإبداعي عند الراحلة السعدية بيرو، إذن،
دعوته إلى الانفتاح عما هو مستقبلي،
ومحاولة التعايش والتمازج مع كل الأشكال التعبيرية الأخرى التي يمنحها “الموضوعي”،
دون أن يكون ذلك خروج على القاعدة الأساس،
أو دون أن يكون في ذلك مس برمزية هذا التراث،
ولا بهويته التي اكتسبها خلال مراحل تواجده.
من هنا يتجسد البعد الرؤيوي الذي تنطوي عليه تجربة السعدية بيرو
في معالجتها للقضايا الإنسانية الراهنة، ومن ضمنها قضية المرأة،
وهو بعد يدعو الى العودة إلى الماضي من أجل الكشف
عن صيغ دلالية مواتية نحاول بها أن نرى الى هذا المستقبل، وأن نستشرف أعتابه.
يشكل البحث في السياق التراثي،
عنصرا أساسيا من العناصر التي تعتمدها السعدية بيرو،
في صياغتها أجوبة محورية لكل الأسئلة الجوهرية المطروحة أمامها،
بدءا بسؤال الذات وهمومها التي تحملها هي نفسها،
ومن خلالها المرأة العالمية ككل (باعتبار أن التشكيل رسالة عالمية)،
وصولا إلى أسئلة “الآخر” المقلقة والحرجة.
ونعني بالآخر هنا كل ما هو “خارج” عن الذات الفردية،
يغدو معها التراث – من وجهة نظر السعدية بيرو-
مرجعا ضروريا لفهم آليات الوجود بصفة عامة.
وإذا كان الخطاب التشكيلي عند الراحلة السعدية بيرو
يعتبر مسرحا للعديد من الصراعات التي تجد متجسدا لها على أرضية الواقع المعيش،
فان من هذا الصراع ما وجد طريقه إلى النص التشكيلي
عبر متتاليات واقعية عاشتها الفنانة وكابدت محنها وآلامها،
ومنه ما وجد طريقه عبر مخزون الذاكرة اللحظوية
للفنانة الذي توارثته في احتكاكها بهذا “الآخر” من دون أن تكون هي طرفا فيه.
وانطلاقا من هذا التفاعل، بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي،
بين الذات السعدية وبين هذا الآخر، تتكوكب العلاقة بين هذا وذاك،
بين السعدية بيرو وبين النص الإبداعي،
في سبيل خلق انسجام يضمن لهذا النص إيقاعا حقيقيا
كذلك الذي يجد تموقعه في ذاكرتها اللحظوية.
تأسيسا على ما سبق أمكن اعتبار على أن التراث،
بكل ما يمثله من رموز ودلالات كدلالة الهوية والتاريخ والمرجع،
يعتبر المحور الأساسي في رؤية السعدية بيرو الفنية،
إذ هو الحاضر والمهيمن بشكل قوي على خطابها الإبداعي،
بل فيه ينهض هذا الخطاب مؤسسا لنفسه سؤالا وجوديا/كونيا،
هو سؤال الوجود الإنساني.. سؤال البقاء.
وإذا كان التراث هو مرتكز تجربة السعدية بيرو الفنية، وبعدها الرؤيوي،
فان الألوان تعد الوسيلة الأقوى والأنجع التي اعتمدتها هذه التجربة في تبليغ رسالتها،
وفي إيصال منطوق خطابها، يصبح معه لهذه الألوان تموقعها الخاص داخل إطار اللوحة الفنية،
فهي التي تعمل على اختيار نفسها..هي التي تختار تموقعها داخل هذا الفضاء،
بل هي التي تحدد مصيرها وتقرر حضورها الفعلي الذي يميزها عن باقي العناصر الأخرى
المكونة للخطاب، بصفة عامة. اللون الذي أسس لنفسه – داخل لوحة السعدية بيرو-
عبر تفاعلاته مع بقية المكونات الأخرى، والعناصر المتبقية،
جمالية معينة استطاعت أن تسمو بهذه اللوحات حد الوعي الجمالي،
والاستيعاب الحسي، يحس معها المتلقي ولكأن الطبيعة هي التي تبدع..
هي التي تشكل لوحات السعدية عبر إيحاءات إيهامية،
فنية جميلة..هي التي تتحدث لغة الجمال. وحين تتحدث الطبيعة لغة الجمال..
هي، فقط، تعاريج الذاكرة الغريبة التي تدهشك كلما أيقنت نسيانا،
فتتأتى صورها متتابعة تجعلك تغرق في عطر ذاك الأمس،
فتتحدث الأشياء حولك لغة التاريخ.. لغة الماضي الجميل..
رحلت عنا السعدية بيرو في صمت جنوني، ودون سابق إنذار..
وقف قلبها ورحل عن دنيانا بجسده، لكنه بقي بروحه في ضمائرنا،
يعيش والى الأبد بيننا، بفنه وبكلماته العذبة التي ستترنح في آذاننا..
رحم الله الفنانة السعدية بيرو ..
بقدر ما أعطت لهذا البلد فناً رصيناً ومسئولا وملتزماً حتى رحيلها عن الدنيا بمدينة الصويرة،
التي أحبتها، منها أتت، ومنها خرجت إلي دار الخلود..
رحم الله كل فنانينا الذين رحلوا عنا وأيديهم لازالت ملطخة بالألوان..
وتراني أستأذن القارئ العزيز لحظة
كي أنبش في قبر الفنانة السعدية بيرو فقط لأهمس في أذنها قائلا:
الرائعون هم دوما من تبقى ذكراهم إلى الأبد…
كتب: العربي أقصبي