المدرسة الجديدة

 انتقلت خلال هذه السنة إلى المستوى الثالث الابتدائي ..
وهي ٱخر سنة سأقضيها في مدرستنا هذه ..
لا أخفيكم أنني مسرور ومبتهج كثيرا لأنني سأغادرها إلى مدرسة المركز .. رغم أنني أحب مدرستي الحالية ..
هناك توجد مدرسة أوسع تضم عدة حجرات للدرس ويعمل بها أساتذة أكثر من مدرستنا ..
ذهبت مع أبي إلى المركز بضع مرات .. في الحقيقة هي مرات قليلة لأن المركز يبعد عن دوارنا بأزيد من ساعة مشيا على الأقدام .. بالنسبة للكبار . أما بالنسبة للأطفال مثلي ، فقد تزيد المدة الزمنية ، لأن خطواتنا صغيرة ، ولا نجد في سيرنا بشكل مستمر. بل نقف لنتأمل الطبيعة من حولنا أو الطيور أو أي شيء قد نصادفه في طريقنا . حتى الأطفال الذين نلتقي بهم في طريقنا نتحدث إليهم .. اعتدنا على مثل هذه التصرفات منذ نعومة أظافرنا … لم تكن في بلدتنا كلها إلا مدرسة المركز .. التي يرتادها أطفال الأسر القريبة منها .. بينما يحرم الأطفال الذين يقطنون في الدواوير البعيدة نحو قمم الجبال ، أو الثاوية في سفوحه من الالتحاق بها . ودوارنا ينام في سفح الجبل الشرقي هادئا إلا من بعض أصوات البهائم أو الأطفال أو نداءات الٱباء علينا لقضاء غرض ما ..
فلم يلتحق من دوارنا بمدرسة المركز سوى ابن عمي وبعض أبناء الجيران ، ولو أن معظمهم غادروها ، إلا أن ابن عمي صمد ولا زال يدرس بها . لما بنيت مدرستنا الجديدة في موضع عند نهاية الطريق الواسع إلى دوارنا ابتهج السكان بها ،
واندفعوا لتسجيل أبنائهم للدراسة فيها حتى ينقدون ما يمكن انقاده من شبح الأمية .. ولا تتكرر المأساة السابقة .. هكذا كانوا يتحدثون فيما بينهم عن المدرسة ومزاياها وفوائدها . للوصول إلى مدرستنا الجديدة نتبع مسلكا ضيقا يقودنا إليها وينتهي عندها .. لينطلق من هناك طريق واسع مقارنة مع المسلك الذي نسلكه بين دوارنا ومدرستنا . فبالرغم من أن هذا الطريق الواسع مترب إلا أنه مهيأ لتسير فوقه العربات .. يستعمله أوحمو كثيرا ، فهو الوحيد في دوارنا الذي يملك مركبة ينقل بها السكان الذين تتوارى منازلهم نحو قمة الجبل وعلى السفح الشرقي منه ، إما للذهاب إلى السوق الموجود عند حدود بلدتنا ، وقد يذهب بهم حتى أسواق السهل البعيدة ، أو لقضاء مٱرب أخرى .. إنما يترك مركبته مركونة عند أحد معارفه يسكن قرب المدرسة الجديدة . فالمسلك إلى دوارنا لا تمر منه إلا الدواب.. لم أذهب أبدا إلى تلك المناطق البعيدة التي يسافر إليها أوحمو بسيارته ، فأنا لا زلت صغيرا ، يقول لي أبي هذا دائما . بينما سافر أخي الأكبر إلى هناك بصحبة أبي ، فهو قادر على تحمل أعباء التنقل والسفر .. لم يتلق أخي الأكبر تعليما ، فمدرسة المركز بعيدة عن منزلنا ، ولا يمكنه التسجيل في مدرستنا الجديدة لكبر سنه . يقول زميلي وابن عمي براهيم أن السهل لا يشبه الجبل .. وهو يشبه إلى حد ما أرضية مدرستنا المستوية إنما واسع جدا ويتجاوزها بكثير ..أنا لا أريد أن أشغل بالي بالسهل والجبل وماهيتهما ..
فأنا سأدرس كل هذه الأمور خلال السنة المقبلة في درس يسميه براهيم جغرافيا .. لا أريد أن أفكر بهذه الأشياء الٱن .. أنا أعرف أن معلومات براهيم كلها مستقاة مما يوحي له به أخوه الأكبر الذي يدرس بمدرسة المركز وهو في الصف الخامس ،
وسينتقل في السنة المقبلة إلى الثانوي الموجود بمدينة بعيدة عن دوارنا .. براهيم يعرف كثيرا من الأمور رغم أنه لم يسافر إلا مرات معدودات . أعرف أنه زار هو الٱخر المركز مرات ، ومرة ذهب إلى السوق الموجود في حدود بلدتنا وهذا أقصى ما وصل إليه خلال تنقلاته .. إنما يتوهم أنه يعرف أكثر مما أعرف ..
أنا لا أناقشه في معارفه . يكفي أننا سننتقل معا إلى المستوى الرابع ، وسنكون معا في مدرسة المركز الفسيحة .. حينما تم تسجيلنا لنتابع الدراسة في مدرستنا الجديدة ، أنا وبراهيم وعدد من الأطفال من دوارنا وبعض من أطفال الدوار المتوغل إلى أعلى نحو قمة الجبل ، وٱخرين من الدواوير الملتصقة بالسفح نحو الأسفل وتلك القريبة من المدرسة الجديدة ، لم نكن نذهب بمفردنا إلى مدرستنا خاصة في السنة الأولى ، بل كان يصطحبنا أبي أو عمي أو أحيانا أخي الأكبر ، أو أي رجل من الدوار يأخذ إبنه إلى المدرسة الجديدة أو يمر بجوارها ليمضي إلى وجهته ،
فكنا نستغل الفرصة ونرافقهم في الطريق إلى المدرسة ، فينقلوننا على ظهور البغال عادة .. إنما كنا نغبط كثيرا أطفال الدواوير القريبة من مدرستنا . هؤلاء محظوظون لأنهم يصلون إلى المدرسة قبلنا وبأقل جهد .. بينما تستغرق رحلتنا إلى المدرسة حوالي نصف ساعة بمشية طفولية سريعة وخلال الأوقات العادية .. أما في الفصل المطير حيث يصبح المسلك موحلا في بعض مقاطعه أو يختفي إثر سقوط الثلج بغزارة .. فإن المسافة إلى المدرسة تطول وكذلك مدة الرحلة .. بل أحيانا لا نغادر منازلنا حينما تشتد البرودة ويقطع سقوط الثلج كل المسلك نحو المدرسة .. مدرستنا الجديدة عبارة عن حجرة واسعة شيئا ما . شيدت على أرضية صلبة مستوية من الإسمنت والحجارة ، وركبت فوق هذا السطح المستوي أجزاء أسوار جاهزة بنوافذها ،
ووضع لها سطح جاهز هو الٱخر ومحدب ، تغطي جزءه الموجه نحو السماء صفيحة قصدير ثبتت مع سقف الحجرة المكون من صفائح الورق المقوى ، بواسطة براغي وألواح ومسامير معدة لهذا الغرض . تضم مدرستنا في جوفها ثلاثة صفوف من الطاولات ، لا تتعدى خمسة في كل صف ، ومنضدة وكرسي الأستاذ في الركن الأيسر . أما في الركن الأيمن القريب من المدخل فقد انتصبت خزانة لتصفف على رفوفها أشياء نحتاجها أو يحتاجها الأستاذ في عمله ،
وهي عبارة عن بضعة ألواح منتظمة على شكل رفوف .. نسميها خزانة القسم . بينما تحتل السبورة السوداء وسط الجدار أمامنا . في الجزء المتبقي من الحجرة وهو إلى الخلف من طاولاتنا ، يتكوم فيه فراش وأدوات الطبخ وملابس الأستاذ وكتبه ودفاترنا ، وخمسة او ستة طاولات لا تستعمل ، وضعت فوق بعضها البعض . هذا الجزء من الحجرة بمثابة مسكن خاص بالأستاذ .. فهو لا زال شابا ولم يتزوج بعد لتكون له زوجة وأبناء .. وربما يبني منزلا . إلتحق بالمدرسة منذ أن دشنت وافتتح بابها لتستقبلنا ، وبقي معنا إلى الٱن ..
نحن في السنة الثالثة .. أستاذنا نشيط جدا ويتحدث إلينا كثيرا ويحكي لنا حكايات . إنما في البداية لم أكن أفهم كثيرا مما يقوله ولا زملائي .. وهو أيضا لم يكن يعرف لغتنا وقتها .. لكنه أصبح اليوم يتحدث معنا بلغتنا ونحن نقبل على لغته بارتياح كبير . فهو يعلمنا ويدرسنا بلغته . بل أن كل دروسنا تكتب بلغته أيضا . في إحدى الحصص سأل الأستاذ ابن عمي براهيم عن أشياء حول درس القراءة فأجابه هذا الأخير بلغتنا .. لكن أستاذنا ضحك وصحح لابراهيم الخطأ ، وذكره بأننا في المدرسة علينا تعلم لغة التدريس .. فلم يرض براهيم بسخرية واستهزاء زملائه منه ،
فاستشاط غضبا وقال للأستاذ :
لماذا لا ندرس بلغتنا ونتجنب الوقوع في الأخطاء ؟ فما كان على أستاذنا إلا أن بين له ولنا جميعا أن التدريس هنا في المدرسة يتم باللغة العربية .. كما أن لغتنا تدرس في مدارس لتلاميذ يجهلونها ، فيحصل نوع من التبادل اللغوي بين التلاميذ .. فهدأ براهيم وفهم القصد من التعليم ومن مدرستنا الجديدة ومن وجود معلمنا النشيط معنا . لم يحافظ أستاذنا على لياقته وعلى أنشطته التي كان يمارسها في السنتين الماضيتين ، خاصة بعد حصص الدرس وخارج أيام العمل . فقد كان مولعا بتسلق سفوح الجبل والتنقل نحو المركز أحيانا ، أو نحو الدواوير إلى أسفل المدرسة . وكان لا يكف عن أخذ الصور لكل شيء تقع عليه عيناه . خاصة وأن بعض السكان القريبين من المدرسة يؤمنون له سقي الماء بما يكفيه لكل حاجياته .. بل منهم من يوفر له الخبز أيضا . وأحيانا يدعونه لمٱدبهم في مناسباتهم الاحتفالية . مما جعله يستفيد من وقته كاملا في التنزه ببلدتنا الجبلية ..
فهو يسكن في مدينة تقع في السهل .. هذا ما حكاه لنا في إحدى المناسبات . خلال هذه السنة ومنذ الدخول المدرسي الجديد ، لاحظنا أنا وبراهيم ابن عمي تراجع نشاط أستاذنا . حيث لم يعد يبرح حجرة الدرس إلا لماما .. بل أسدل لحيته الكثة السوداء ولم يعد يحكي لنا تلك الطرائف التي كانت تضحكنا ويتخذها أحيانا دروسا نتمرن على فهمها والحديث حولها .. فلم نره يتسلق السفح نحو قمة الجبل كما عادته .. ولا يأخذ الصور .. ربما أكتفى بما صور وجال في السابق . كان يشجعنا على الإكثار من التحرك بكل الطرق خاصة في فترة الإستراحة حيث كان يشاركنا اللعب وينظمنا على شكل صفوف ويعلمنا بعض الحركات الرياضية التي كان يقول عنها إنها تنشط الدورة الدموية وتجدد خلايا الجسم وتفتح عقولنا للتحصيل والفهم أكثر . فكنا نقبل عليها بنهم . صرنا الٱن وخلال هذه السنة نتحرك ونلعب ونعيد تلك الحركات لوحدنا ، ولا يشاركنا فيها إلا ناذرا . قال لي ابراهيم ونحن نتحدث عن حال أستاذنا الذي تغير ، إن أستاذنا يجهد نفسه كثيرا ، فهو يدرس ثلاث مستويات هذه السنة . كل صف خصصه لمستوى . هناك المستوى الأول في الصف الموجود أمام منضدته مباشرة ، والمستوى الثاني في الصف الأوسط ونحن في الصف المحادي للجهة الغربية من الحجرة أمام المدخل مباشرة حيث المستوى الثالث . يقسم أستاذنا السبورة تبعا لتعدد المستويات إلى ثلاث أقسام ، ويخصص كل قسم منها لمستوى دراسي معين .. هكذا شرح براهيم عمل أستاذنا . وهكذا لاحظته وفهمته أنا كذلك ..
فهو يعمل كثيرا ويرهق نفسه ويعنت في تعليمنا ، حيث عليه أن يجيب على أسئلة كل التلاميذ .. أضحى أستاذنا يعرف لغتنا مما يسهل عليه عمله وتواصله معنا ، خاصة مع تلاميذ المستوى الأول . ولو أننا نضحك أحيانا من تلعثمه عند النطق ببعض الكلمات أو عند تحويرها ، فنصحح له نطقه فيضحك معنا أيضا .. إنما هذه السنة قل ضحكه . فصرنا نحن كذلك لا نضحك كما كنا في السابق أيام كان أستاذنا نشيطا مسرورا . فحال أستاذنا أثناء عمله معنا كما لو أنه يستبق غروب الشمس خاصة أثناء حصص الزوال .. فيكثر من كلمة اكتبوا بسرعة .. انقلوا بسرعة .. هيا أسرعوا .. تنتهي الحصص الدراسية عادة حينما تسير الشمس بسرعة نحو المغيب . فعلو الجبل يقضم بضع ساعات من نهارنا فتسيح عتمة الليل قبل الأوان على السفح الشرقي الذي تلتصق به دواويرنا ومدرستنا الجديدة ، مقارنة مع السفح الغربي للجبل .
حيث يتأخر النهار أكثر هناك فيستفيد تلاميذ مدرسة المركز من التعلم أكثر مقارنة مع حالتنا .. سنكون أنا وبراهيم هناك في مدرسة المركز السنة المقبلة إن شاء الله ، وسندرس ونتعلم أكثر . تزيد الوضعية حدة أثناء نهاية فصل الخريف وطيلة فصل الشتاء .. لاحظ أبي وعمي ، أب براهيم ، وهما يتحدثان ذات أمسية أمام منزلنا ، أن فصل الشتاء هذا العام أقسى من الأعوام السابقة . حيث سبقته شدة البرودة التي حلت باكرا بكل الأماكن ، وصرنا نوقد النار أكثر من ذي قبل .. هكذا كانا يتحدثان وهما يصفان فصل الشتاء لهذا العام .. وقد تذكرت أستاذنا الذي طلب من بعض سكان الدواوير القريبة من المدرسة تزويده بالحطب اللازم لمواجهة قساوة البرد وشدته. لا أخفي عليكم أننا في فصل الشتاء نعاني كثيرا في تنقلنا إلى مدرستنا خاصة بعد سقوط المطر أو الثلج فنتوقف عن الذهاب إلى مدرستنا حتى يخف نزول المطر ويتوقف سقوط الثلج .. بعد عطلة قسرية هذه السنة دامت بضعة أيام ، استأنفنا الدراسة .. وفي الطريق وكما عادتنا أنا وبراهيم نتحدث عن كل شيء .. عن الدروس عن اللعب عن أشياء نسمعها من الكبار أو أخبار تأتينا من المركز . ونسير في طريقنا أثناء حديثنا ونحن ننظر أمامنا حسب توصيات أهلنا . فالمسلك يصير خطيرا أثناء فصل الشتاء ، وحتى لا نحيد عن المسلك الذي نتبعه فتهوى بنا الأحجار أو التراب أو الوحل إلى الحافة فنسقط وقد نتدحرج نحو أسفل السفح ، نركز بنظرنا في الأماكن التي نضع عليها أقدامنا .. لما وصلنا إلى مدرستنا ألفينا كل التلاميذ خارجها متجمهرين في المكان المتسع من الطريق الذي نستغله كساحة للعب أثناء حصة الإستراحة ، مختلطين مع بعض الٱباء من السكان المجاورين للمدرسة .. وجميعهم صامتون لا يتكلمون إلا همسا . لم نفهم لماذا لم نلتحق بالحجرة رغم حلول ساعة الدرس ، ولماذا لا زال بابها موصدا .. فبدأ فضولنا يزداد ويتقوى ونحن نبحث عن السبب ؟
فأجابنا زميلنا الذي يقطن بالقرب من المدرسة بصوت منكسر تعلوه بحة حزينة .. أن : أستاذناغ اموت اترحم ربي !!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top