اللّطعة


عادت الحقولُ من جديدٍ تُرسِل خضرتها الزّاهية ، تتلألأ نضرة في بساطٍ سندسي زاهي ، اختفت سُمرتها التي استمرت أسابيع ، تهتز مروجها في ابتسامةٍ ساحرة تخلبُ القلوب والأنظار ، ينتظر الفلاحون هذا الانبلاجُ بفارغِ الصّبرِ ، تمتدُّ الفؤوس تمزِّقُ وجه الأرض في نشاطٍ وهمة ، يترنم أصحابها بقلوبٍ مطمئنة أناشيد الأمل ، تخفق قلوبهم نشوانة ، تدعو الله القدير أن يُبارِك موسمهم ، وأن يكون الحظّ حليفهم ، فيجدوا العوض عن موسمهم الفائت .
يُراقِب ُ الفلاح كُلّ صباحٍ حقله ، وفي صوتهِ رعشة الألم المكبوت ، وفي عينيهِ التماع الحزن والخوفِ والرّجاء ، تتراقص شجيرات القطن ، تنفضُ عنها التّراب ، فيهيم لصحوتها نشوانا طربا ، كيف لا ؟! وقد اتخذها منذ عرف الكدّ عونا له على نوائبِ الأيام وشقوة الزمان وتصاريفه.
هنالك تدّب ُ الحياة ثانيةً في القريةِ ، تتسابق خطواتهم تنتهب الجسورَ والمصارف ، فبعد أيامٍ يتنادى الصّغار عند انبلاجةِ الصّباح ، في سيرهم للحقولِ التي تضجُّ بهمساتهم الوجلة ، وتعجُّ بأناشيدهم العذبة ، تستقبل وفادتهم بينَ الخطوطِ ، تملأ الفضاءَ ، فهذا أوان نقاوة ” اللّطعة” كما عهدوه.
في هاتهِ الساعة من البكور ِ ، يتقاطر الصّغار وقد انتزعوا من مخادعِ البراءة ، يجروا أسمالهم الرّخيصة ، متدثرين بحللِ الكسل والفتور ، وعلى الأعتابِ تشيعهم وجوه أهاليهم متهللة ، بوميضٍ من الإشراقِ والابتسامِ ، أن يحفظ المولى خطاهم ، ويكفهم شرور الطريق وعطلِ الحال .
تفيض الأيدي في حزمٍ ، تتحسّس الأنامل في تشوقٍ وانشراح ، خرِق القماش الرّخيص ، زاد اليوم وزواده ، لحينِ العودة مع انتصافِ شمس الظهيرة ، ففيها كسر البتاو اليابس ، وقطع الجبن القديم ، وخرط اللّفت المخلل ، ونصفَ خيارةٍ صفراء ذابلة لزوم التحلية .
أخيرا يصلُ الرّكب بعد أن نهبَ المسافة بين الحقولِ ، فبالأمسِ سرى النداء مع آخرِ شربةٍ ، أن التجمّع غدا عند ماكينةِ عصيدة .
لحظات تدور فيها العيون ، قبل أن يفترش أبناء الشقاء الأرضَ في سكينةٍ وخضوع ، تقطر نظراتهم السّاهمة تُحلِّق في وداعةٍ ، بعد أن غلفتها مدامع الأسى ، يدور الملاحظ وحاشيته _ كعادته_ _ عند المناداةِ ، يحلقون بأجنحةِ الغرورِ الكاذب ، وقد ضحكوا في تهكمٍ مرير ، وكأنّهم خلقوا من طينةٍ غير طينةِ هؤلاء الفقراء ، لحظات تمرّ أعوامًا ، تتبدى فيها الكآبة الخرساء ، قبلَ أن يغرِّد صاحبنا بعد تعتعةٍ ومشقة في نطقِ أسماء الأنفار، يكتم أثناءها البؤساء ضحكات التشفي خوفا من بطشهِ.
ثم ما يلبثوا أن يغيبوا في أحشاءِ الحقولِ الفسيحة ، تتدافع الأيدي تنتهب الأشجار ، تُفليها وجها على ظهرِ ، تنتزع عنها اوراقها المُصابة في حميةٍ تسري في الكبيرِ والصّغيرِ .
وبينَ الحينِ والحينِ يتعالى صياح ” الخِولة” في زئيرٍ مخيف ، وأياديهم تلهب الظهور َ المنحنية ، بأطرافِ الجريد الرّخوة ، وقد بانت في وجوههم سورة الغضب ، يمرر الواحد منهم يده فوقَ جبهتهِ مُتأففا ، وهو يصرخ في هياجٍ : قلب وخش شوية .. حرك إيدك منك له ..
وبينَ الفنيةِ والفينةِ ينطلق صوتٌ مكتوم ، ينساب ُ في ضعفٍ بينَ الأجسادِ المنكّسةِ، مُرتجفا يحفه العجب : رمادي ، مُعلنا عثوره على ” اللّطعة” لكن سرعان ما يعود فيخفيه ، ويخيّم الصّمت ، فلا يُسمع إلا صوت الخولي يأمر ويتوعد ، في همسٍ مرة ، وفي صخبٍ يُلهب الحماسة ، وكأنّه يتلمّسُ في نفوسِ أنفارهِ مواطن الدّاء.
ينقضي الوقت كأثقلِ ما يكون ، يبتعد الخولي ناحيةِ الظلِّ ، جامعا طرف جِلبابهِ ، عاكفا عصاه فون كتفهِ ، يُلقي في مسامعِ من أمامهِ : خد قامتك خد ، عندها تنتصب القامات المنحنية ، تستقبلُ خريرَ الهواء البارد، المُنساب على صفحةِ الفضاءِ الأخضر اللامحدود ، تندفع مع النِّداءِ فتياتٍ عذارى ، يحملن جِرار الفخار المملوءة بالماءِ العكرِ ، يمرقن في خفةٍ أمام الصفوفِ المتهالكة ، يوزعن جرعات الماء التي تُعيد الحياة إلى الحلوقِ اليابسةِ ثانية ، بعد أن ظنّ أصحابها الفناء ، تفتح صُرر الطّعام تفترش أديم الأرض ، لتلوك الحنوك من خيراتها ، كأشهى ما يكون .
تعود الأيادي تمتد ثانيةً نحو شجيراتِ القطن في عتبٍ ، تشكو في سأمٍ قسوة الأيام ، تستجلي من خضرتها الطاهرة ، لحظات النّقاء التي تنسكب رقراقة في الصدورِ الملتاعة ، وضحكات انهكها التّعب تعلو حينا وتخفت أحيانا ، وعيون كليلة تُحدِّقُ في الفضاءِ الملتهب ، تتبع قرص الشمس المتوسط قبة السّماء في صلفٍ وغرور ، تُحثه أن يُعجِّل فينزوي ناحيةِ الغربِ قليلا ، دقائقَ وتسري غمغمة بين أبناءِ الطّين ، تنتقل من فمٍ لفم ، لقد حانَ وقت الرّحيل ،انقضت الضهرية ، يتحرّك الخولي مُبتعدا عن الخطوطِ ، يؤشّر بعصاه ، قائلا في زهو ٍ : خد قامتك خد .. ياد أنت وهو .. ع البيت دغري .
عندها فقط تحتضن الفرحة الوجوه المُجهدة ، وتبدأ أهازيج العودة تشعّ في انسيابٍ وتألق ، وكأنّ ملح الأرض ، لن يعود ثانية لمرابضِ الشقاء ، مع شمسِ البكورِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top