(اللغةُ مرآةُ الثقافة وتصويرُها)

لا شكَّ أنَّ اللغةَ نتاجٌ ثقافيٌ من الجماعة يكتسبهُ الإنسانُ فيتأثرُ به،
ثمَّ يُشكلُ بدورهِ لغةً تنمُّ عن ثقافته وثقافةِ بيئتِهِ، ويؤثِّرُ بلغتِهِ لتشكيلِ ثقافاتٍ لدى الآخرين،
واللغةُ هي الوسيلة التي يكشف بها المتكلمُ عن فكرتهِ إن لم تكن وعاءً لفكرهِ والأيديولوجيا الموروثة، فهي عملية تبادلية في التأثُّرِ والتَّأثير الثقافي.
وإذا ما بحثنا في لغاتِ الأمم والشعوبِ وجدناها وسيلةً تعبر عن أساليبهم في الحياة، فإنْ شئتَ قارن بيئة الأندلس المتنوعة بفنونها بشعرِ أهلها الذين تنوعت أساليبهم وإيقاعاتهم الشعرية وقوافيها، وإن شئتَ وازن بين فنون (الموزاييك) الفارسية في العصر العباسي وبين لغة شعراء ذلك العصر واستخدامهم فنون القول المزخرف.
ولكن كيف يكونُ للغة دورٌ في تشكيلِ ثقافةِ المرء؟ لو قرأتَ، أيها القارئُ، كتاباً ستجده بعد انتهائك منه قد أصبح جزءاً من شخصيتك! ذلك من تأثير الأفكار واللغة والأسلوب،
ولو لم يكن للغة تأثير لما تغير المرءُ بالقراءة. من المعروف أنَّ العربَ اشتهروا بالقول البليغ والمزخرف في الشعر والنثرِ والخطابة، فقد أبدعَ العربيُّ في كيفيةِ استخدام لغتهِ معبراً بها عن بيئته وثقافته، وتجاوز حدَّ الإبداعِ في فنون القول والبلاغة والصورِ الفنية من تشبيهٍ واستعارةٍ وكناية ومجازٍ، وبالأساليب البديعية من التنميق واللعب على اللغةِ من جناس وطباق ومقابلة وتورية، والانحراف والحيَلِ التعبيرية التي يُضفيها الشاعرُ على شعرهِ ونصهِ…
تلكَ التي من شأنها زخرفةُ القولِ وتزيينُه وتحسينهُ وإضافةُ جمالياتٍ على اللغةِ، وذلك بهدفِ التأثيرِ في المتلقي وإمتاعهِ وإقناعهِ وسحرهِ، وكما قال النبي الكريم (ص): “وإنَّ من البيانِ لسحراً”، حيثُ يُخيَّلُ للإنسانِ في القولِ المزخرفِ المنمق ما لم يكن،
للطافتهِ وحيلةِ صاحبهِ، كما حكى ذلك ابنُ رُشيق، لإحداثِ نوعٍ من القبضِ أو البسطِ أو إقدامٍ أو إحجامٍ في نفسِ المتلقي، وكما شرحَ ابن أبي حديد مفهومَ الشعر حيث قال: “وأكثرُ إقدامِ الناسِ وإحجامهم بسببِ هذهِ التخيلاتِ والأوهامِ هي الأقيسة الشعرية” وما فيها من الحيلِ والتحايلِ والمراوغةِ والمغالطاتِ والمخادعةِ والمبالغةِ والغلوِّ.
وقد ذهبَ ابن بسام، ربما من باب الذمِّ، إلى أنَّ الشعرَ “أكثرهُ خدعةُ محتالٍ وخلعة مختال؛ جدُّهُ تمويهٌ وتخييلٌ، وهزلهُ تدليهٌ وتضليل”، وكما برَّرَ لذلك ابنُ الرُّميُّ بقولهِ:
في زُخرفِ القَولِ ترويجٌ لباطلهِ والـحَـقُّ قدْ يعتريهِ سوءُ تعبيـرِ تقـولُ هذا مُجاجُ الـنَّحـلِ تمدحُـهُ وإن ذَمَمْـتَ فقلْ: قيءُ الزَّنابيـرِ مَدحاً وذمّاً ما جاوزتَ وصفَهُما حُسنُ البَيانِ يُري الظَّلماءَ كالنُّورِ ويفترض البطليوسي أنَّ الشعرَ مؤَسَّسٌ على المحالِ ومبنيٌّ على تزويرِ المقال،
ذلكَ لأنَّ الشعرّ “باطلٌ يجلى في معرضِ حقٍّ، وكذبٌ يُصوَّرُ بصورةِ صدقٍ”. وهذهِ نظرةُ الفلاسفةِ للشعرِ والنقاد المتأثرين بهم، وكذا نظرة بعض الفقهاء. ولستُ أرغبُ هنا بذمِّ الشعرِ والشعراءِ، وإنما أعرضُ جانباً من وجهةِ نظرِ بعضِ النقادِ للشعرِ على أنه كذبٌ وتزويرٌ، وهي نظرةٌ لا أحسبها فنيةً وإنما هي من منطلق ديني ومنطقي،
أما من حيثُ الفنُّ فقد ذهبَ ابن خفاجة يدافع عن شعرهِ ضد المتزمتين من فقهاءِ عصرهِ على أساس “أنَّهُ يستجازُ في صناعةِ الشعرِ، لا في صناعةِ النثرِ، أنْ يقولَ القائلُ: (إنِّي فعلتُ) و(إنِّي صنعتُ) من غيرِ أنْ يكونَ وراءَ ذلكَ حقيقةٌ، فإنَّ الشعرَ مأخذٌ وطريقة. وإذا كانَ القصدُ فيهِ التخييل فليسَ القصدُ فيهِ الصدق، ولا يُعابُ فيهِ الكذب”.
فقد يحدث أن تكونَ تلكَ الفنونُ والحيَلُ والأقيسة لغرضِ الإمتاعِ، كما هو لدى البرناسيين، لكنَّها لدى الغالبية من أجلِ توصيلِ رسالةٍ تكونُ قد أرَّقت الشاعرَ أو الأديبَ حتى همَّ بالتغيير والتحسين، وهو لا يستطيعُ ذلك مباشرةً، فيعتمدَ تتزينَ أفكارِهِ بحيَلٍ وحِليَةٍ جميلةٍ لتشقَّ طريقَها إلى ذوق المُتلقي وَسطَ لُجِّيٍّ مُظلمٍ متراكمٍ من سُلطةِ المجتمعِ وعاداتهِ،
وسطوةِ السلطةِ السياسيةِ؛ لأنَّ الحقيقةَ أو النصيحةَ المجردةَ من أي زخرفةٍ تداعبُ العواطفَ تتبدَّدُ وتتكسَّرُ في خِضَمِّ لُجَجِ سلطةِ المجتمعِ والسلطة الحاكمة. وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنَّهُ يدلُّ على هوانِ الواقعِ الاجتماعي العربي وما كان سائداً في غلواءِ عصورِ الفنِّ والأدبِ،
وما يحدثُ فيه من اضطرارِ الشاعرِ إلى توثين الخليفة ومدحِ مَنْ لا يستحقُّ المدحَ من الخلفاءِ والأمراءِ، وتحسينِ ما ليسَ بحَسَنٍ، رَهَبَاً أو رَغَبَاً بالخليفةِ، أو يلجأُ إلى تقبيحِ ما هو حَسَنٌ بغرضِ الذَّمِّ والتَّهكُّمِ، وما أشبه اليومَ بالأمسِ!
وقد وعى غيرُ واحدٍ من النُّقادِ والمفكِّرينَ هذه الظروفَ الاجتماعيةَ، وأدركوا أن الشَّاعرَ والأديبَ يضطرَّانِ إلى مثلِ تلكَ الفنون، بل أصبحَ كلُّ مَنْ يُتقنُها في الشِّعرِ والأدبِ فذّاً، ذكيّاً، ولمَّاحاً (فَهْلويَّاً)، بلْ عابوا على مَنْ يمدحُ الأميرَ بما فيهِ دونَ غلوٍّ ومُبالغةٍ؛ لأنَّ الأميرَ أو الخليفةَ، وهوَ في مقامِهِ، لا يتقبَّلُ منَ الشَّاعرِ مديحاً لصفاتٍ واقعيةٍ مُشتركةٍ بينَ عوامِ الناسِ،
بل يُحبُّ أنْ يتجاوزَهم في الوصفِ ويعلوهم قدراً وقيمةً وميزةً. والأديبُ الذي يجيدُ هذهِ الفنون يكونُ نتاجُهُ فنّاً راقياً عاليَ القيمةِ يزهو بجمالِه فيخلبُ الألباب، ولستُ أعتقدُ أنَّ مثلَ هذهِ الأساليب اللغوية والبلاغية يَفلتُ الإنسانُ من تأثيرها، ويُفترض أن يكونَ تأثُّرُهُ جمالياً. لكن من سوءِ طالعِ المجتمعِ العربيِّ أنِ انعكسَ ما هو جماليٌّ من هذهِ الثقافةِ انعكاساً سلبياً قبيحاً على فكرِ الغالبيةِ من المجتمعِ العربِيِّ وثقافته، وامتدَّ ذلك الهوانُ في توثين الخليفة مع ثقافتهِ،
فمن شيخٍ يفتي بتحريمٍ أو تحليلٍ ويُخرجُ حيَلاً شرعيةً على هواهُ أو على هوى أمرائهِ، إلى مُحامٍ يرقصُ على حبلِ اللغةِ ليُخرِجَ حيَلاً قانونيةً للدفاعِ عن ظالمٍ، إلى مسؤولٍ يُصدرُ قراراً غامضاً ليتركَ منفذاً لاختراقه، إلى مؤسسةٍ تتلاعبُ في لغةِ القرارات والقوانينِ لغايةٍ في نفس مديريها، إلى تاجرٍ يُبررُ بالشرعِ طمعَهُ ودناءةَ نفسهِ (بالفهلوةِ) والشطارةِ، إلى إلى…
حتى أبدع أغلب العربِ في الحيَلِ واللفِّ والدورانِ على العرف والشرع والقانونِ، وأصبحتْ تلك ثقافتَهم وعاداتهم التي طُبعِت في نفوسِهم من قوةِ التراثِ المتوارثِ عبر الأجيالِ والكتب، وكلما ازدادَ المرءُ مكراً واحتيالاً ودهاءً كانَ أشطر القومِ، ومازالت ثقافةً سائدةً تشي بالفِطنةِ والذكاءِ والشطارة، ومن كثرَ كلامُهُ قلَّ إنجازُهُ،
وأصبح الغالبية يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون. ولذا على القارئ أن يتخير ما يقرأه بعناية وحذر شديد، وأن يعطي مساحةً للعمل والإنجاز،
ولا أحسب أن المجتمعَ العربي يتغيرُ إلى ما هو إيجابي إلا بالصدق والوضوحِ لا بالحيل والتورية والمجاز، وبالاطلاع الواسع على ثقافة الآخر في اللغة والفكر والعمل.

مجد أحمد القادري طالب ماجستير في النقد والبلاغة،
في دمشق. Alqadery1987@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top